صفحة 8 من 11 الأولىالأولى ... 67 8910 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 71 إلى 80 من 104
الموضوع:

رواية فلتغفري .."للـكاتبة أثير عبد الله - الصفحة 8

الزوار من محركات البحث: 9210 المشاهدات : 39083 الردود: 103
جميع روابطنا، مشاركاتنا، صورنا متاحة للزوار دون الحاجة إلى التسجيل ، الابلاغ عن انتهاك - Report a violation
  1. #71
    من المشرفين القدامى
    جيل الطيبين
    تاريخ التسجيل: October-2014
    الدولة: Iraq
    الجنس: أنثى
    المشاركات: 15,523 المواضيع: 479
    صوتيات: 7 سوالف عراقية: 2
    التقييم: 7035
    المهنة: صيدلانية
    موبايلي: iphone 8 plus& note5& iphone 7
    آخر نشاط: 12/August/2022
    مقالات المدونة: 8
    سافرتِ قبلي إلى الرياض ، أردتِ أن تطرحي موضوع ارتباطنا مع

    أهلكِ أولاً ،كنتِ مختلفة الأيام الأخيرة قبل سفرك ، ففي كل مرة

    نتناقش فيها بخصوص الموضوع ، كنت أرى سحابة من التردد تبرق

    في عينيكِ ، كانت هناك لحظات من التراجع الخفي تنتابكِ وتجتاحكِ ،

    وإن حاولتِ مقاومتها .



    طلبتِ مني أن أتحفظ على موضوع زواجي من ياسمين وأن لا أتطرق

    إليه معهم مهما حصل ، قلتِ بأن عائلتكِ لن تسمح لكِ بالزواج من رجل

    سبق له الارتباط مهما كان نوع هذا الارتباط ومهما كانت أسبابه .



    في حديثكِ عن الموضوع لم تسمي ياسمين و لم تسمي العلاقة ،

    قلتِ باقتضاب : لا داعي لأن يعرف أهلي بما فعلت يا عزيز .



    سألتكِ : أي فعل هذا ؟


    قلتِ وأنتِ تشيرين بيدكِ بنفاذ صبر واشمئزاز : حكاية مونتريال تلك .


    كان من الواضح أنكِ لا تريدين مناقشة الموضوع معي و لا تسمية

    الأفعال والأشخاص والأشياء المرتبطة بهذا الموضوع ، فعلياً أنتِ لم

    تفتحي هذا الموضوع منذ أن استعدنا علاقتنا ، لم تسأليني عن شيء

    يتعلق به على الرغم من أنك امرأة سؤال ! ، امرأة فضولية تسأل عن

    أدق التفاصيل عن أتفه الأشياء .



    كنت أدرك أنتلك التفاصيل كانت لتؤلمكِ كثيراً ، لذا اخترت طوعاً أن

    لا تسألي عنها ، وأن تبقى مجهولة بالنسبة إليكِ وباختياركِ ، فالحقيقة

    قبيحة غالباً وأنتِ لم تعودي ترغبين إلا برؤية الجمال في علاقتنا .



    قلت لك إنني لم أكن لأخبرهم بلا شك ، مثلما لن أخبر عائلتي بذلك ،

    قلت : هو أمر سخيف على كل حال ، مضى وانتهى

    ولا يستحق الذكر .



    رمقتني بنظرة حقد لا تليق بك ، كنتِ دائماً ما تنظرين إلي بعتب ،

    كنت أرى العتب في عينيكِ في كل مرة أقسو عليك فيها ، لكنني رأيت

    الحقد في عينيكِ جلياً هذه المرة وإن لم تفصحي .



    كنت مختلفة جداً يا جمانة ، شيء فيك لم يعد كما كان ! أعرف بأن

    (( الحقد )) هو أبسط حقوقكِ بعد كل ما حدث ، لكنني لم أتخيل أن

    تجديه يوماً ، امرأة مثلكِ لا تعرف أبجديات الحقد فكيف تثبته إلي بكل

    مرة هذه المباشرة حتى وإن كان عن طريق النظر !



    أوصلتكِ إلى المطار ، أمسكتِ معطفي بيديكِ حينما أعلن عن قرب

    لإقلاع طائرتك ، قلتِ بشيء من الشك والخوف : أتظن بأن

    الأمور ستجري على ما يرام ؟



    -أظن ذلك.


    -وعد ؟


    قلت مطمئناً : أعدكِ يا جمان ، أعدك !


    تركتكِ تلحقين بطائرتكِ مطمئنة بوعدي ، أخذت أرقبكِ وأنتِ تبتعدين

    وسط الزحام ، كنتِ تلتفتين بين الحين والحين ، وكأن وجودي خلفك

    يضمن الوفاء بوعدي ، كنت ألوح لكِ كلما التفتِ وأنا أفكر ،

    ماذا سيخبئ لنا القدر في قادم الأيام وفي تلك البقعة البعيدة ؟!

    فكرت كيف ستكون عودتكِ إلى هنا ، هل ستعودين وحدكِ أم سنعود

    معاً على متن طائرة واحدة ؟وبأي صفة سنعود ؟



    أخذت أبحث في سيارتي عن قرص للأغاني سجلت فيه منذ سنتين

    أغنية طلال مداح (( ما أوعدك )) بصوتي ، جدت القرص بعد بحث ،

    أدرته في طريقي إلى البيت ، أخذت أفكر وأنا أستمع إليه ، كم كنت

    أظن أن صوت طلال مداح بائساً ومحبطاً هو يغني هذه الأغنية ، لكنني

    اليوم أدركت بأن صوتي وأنا أغنيها أكثر بؤساً وإحباطاً ،

    كان صوتاً معبراً عن اليأس :



    ما أوعدك من يضمن ظروف الزمان
    لا تصدقي من قال للدنيا أمان
    ميعادنا خليه في كف الظروف
    لا تحرجيني بالزمان وبالمكان


    أخذت أردد في نفسي : من يضمن ظروف الزمان يا جمانة ؟ ،

    من يضمن ظروف الزمان ؟!


    ***

  2. #72
    من المشرفين القدامى
    جيل الطيبين
    اتصلت بي حينما وصلتِ إلى لندن ، كنتِ بانتظار رحلتكِ التالية إلى

    الرياض ، قلتِ لي بأنكِ تفكرين جدياً بالهرب ، قلتِ بسخرية :

    العروس الهاربة !



