الفلسفة تستحيل الإقلاع عن التفكير في أصل كل شيء إعداد زياد حسن
المعرفة كائنٌ مقدس، ولا يختلف الآدميون -رغم أختلاف مقدساتهم وأعراقهم ومذاهبهم- حول
عظمة ورفعة وقداسة هذا الكائن. نعم يقدس البشر المعرفة على أختلاف مستوياتهم، بل حتى
أبعد الناس عن المعرفة لا يستصغر ولا يتجاهل المعرفة بما هي معرفة، إذ ان حب المعرفة
وجلالها لا ينشأ فقط جراء كونها افضل وسائل الحياة، وجراء ما تقدمه من امكانات للإنسان في
صراعه الحياتي، وما تقدمه من طاقات تتيح لبني البشر تسخير الطبيعة والسيطرة عليها، اذ لو
كان الأمر كذلك لنظر الأنسان الى المعرفة نظرته الى أي أداة علميّة اخرى. أن تاريخ العلم
يسجل لنا اقتران الحرمان والمتاعب والصعاب بمسيرة هذا الكائن، فيتحملها الباحثون وتتحول
معها حياتهم المادية علقماً. فلو كان ارتباط الإنسان بالعلم مقصوراً على استخدامه اداة لإشباع
حاجات الحياة الأنسانية الماديّة فماذا يعني كل هذا الإعراض عن ملذات الحياة ومباهجها وإيثار
المسير على طريق العلم والمعرفة؟ إن الصلة بين المعرفة والروح الإنساني أرفع من كل
الصلات والارتباطات، وأجل من ان تقاس بالمادة التي تبدوا للوهلة الأولى هدفاً. وكلما كانت
المعرفة أكثر يقيناً، واوقع قشعاً لضباب الشك والجهل والريبة، وكلما كانت أعم وأشمل في
هتك الحجب كانت اكثر أهميّة، وكان الآدمي أكثر الحاحاً في طلبها. هناك إبهامات يتطلع
الإنسان الى إماطة اللثام عنها، وتحتل اشكاليات نظام الكون وسر الوجود المركز الأول من
حيث الاهميّة بين هذه التطلعات. إن الإنسان -سواءً أتوفر على امكانية الحصول ام لا- عاجز من
الاقلاع عن التفكير في اصل الخلق ومصيره ومبدأ الوجود وغايته، وفي الحدوث والقدم ،
وفي الوحدة والكثرة، وفي المتناهي واللامتناهي، وفي العلة والمعلول، وفي الواجب
والممكن.... وهذا النزوع الفطري لاثارة البحث حول هذه المواضيع هو الذي صنع لبني البشر
"الفلسفة". تحيل الفلسفة هرم الوجود من قمته حتى قاعدته ميداناً لحركة الفكر البشري،
فتحمل العقل والفكر الانساني على جناحيها، وتتجه بهِ محلقة الى عوالمٍ يمثل السفر اليها
نهاية آمال الانسان وجذوة شوقه. الجزء الأول