    كنتِ تحبين فيلم جوليا روبرتس ذاك ، ضحكتِ : أنا خائفة جداً !


    -لاشيء يخيف ، المهم أن تختاري الوقت المناسب لمناقشة الموضوع

    ، صدقيني كل شيء سيكون على ما يرام .



    همستِ : إن شاء الله .


    -بمناسبة الحديث عن الهرب ، ألا تلاحظين أن أمنية الهرب هذه

    تراودكِ منذ مدة ؟



    -طبيعي ، الهرب حلم كل فتاة سعودية ، بسبب ومن دون سبب .


    ضحكت : هذا حلم المقموعات ، لا يليق بكِ حلم كهذا .


    قلتِ بخيبة : ليتنا نستطيع الهرب من أقدارنا .


    دستِ كلمتكِ المخذولة تلك في قلبي ، وركبتِ طائرتكِ متوجهة إلى

    الرياض ، اتصلتِ بي بعد وصولكِ بساعات ، باغتتكِ عائلتكِ في المطار

    فلم تتمكني من أن تسرقي لحظات تحادثينني فيها ، كانت مكالمتكِ

    تلك سريعة ، هامسة ومسروقة ككل مكالمات الوطن ، وعدتني أن

    تتصلي بي بعد ساعة أو ساعتين ، لكنكِ لم تفعلي ، تأخرتِ كثيراً

    فاتصلت بكِ .



    أجبتني بصوت مخنوق يرتجف بكاء : لا شيء ، سأتصل بك لاحقاً .


    صحت فيكِ : لن أنهي الاتصال ، تحدثي معي ، أخبريني بالأمر ؟


    قلتِ وأنتِ تشهقين : لا شيء لكنني أجلس مع أمي الآن .


    قلتِ كلمتكِ هذه لتخبريني بطريقة غير مباشرة أنكِ قد تكلمتِ مع أمكِ

    بشأني ، أحبطت كثيراً لأنكِ تحدثتِ معها بهذه السرعة ، ومن دون أن

    تمهدي الموضوع إليها ، كنت في موقف سخيف مع والدتكِ أصلاً ،

    وإنهائي المكالمة معكِ بعدما عرفت أنها بجواركِ سيعزز صورتي

    كمراهق في عينيها ، لذا قررت أن أواجه الموقف كرجل واثق وناضج .



    سألتكِ : أهي بجوارك؟


    -نعم .

    أعطها هاتفك،أريد أن أكلمها .



    قلتِ بدهشة : لماذا ؟


    -سأتحدث معها .


    همستِ : لا داعي لذلك .


    قلت لكِ : جمان ، لا تخشي شيئاً ، سأحل الموضوع معها ، لا تقلقي .


    سمعت صوتكِ وأنتِ تقولين لها : يريد أن يتحدث معكِ !


    قالت أمكِ بصوتها الوقور : أهلاً .


    -مساء الخير ياخالة ، كيف حالك ؟


    -بخير ، كيف حالك أنت ؟


    -أنا بخير الحمد الله منذ فترة وأنا أود الحديث معكِ يا خالة ،هو يوم

    مبارك الذي استطعت أن أتكلم معكِ فيه .



    قالت : عبد العزيز ، اتصل على هاتفي بعد خمس دقائق رجاءً ،

    أعتقد أنك تعرف رقمي .



    قالت جملتها بتهكم ، كان من الواضح أنها لا تريدك أن تسمعي

    ما سيدور بيننا ، أو أنها تنوي أن تسمعني ما لا تريدكِ أسماعه ،

    قلت لها : حاضر ، سأتصل بعد خمس دقائق ، تأمرين أمراً يا خالة !



    كانت أطول خمس دقائق في حياتي كلها ! حاولت أن أرتب فيها

    أفكاري وما سأقوله لأمك ، لكنني لم أكن أعرف ما سأقوله ! ، فكرت

    فيما سأرد عليها لو لامتني على مكالمتي لها بل أشهر ، وكيف

    سأدافع عن نفسي أمامها ، فكرت فيما لو قالت لي بأنني لا أنفع لكِ

    زوجاً ولو طلبت مني أن أبتعد عنكِ ، فكرت فيما لو شتمتني ،

    لو هددتني ، لو أخطأت علي بحديثها ! فكرت بأسئلة كثيرة بلا إجابات ،

    خشيت أن أتأخر عليها ، فتزداد غضباً ، فاتصلت بها بلا خطة و لا فكرة .



    سألتني بعدما سلمت عليها : كيف حال والديك ؟


    أجبتها : بخير الحمد الله ، سيسعدان كثيراً بلقائكم قريباً يإذن الله .


    رميت الكرة في ملعب أمك سريعاً ، لم أرغب بمراوغتها لا إتلاف

    أعصابي في أمر كهذا ، يبدو أن هذا أراحها كثيراً ووفر عليها عناء

    المجاملة ، قالت : بإذن الله ، لكن أمور الزواج لا تحسم بهذه السرعة

    يا عبد العزيز ، لا بد أن يفكر الإنسان ألف مرة ومرة قبل الإقدام

    على خض أمر أبدي كهذا .



    -حتماً يا خالة ، لا تظني أن رجلاً بعمري لم يفكر ملياً قبل الإقدام على

    خطوة كهذه .



    -على فكرة يا عبد العزيز ، أنت في منتصف الثلاثينات ، ابن عائلة

    معروفة ، مرتاح مادياً ومتعلم ، لماذا لم تتزوج حتى الآن ؟



    كانت أمكِ مباشرة جداً ، ولم يكن من الحكمة مخادعها أو التذاكي

    عليها ، لكنني أجبت :لأنني لم ألتقِ جمانة قبلاً ،وحينما جدتها

    نويت الزواج منها .



    -ومالذي يوجد في جمانة برأيك و لا يجد في غيرها ؟


    -ألا يكفي أنني أحبها لسنوات ؟


    -وهل تعتقد أن الحب كل شيء ؟ الحب وحده لا يضمن زواجاً ناجحاً .


    -قطعاً ه لا يضمن نجاح الزواج ، لكنه إحدى ركائزه ، والركائز الأخرى

    موجودة في علاقتنا ، نحن متكافئان اجتماعياً وعلمياً وثقافياً ،

    متفاهمان على أهم الأشياء ، ولدينا اهتمامات مشتركة تصور مشترك

    عن الحياة بعد الزواج ، فلماذا لا ينجح زواجنا ؟



    -المعذرة يا عبد العزيز ، ولكن هناك أموراً كثيرة تقتلني تجاه هذا الزواج

    ، فارق العمر بينكما ليس بسيطاً ، عشر سنوات كاملة تفصل بينكما ،

    عزوفك عن الزواج طال العمر على الرغم من أنك تعيش في الغربة

    منذ سنوات هو أمر مقلق كذلك ، والسبب الأهم من كل هذه الأسباب

    وتصرفك الذي قمت بي تجاه جمانة ، مكالمتك تلك تنم عن طيش

    لا يليق بعمرك و لا بمستواك التعليمي و لا بأخلاق عائلتك ، بالإضافة

    إلى أن تصرفك لم يكن يحمل من النبل والشهامة شيئاً ، كدت أن

    تنهي مستقبل الفتاة بمكالمتك تلك لو لا تعقلي ومعرفتي الجيدة

    بابنتي .



    لم أعرف بماذا أرد على أمك ، لا أعرف كيف لم أفكر في يوم كهذا قبل

    أن أتصل بها قبل أشهر ! أظن أن الغيرة أفقدتني صوابي يومذاك ،

    فحينما نوشك على إنهاء علاقتنا بمن نحب لا نفكر بالعواقب أبداً ،

    نشتاط غيرة وغضباً فنشوه كل ما يربطنا به من دون أن نفكر في

    عواقب ذلك الغضب ، حينما نغضب نشعر ، أن النهاية حانت ، لذا نفقد

    توازننا وتتساوى الأشياء لدينا و لا نكترث لما قد نفعله ونفقده بعد ذلك

    ، من دون أن يطرأ في أذهاننا لو للحظات احتمالية الاستمرارية

    أو العودة يوماً .



    لم أفكر في يوم كهذا ، ولم أتوقع عودة المياه إلى مجاريها ، لذا وقفت

    عارياً أمام أمكِ إلا من خطيئتي الفادحة ، لم يكن هناك شيء سيبرر

    فعلتي لديها ، ولم تكن المكابرة ستجدي نفعاً ، لذا قلت لها مقراً :

    معكِ حق يا خالة ، كان جرماً عظيماً و لا أعرف كيف أقدمت عليه .



    -من يعمه الغضب بهذا الشكل ، شخص يفتقد الحلم والحكمة ، هذا قد

    ينبىء أحياناً بشخص انفعالي وعصبي وربما عنيف ، وهذا ما لن أقبل

    به ولن أقبل بتوريط ابنتي فيه .



    -أتفهم مخاوفك ، لو كانت ابنتي لفكرت بذلك أيضاً ، و لا شيء سيبرر

    ما قمت به ، لكنني لست كما تظنين ، هذا ليش من طباعي

    و ما فعلته ليس من عادتي ، أنا أعرف جمانة منذ أربع سنوات ، ولم

    أقدم يوماً على مسها أو إيذائها وبإمكانكِ أن تسأليها عن ذلك .



    -عين الحب ضريرة يا عبد العزيز .


    -جمانة ليست بعمياء يا خالة ، جمانة حساسة البصر البصيرة ،

    وتستطيع أن تفرق تميز بين السيء والجيد صدقيني ، لو كانت عابثاً

    لما استمررت معها في علاقة لمدة أربع سنوات .



    -ولماذا لم تتقدم بخطبتها قبلاً ؟ لماذا بعد أربع سنوات ؟


    كان سؤال أمكِ صعباً هذه المرة ، كنت أعرف أنني سأفشل بالإجابة

    مهما كانت ، فأنا لم أفكر في سؤال كهذا ، لم أتوقعه منها لذا لم يكن

    في أرشيف إجاباتي إجابة شافية عليه ، صمت قليلاً قلت أنا أبتلع

    ريقي : لأنني لم أكن مستعداً للزواج .



    -لم تكن مستعداً لماذا بالضبط ؟ من الواضح أنك جاهز للزواج من نواحٍ

    مادية اجتماعية عمرية ، فما الذي كان ينقصك لتقدم عليه ما دمت

    تحب جمانة منذ سنوات ؟



    شعرت بأنني لن أقدر على مبارزة أمك أكثر ،فكرت في أن أسلم إليها

    كل أسلحتي أن ألجأ معها إلى التفاوض ، قلت : لم أكن جاهزاً نفسياً

    عاطفياً للزواج ، كنت بحاجة لأن أتأكد من مشاعري ، فكلما تأخر

    الشاب عن الزواج أصبح قرار الزواج صعباً عليه .



    -وهل يستغرق التأكد من المشاعر أربع سنوات كاملة ؟


    -لم أكن مستعجلاً لم تكن جمانة مستعجلة كذلك .


    - وما رأي أهلك في هذا الزواج ؟


    -هم يباركونه بلا شك ، وإلا كيف سأتقدم لخطبتها ؟

    -أيعرفون عن علاقتكما ؟



    فكرت في أن أخبرها أن والدي يعرف، لكنني خشيت أن يزعجها الأمر

    فقلت : لا ، لا أحد يعرف ، يعرفون أنها زميلة في الجامعة فقط .



    -أمتأكد أنت من ذلك ؟ أهلك لمن يعاملوا ابنتي بطريقة تليق بها إن

    عرفوا أن حكاية حب كانت بينكما ، أنت تعرف أن مجتمعنا محافظ

    لا ينظر إلى الحب كما تنظر له أنت وجمانة وكما أنظر إليه أنا !



    شعرت بأعصابي تتنهد بعد جملتها الأخيرة ، أحسست وكأنها تقول من

    خلالها بأنها تبارك الحب لكنها تخشى علينا

    من نظرة الآخرين القاصرة له .

    قلت : لا تقلقي يا خالة ، أنا لن أسمح بأن يمس جمانة أي شيء أو أن

    يحرجها أحد هذا وعد .



    -انتبه يا عبد العزيز ،أنا لن أسمح بأن ينتقص أحد من قدر ابنتي ومن

    مكانتها ، كما أعرف جيداً أن والدها لن يقبل بأن تتزوج بهذا الشكل ،

    أنت لا تعرف مكانة جمانة عند والدها لا تعرف كم يحبها ، والدها لن

    يرضى برجل ماطل في علاقة معها لأربع سنوات حتى يتأكد من

    مشاعره تجاهها ، إخوتها لن يقبلوا بذلك .



    -أفهم ذلك وأقدره .


    -أنت شاب وتعرف كم يغار الشباب على أخواتهم ، وتعرف ماذا قد

    يحدث لو عرف أحد منهم بأن أحداً ما مس أختهم بقصد أو من

    دون قصد .



    -مفهوم مفهوم .


    سكتت قليلاً وقالت بهدوء : الله يكتب اللي فيه الخير ، لما تتقدم

    رسمياً بيكون لنا كلام طويل بإذن الله .



    -بإذن الله .


    صمتت أمكِ فاسترسلت : أتمنى أن لا يؤثر ما يحدث على علاقتكما

    أنتِ وجمانة يا خالة ، جمانة تحبكِ كثيراً غضبكِ منها منها سيدخلها في

    دوامة كبيرة لا أظن بأنها تستحق أن تدخل فيها ، هي سعيدة بعودتها

    إليكم وتستحق أن تستمتع بهذه العودة وأن تهنأ بكل لحظة تقضيها

    معكم ،وأنا متأكد أنكِ افتقدتِ وجودها كثيراً ، كلاكما يستحق أن يسعد

    بوجود الآخر حوله ومعه .



    قالت أمكِ باقتضاب محاولة واضحة لإنهاء الحوار : طبعاً ، هي ابنتي

    لن يفرق بيني بينها إلا الموت .



    -أطال الله في عمرك يا خالة ، لدي طلب إذا سمحتِ .


    -تفضل .


    -هل بإمكاني أن أتصل بجمانة الآن ؟


    -سأتحدث معها أولاً من ثم سأدعها تتصل بك .


    كان من الواضح أن أمك تدركك أننا سنتصل ببعضنا ، شاءت أم أبت !

    لذا وافقت على مكالمتي إياكِ ، لم ترغب بخسارة موقفها كمسيطرة

    وكملمة بما يحصل ، أرادت أن تدور المواضيع بمتابعتها بعلمها بدلاً من

    أن تحاك أمورنا في الخفاء ، كان ذكاءً من أمك بلا شك ، كنت أعرف أن

    امرأة حكيمة وذكية مثلها ستتخذ هذا الموقف برجاحة عقل وتروّ ،

    لذا استأذنت منها في مكالمتكِ ، أردت أن أمنحها دور المتحكمة بالأمور

    لأعفيها من الوقوع في حرج أن تكون مجبرة مغصوبة .



    أتاني صوتكِ بعد نصف ساعة من الانتظار ، جاءني مهموماً ، ممتلئاً

    بالتوجس والخوف ، سألتني فيما تحدثنا به طوال هذا الوقت ، أخبرتكِ

    بما دار بيننا وبأن والدتكِ دست لي بعض التهديدات في حديثها ، قلتِ

    بحروف باكية : هذا ليس عدلاً ! ليس بعد كل ما مررنا به .



    كنتِ غاضبة من القدر الذي كان واضحاً أنه لن يتساهل كثيراً في

    موضوع زواجنا ، طلبت منكِ أن تثقي بي وأن تدعي الأمور تسلك

    دروبها التي قدر لها أن تسلكها ، تركتكِ تنامين أنتِ ترجفين كعصفورة

    تحتضر ، تمنيت لو كنت بجواركِ ، كم أمقت الأيام التي تسافرين فيها

    بعيداً عني !


    ***

  3. #73
    من المشرفين القدامى
    جيل الطيبين

  4. #74
    من المشرفين القدامى
    جيل الطيبين
    لم يزد موت جدي كآبة الرياض إلا كآبة !


    حينما فتحت أبواب الخروج من المطار في وجهي ، قلت في نفسي

    وأنا أخط أول خطوة إلى الرياض (( اللهم أكفينها بما شئت )) قلتها

    بقلب مقبوض وروح تزفر خوفاً .



    في كل مرة أعود إلى الرياض ، أشعر بأن حبلاً من خيش يحيط بعنقي

    ، يضيق عليّ الخناق كلما قضيت يوماً فيها ، وكأنهم يشترطون على

    زوارها في المطار أن لا يخرجوا منه إليها إلا بهذا الحبل الذي لا يرفع

    عنهم إلا بخروجهم منها .



    لا أعرف حقيقة لماذا بتّ أكره هذه المدينة إلى هذه الدرجة ! أدرك

    تماماً بأنني قد رحلت عنها مستاءً منها وزاهداً فيها ، لكن مشاعري

    تجاهها تزداد حدة في كل يوم أقضيه بعيداً عنها .



    هذه المدينة أم تعيسة ، تبث التعاسة في قلوب أبنائها رغماً عنها ومن

    دون أن تقصد ذلك ، هي امرأة عليلة بالكآبة أعدت أهلها ونقلت لهم

    فايروسها الكئيب ليقضوا حيواتهم فيها بأرواح متهالكة وأحلام تقليدية

    ، بسيطة ومتواضعة .



    لم أخبر عائلتي عن موعد رحلتي هذه المرة ، قررت أن أجيء فجأة ،

    عل المفاجأة تسعدني قبل أن تسعدهم !



    أشعر أحياناً بأن المفاجأت خلقت لتسعد المفاجئين وليس المتفاجئين

    ، هم يعدونها أحياناً من أجل أنفسهم ، من أجل أن ينتشوا بردة فعل

    المتفاجئ ، حتى في المفاجأت هناك قدر بسيط من الأنانية والرغبة

    في إسعاد الذات ، وبما أنني أناني بفطرتي أردت أن أسعد ذاتي

    بمفاجأتهم لأول مرة .



    حملتني سيارة أجرة من المطار إلى البيت ، كانت الساعة تقارب

    التاسعة والنصف مساءً ... إن لم تنقطع عادت أهلي لم تتغير فهم الآن

    يجلسون معاً قبل موعد العشاء بساعة ، عادة ما يعاقب المتخلف عن

    موعد العشاء ، لذا لا يتأخر أحد منهم عن الموعد إلا وليد ،

    حيث يجز للشباب في وطني خرق قوانين المنزل أحياناً .



    أخرجت مفتاح البيت من حقيبتي الكبيرة في المطار ، كنت أتحسسه

    طوال الطريق وأنا أفكر ، لما أشعر بكل هذا الضيق وأنا في ووطني ،

    متوجه إلى بيتي حيث أمي وأبي شقيقاتي وشقيقي الذين لم أرهم

    منذ أكثر من عام .! كيف لا يتق المرء لرؤية أهله ؟ الحقيقة أنني

    متشوق لرؤيتهم ، لكن ليس كما يجب عليّ أن أكون ،

    ليس كما ينبغي !



    كنت أتأكل الرياض في طريقي إلى البيت ، تبد وكأنني قد تركتها ليلة

    الأمس ، هذه المدينة تعود إليها لتجدها مثلما كانت ، بالملامح ذاتها

    والرائحة ذاتها وكذلك الزينة .



    تغير ففي الرياض كل شيء لم يتغير ففيها شيء حينما سافرت إلى

    كندا لأل مرة ، لم يكن متزوجاً من أخواتي سوى عهود ، شقيقتي

    الكبرى التي تزوجت قبل سفري بأشهر ، كانت مها مخطوبة ، واليوم

    أعود بعد عشر سنوات لأجد عهد ومها ومشاعل أمهات لما مجموعه

    (( عشرة أطفال )) ، أي بمعدل طفل واحد مقابل كل سنة غبت عنهن

    فيها ، وكأنهن كن يعوضن غيابي بالإنجاب !



    أعود اليوم إلى البيت لأجد شقيقتي الصغيرتين هديل لينا اللتين

    تركتهما ووهما طفلتان ، شابتين يافعتين تدرسان في المرحلة

    الجامعية ، فهاتان الفتاتان اللتان كنت أزورهما كل عام وأحياناً كل

    عامين ليذهلني نموهما السريع وتغيرهما عاماً بعد العام ،أجلس

    معهما في كل زيارة وكأنني أجلس مع قريبات لي ، لا أشعر بحميمية

    الأخوة تجاههما ، ربما لأنهما كبرتا بعيداً عني ربما لأنني لا أعرفهما

    مثلما يجب على الأخ معرفة أخواته .



    شعرت بالغثيان حينما وقفت أمام باب منزلنا ، أصل إلى مرحلة الغثيان

    حينما تتعالى وتيرة توتري ، كان قلبي يخفق كفرس تركض جامحة

    ،لم أكن متأكداًً من أهلي لم يغيروا مفاتيح البوابة البيت ، لكن الباب

    فتح حالما أدرت المفتاح ، لأنها الرياض التي لا يتغير فيها شيء !



    كانت أضواء الفيلا مفتوحة ، صوت مذيع الأخبار يقرأ النشرة بصوت عال

    للغاية ، صعدت الدرج بنفس متقطع لأجدد أمي وأبي وهديل لينا على

    طاولة الطعام يتناولون عشاهم ، لاشك أنهم ظنوا أن صوت خطواتي

    صادر من إحدى الخادمات أو من وليد ، قلت : السلام عليكم !



    شهقت أمي ، وسمعت صوت هديل ولينا وهما تصرخان ، بينما لم تكن

    عيناي ترى في ذلك الوقت إلا ملامح أبي ، برأسه الحاسر ملامحه

    التي بدأت تشيخ ، شعرت بلينا وهديل وهما تتعلقان بعنقي وبأمي

    تحتضنني وتشهق بكاءً وهي تحمد الله كثيراً ، وقف أبي بعينين

    مختلفتين ، رأيت فيهما عينيّ جدي !



    في كل مرة كان يستقبلني والدي فيها في المطار مع أمي وأخواتي ،

    كنت أقبل رأسه ويده ما إن أره ليسلم علي بعدها وكأنني لم أغب

    عنه إلا أياماً قليلة ، هكذا كنا نستقبل ونودع بعضنا بعضاً في كل عام ،

    لكنني لم أشعر بنفسي إلا وأنا أندفع إليه هذه المرة ن ضممته إلي ،

    بقامته القارعة ونحول الكهولة بدأ يشكل جسده بهيئة جديدة

    لم أعتدها .



    كنت مشتاقاً إلى جدي ! ، لم أظن بأنني سأعود إلى الرياض من دون

    أن أعرج إليه بعد وصولي إلى المطار ، كنت بحاجة لرائحة دهن عوده

    التي كانت بالنسبة إلي (( رائحة الرياض )) .



    لا أعرف كيف مات جدي من دون أن أكون حاضراً مع والي ، من دون

    أن أسنده في جنازة أبيه وأبي ن من دون أن أواسيه وأعزيه

    وأن أخفف عليه مصيبته ، وأن يخفف علي مصيبتي .



    احتضنت أبي بقدر ما كنت آسفاً ومتألماً ومجروحاً ومشتاقاً لجدي،

    احتضنته بقدر ما كابرت طوال الفترة الماضية ، أسندت جبهتي إلى

    كتفه ، تعلقت به كطفل صغير وبكيت كل الأشياء التي فاتتني.



    قال بصوته العميق وهو يضع يده على رأسي : الحمد الله على

    السلامة ، حيا الله ولدي !



    حينئذ رفعت رأسي من على كتفه ،كانت عيناه ممتلئتين بدمع لم يبرح

    عينيه ، قلت : الله يسلمك يبه !



    كانت أمي وهديل ولينا يقفن من حولنا ، كانت أعيننا دامعة جميعاً ،

    هن فرحاً وسعادة وتأثراً ببكائي وبكاء والدي ، وأنا وهو لأسباب

    لا نقدر أن نعبر عنها .



    دعاني أبي لمشاركتهم العشاء الذي لم يتناول أحد منهم شيئاً منه

    بعد مجيئي ، جلست بجوار أمي التي كانت تحمد الله طوال الوقت

    على سلامتي وعلى رؤيتي ، سألني والدي عن سبب عدم إبلاغهم

    بموعد وصولي ، أخبرني بأنها كانت مفاجأة جميلة لم يتوقعها

    أحد منهم ، تحدثت الفتاتان عن تغير شكلي خلال عام واحد ، قالتا

    إنني ازددت وزناً فغدوت أكثر وسامة ، واسترسلتا في أحاديث أنثوية

    طويلة .



    قطع حديثهما والدي : فلتذهب لتنام الآن ، لا بد من أنك متعب من

    السفر ، لن تنام أبداً إن استمررت في الحديث معهما ، أحاديثهما

    لا تنتهي .



    قلت بسخرية ممازحاً لينا وهديل : واضح ، ساعتين وصدعوا رأسي .


    قال أبي ممازحاً : أنا قايل لأمك ، إن ما تركن كثر الحكي ، بنزوجهن

    ونفتك منهن الثنتين .



    علت أصوات هديل ولينا متعرضات على فكرة الزواج ، أما أنا فاستأذنت

    لأرتاح ، كانت غرفتي مغلقة وممتلئة بالغبار حيث لم تتوقع أمي

    عودتي المفاجئة .



    لذا نمت في ملحق الضيوف ، عندما وضعت رأسي على الوسادة ،

    ابتسمت لأن والدي اعترف بي أخيراً !



    لم ينادني والدي بـ (( والدي )) منذ أكثر من عشر سنوات ،

    ولم أقل له (( يبه )) منذ المدة ذاتها ، كان ينادي بعبد العزيز وكنت

    أناديه بـ (( طويل العمر )) أو (( طال عمرك )) وبـ (( أبو عبد العزيز ))

    أحياناً !



    اليوم ناداني أبي بولدي ، وأجبته بـ (( يبه )) ، جدد اليوم أبي اعترافه

    بأبوتي وجددت أنا اليوم اعترافي ببنوتي له !



    فعلاً المفاجأة تسعد المفاجئ أكثر مما تسعد المتفاجئ ،

    كم كنت محقاً في أنانيتي !




    ***

  5. #75
    من المشرفين القدامى
    جيل الطيبين
    أظن أن لكل أم رائحتها الخاصة التي لا تشبهها رائحة ، رائحة أمهاتنا

    لا تتغير منذ أن ينجبننا وحتى نموت أو يموتن ، وها هي أمي تتسلل

    إلى غرفتي عبيرها يسبقها إلي ، ليمسح رأسي ويربت على ظهري

    ويلاعب ملامحي بحنان أمومي لا يضاهيه في الدنيا حنان .



    شعرت بها لتقترب مني ، وضعت يدها على كتفي وقالت وهي تهزه

    بلطف : عبد العزيز ، عبد العزيز .



    فتحت عيناً واحدة ليطالعني وجهها بحكاياته وأيامه وتضحياته وتنازلاته

    ، أمتلأت روحي بملامحها قبل أن تمتلئ عيناي بها .



    قالت : صباح الخير يا أمي ، يلا أصحى أفطر معانا .


    هززت برأسي قائلاً : أبشري .


    -إذا تبي تتحمم ،أطلع لغرفتك أحسن يا أمي ، جهزنا لك الغرفة .


    ابتسمت ! هي هكذا تنظم كل ما في حياتنا ما دمنا تحت جناحيها ،

    في حضرتها يسهل علينا كل شيء ويتوافر لنا كل شيء من دون

    أن نطلب منها شيئاً .



    صعدت إلى غرفتي ، دخلت الحمام لأستحم ولأخرج منها وقد نقلت

    حقائبي من غرفة الضيوف إلى غرفتي ، فتحت حقيبتي لأرتدي

    ملابسي ، فخطر لي أن أرتدي ثوباً بعد طول غياب ،

    تناولت أحد أثوابي القديمة من خزانة الملابس ، لأفاجأ به ضيقاً علي ،

    كنت أعرف بأن وزني قد ازداد في الفترة الأخيرة لكنني لم أتخيل أن

    يكون قد ازداد إلى هذه الدرجة ، لم يكن الثوب ضيقاً لدرجة القبح

    أو تقييد الحركة ، لكنه كان واسعاً في آخر مرة ارتديته فيها قبل

    قرابة العام ، لم أبدل الثوب ونزلت لتناول الفطور وأنا أرتديه .



    كان على طاولة الطعام كل من أمي وأبي وهديل ولينا ، قبلت رأس

    أمي وأبي وجلست على أول مقعد يمين أبي كما تجري العادة

    حينما أكون حاضراً .



    سألتني هديل وهي تشير إلى ذراعي : هذي عضلات ؟!


    قلت بسخرية : لا بلونة !


    قالت بدهشة : لا منجد ، كيف !


    -نبتت!


    قالت : كيف نبتت!


    -أكلت حبة وكل يوم الصباح أشرب مويه وتكبر تكبر .


    قالت لينا : الظاهر للحين تحسبنا بنات صغار تضحك علينا .


    ابتسمت وأخذت أتأملهما ، كبرتا فعلاً ، لا أعرف كيف أصبحتا فجأة في

    الجامعة ، مؤلم أنني فوت فرصة مراقبتهما وهما تكبران ، لم أكن

    اعرف ماذا تدرسان ، سألتهما : صحيح ، كبرتما فجأة ، أصبحتا عجوزتين

    ، ماذا تدرسان بالمناسبة ؟



    قالت هديل : توقع ماذا أدرس ؟


    -طبخ ؟


    -طبخ ؟!!


    -أقصد الاقتصاد المنزلي .


    قالت باستنكار : لا طبعاً !


    -ماذا تدرسين ؟


    أجابت بفخر وحماس : فرنسي !


    ضحكت : بصراحة ماتوقعت ، شكلك ما يعطي ، وأنتِ يا لينا ،

    ماذا تدرسين ؟



    قالت بلا مبالاة : قانون .


    -قانون ! ، قانون محاماة ؟!


    هزت رأسها موافقة ، التفت إلى ولدي : هل استحدث قسم القانون

    للفتيات .



    قال بهدوء : القانون والإعلام .


    قلت للفتاتين : أبهرتماني فعلاً، لم أتوقع هذا منكما بصراحة ،

    توقعت أن تدرس إحدكما الطبخ وأن تدرس الأخرى الخياطة .



    مدت أمي إلي بكوب الشاي : خلك منهم ويلا قول بسم الله .


    مددت يدي إليها وأنا ابتسم : ها هي أمي تلقنني بسم الله كطفل

    صغير قد ينسى ذكر الخالق ، كنت أراقب والدتي ووالدي وأخواتي

    أثناء الإفطار ، أراقب تعابير وجوههم ، لغة أجسادهم ، كلماتهم ،

    أصواتهم ، درجاتها ونبراتها .



    حينما يعود الرجل إلى بيت أبويه ، يعود طفلاً أمامهما وفي حضرتهما

    حتى وإن بلغ من العمر عتياً ، كنت أشعر بأنني صغير أمامهما وكأنني

    عدت عقوداً طويلة ماضية .



    غادرت هديل ولينا بعدما انتهينا من جلسة الأفطار ، وبقيت مع أمي

    وأبي على الطاولة لأكثر من ساعة ونصف بعد ذلك .



    أخذا يحدثاني عن كل ما حدث خلال العام الأخير من غيابي ، عن وفاة

    جدي ، عن مراسم العزاء ، عن الأيام الصعبة التي مروا فيها بعد رحيله

    ومفاجأة موته ، كان والدي قد استعاد لهجته الجافة معي وكأن ليلة

    البارحة لم تخلف شيئاً في داخله .



    الحق أنني تعلمت كثيراً من تجربة المفاجأة تلك ، تعلمت منها أن

    المفاجأت تفضح مشاعرنا الحقيقة ، اليوم أنا أعرف أن والدي لايزال

    يحبني و لا يزال يشتاقني على الرغم من سنوات الجفاء

    والبرود والحدة .



    ربما لا يسعدني كثيراً أن يستمر والدي في معاملته الجافة معي ولي

    ، لكنني سأعتبر دموعه لحظة دخولي عليهم خير عزاء يواسي قلبي

    ويطمئنه أن شيئاً من الحب والاشتياق والفقد يعتمل في

    صدره تجاهي .



    سألني والدي بعدما أنهت أمي سرد الأخبار عليّ :

    متى سنزور الجماعة ؟



    -أي جماعة ؟


    -أهل العروس ، أصرفت النظر عن الموضوع ؟


    -لا لم أصرف النظر عن الموضوع ، لقد جئت من أجله .


    قالت أمي بعتب : وأهلك ؟ألم تأتِ لرؤية أهلك ؟


    -طبعاً جئت لأراكم ولموضوع الزواج أيضاً ، بالمناسبة أين وليد ؟


    قال والدي : الوليد مسافر إلى هولندا ، سافر من يومين .


    هكذا أبي دائماً يصحح اسم وليد بتعصب شديد ، دائماً أسأل

    (( أين وليد )) كيف حال (( وليد )) ، ليجيبني أبي :

    (( الوليد مسافر ، الوليد بخير )) وكأن أل التعريف ستضيف إلى

    وليد شيئاً أو تغير فيه شيئاً !



    لا يحب أبي اختصارات الأسماء و لا تدليلها ، في منزلنا كل ينادي الآخر

    باسمه كما هو مدون في جواز سفره وفي بطاقة الأحوال الشخصية ،

    حتى أنا صاحب الاسم الطويل الثقيل ، يناديني كل من في بيتنا

    باسمي كاملاً (( عبد العزيز )) لا ينقصه حرفاً و لا يزيده نقطة !



    لا أعرف ماذا ستفعلين بأبي يا جمانة حينما يسمعكِ تنادينني بعزيز

    بحروف مُدَلًّلة ومُدلَّلة ، أنتِ التي لا تنطق اسمي كاملاً إلا أن أجرمتُ

    في حقها ، وكأنكِ تعاقبين جرمي بنطق اسمي بكل ما فيه .



    قلت معقباً على سفر وليد : يوصل إن شاء الله بالسلامة .


    قام أبي من مكانه : فلتعطِ رقم أم البنت لأمك لتتصل بها اليوم ،

    أنا سأتوضأ للصلاة .



    قالت أمي ما إن تأكدت من مغادرة أبي : والآن أخبرني ،

    كيف تعرفت على الفتاة ؟



    قلت جمانة ، اسمها جمانة .


    أشارت بيدها بشيء من العصبية :ما هذا الاسم ! ليس جميلاً ،

    المهم أخبرني كيف تعرفها .



    -أخبرتكِ قبلاً أنها زميلتي في الجامعة .


    -وهل تظن بأنك ستقنعني أنها مجرد زميلة ؟


    كنت أعرف أن هذا الحوار سيطرح بهذا الشكل ، وأن هذه الأسئلة

    ستطرحها أمي لا محالة ، لكنني لم أتوقع أن يفتح الموضوع

    بهذه السرعة بما فيه من حدة .



    قلت : لأختصر عليكِ وعلي الموضوع والوقت والجهد ، هي زميلتي

    بالجامعة وتصغرني بعشرة أعوام وأحبها منذ أربع سنوات .



    شهقت أمي : ستتزوج فتاة تقيم علاقة معها منذ أربع سنوات ؟


    -علاقة حب شريفة .


    -أي علاقة شريفة هذي التي تربط بين فتاة ورجل غريب عنها

    لأربع سنوات ؟



    قلت بعصبية : من يستمع لحديثكِ يظن بأنني قد نمت معها !


    قالت بانفعال :و لا تكون الفتاة فاجرة بنظرك إلا إن نامت معك ؟


    -أنا أعرف الفتاة جيداً وأعرف أخلاقها ، لم أعرفها يوم أمس لأتسرع

    بالحكم عليها .



    -من الواضح أنها غسلت مخك (( ضحكت )) عليك !


    -يا بنت الحلال أنا لست مغفل ولست بساذج ، أنا رجل في منتصف

    الثلاثينات ، لا يوجد شيء بالحياة لم يمر عليّ ولم أعرفه ،

    أعرف الفتاة الطاهرة وأعرف الفتاة الفاجرة وأستطيع التمييز بينهما

    وأنتِ تدركين ذلك جيداً .



    -يا عبد العزيز هذه النوعية من الزيجات لا تدوم و لا تستمر ،

    لا تدع مشاعرك تخدعك وصدقني الزواج عن طريق العلاقات

    زواج فاشل و لا مستقبل له .



    -شكراً جزيلاً يا أمي على النصيحة ، فعلتِ ما عليكِ فعله بنصحي ،

    دوري أن أتحمل مسؤولية اختياري وقراري .



    -ولماذا تجازف بتجربة زواج نتيجته الفشل مئة بالمئة ؟


    -دعكِ من الإحصائيات الذاتية يا أمي ! ، الله وحده يعلم ما مصير هذا

    الزواج وما مصير غيره ، قد أنجح باختياري وقد أفشل باختياركم ،

    هذه الأمور لا يعرفها أحد غير الله .



    -وإن لم أرض على هذا الزواج ؟


    -سترضين بمشيئة الله ، لأنك تدركين جيداً أنني لم أحضر إلا من أجله

    ، إن كنتِ لن تساعديني بإتمامه سأعود من حيث جئت ،

    وعلى أقرب طائرة لأن ليس هناك ما أبقى من أجله هنا .



    -أتتخلى عن أهلك من أجل فتاة يا عبد العزيز ؟


    -أنتِ من ستتخلين عن ابنك من أجل موروثات اجتماعية غبية ،

    إن كنتِ ستحرمينني من حلمي لا تتوقعي أن أبارك حرمانكِ لي ،

    من أقل حقوقي أن أبتعد عن الذين يعاقبونني بالحرمان لا لشيء

    إلا لأنني من اختار شريكته ، ليس هم !



    سكتت أمي قليلاً وقالت : ستندم كثيراً يا عبد العزيز على هذا القرار ،

    هذا الزواج لا مستقبل له .



    وصلتني رسالة نصية على هاتفي ، قرأتها وأنا أقول لأمي لن

    يندم أحد إن شاء الله .



    كانت الرسالة منكِ ، تستفسرين فيها عن تأخري بالاتصال بكِ

    وعن قلقكِ علي ، لم أكن قد اتصلت بكِ بعد وصولي إلى الرياض ،

    آخر مكالمة أجريتها معكِ كانت في المطار عند المغادرة .



    طلبت رقم هاتفكِ وأمي تحدثني عن بعض الزيجات الفاشلة التي

    شهدتها والتي قامت على أساس الحب ،أجبتني بصوت فرح :

    حيا الله هالصوت !



    سألتكِ من دون أن أسلم : نورت الرياض ؟


    قلتِ : بس نورت ؟! ، جانا إلتماس كهربائي من نورك !


    كانت أمي تطالعني وأنا أتحدث إليكِ بأعين متفاجئة ، أردت أن أخفف

    من وطأة المفاجأة عليها وأن ألطف الأمر بينكما ، قلت لكِ :

    ستكلمكِ أمي .



    مددت الهاتف لأمي قائلاً : أمي ، جمانة ، ستسلم عليكِ .


    دفعت أمي بيدها الهاتف وقامت من مكانها : لا أريد أن أكلمها .


    وضعت هاتفي على أذني ، كنتِ صامتة ، وكان من البديهي أنكِ

    سمعتِ ما قالته ، قلت لكِ : جمانة ، سأتصل بك بعد دقائق انتظريني .



    قلتِ بصوتٍ أقرب إلى الهمس : حسناً ، سأنتظرك .


    كانت آثار الخيبة والدهشة بادية على صوتكِ ، لحقت بأمي وهي

    تصعد السلم ، وضعت يدي على كتفها : الله يهديك يمه ،

    كذا تحرجيني عند البنت ؟



    صاحت أمي : يهمك ما تزعل البنت و لا يهمك تزعل أمك ؟


    قبلت رأسها ويدها : زعلك أهم من أي شيء ومن أي أحد عندي ،

    وأعرف أن زعلي يهمك ، أرجوك لا تحرميني من الشيء الوحيد

    اللي أبيه في الحياة ، لا تصيرين أنتِ والحياة علي .



    قالت أمي وقد بدأت تهدأ : وأنت يا تتزوج هالبنت بالذات و إلا أصير

    مع الحياة عليك ؟



    -أنا بحياتي ما طلبت منك شيئاً ، أنا ماني مثل أخواتي ،

    ماني عايش معك و لا أطلب منك ، لا ترديني بالشيء الوحيد اللي

    طلبته منك .



    -أطلب أي شيء إلا هالطلب !


    -وأنا ما أبي من الدنيا شيء غيره ، بكرى لو صار لي شيء في

    غربتي لحالي راح تندمين أنك تركتيني أعيش الغربة بوحدة .



    -وليه الوحدة ؟ ما في بالدنيا إلا هالبنت ؟ فيه ألف بنت تتمناك .


    -بس أنا ما أتمنى غيرها وإن ما تزوجتها ما راح أتزوج غيرها .


    -هذا كلام مراهقين يا عبد العزيز .


    -هذا كلامي وما راح أغيره يا أم عبد العزيز ، وأنتِ وضميرك .


    تركت أمي تصعد غرفتها لتصلي ، دخلت إلى غرفتي ، اضطجعت

    على السرير وأنا أفكر ، ماذا لو خذلتني أمي وخانتني

    بحرماني منكِ ؟



    أخذت أفكر فيما لو خسرت أمي من أجلكِ مثلما خسرت أبي من أجل

    ريما سابقاً ، فكرت في إن كنت قادراُ على خسارة ثلثي الثاني ،

    وإن كنت سأستطيع مقاومة الحياة كثلث وحيد .



    لطالما آمنت بأن الإنسان يولد بثلاثة أثلاث ، هو وأمه وأبوه ،

    يخسر الإنسان ثلثاً ما إن يخسر أحد والديه ، ويخسر الثالث الثاني

    بخسارة الآخر، ليعيش كثلث يتيم طوال حياته بلا أبويه .



    هذه النظرية السخيفة المعتمدة على الأرقام ،ليست نظرية رجل

    يتعاطى الأرقام كجزء من دراسته في علم الإدارة و لا هي تهميش

    لدور الوالدين وتصنيفهما كأرقام ، بل هي عملية بسيطة توضح لنا

    ببساطة مقدار الخسارة .



    أريد أن أكمل حياتي متكئاً على الثلثين ، لا قدرة لي على خسارة

    ثلث آخر ، أريد أمي وأريدكِ يا جمانة ، فلا تقسوا عليّ !


    ***


    __________________

  6. #76
    من المشرفين القدامى
    جيل الطيبين
    اتصلت بعبد الله ، صديق المراهقة الوحيد الذي استمرت علاقتي به

    منذ سفري لأول مرة وحتى اليوم ، أزوره كل عام واثنين ، أقضي في

    ملحق بيته الأيام التي أضطر لقضائها في الرياض .



    عبد الله هو أحد وجوه الرياض التي لا تتغير ، أعود كل عام لأجده كما

    تركته ، لا شيء فيه يتغير و لا شيء فيه يتطور .



    أخبرتكِ يوماً عن ثبات عبد الله وعدم تغيره في شيء ،

    قلتِ :ربما لأنه لا يزال عازباً .



    سألتكِ : وما دخل العزوبية في ذلك ؟


    -الزواج يغير الإنسان ، الخطبة ، الزواج الأبوة جميعها مراحل الزواج

    التي تغير الرجل مهما كان نوعه ، على أية حال أنا لا أحب

    صديقك هذا .



    -وهل تعرفينه لتحبينه أو لتكرهيه ؟


    - لا داعي لأن أعرفه لأكون انطباعاً عنه ، يكفي أنه بلا زواج حتى

    الآن على الرغم من أنه يشارف على الأربعين .



    -وإن كان ؟


    -هي دلالة أكيدة على سوء أخلاقه .


    -وهل ترينني سيء الأخلاق ؟!


    -عزيز !أنا أتكلم عن صديقك .


    -أنتِ تعتقدين أنه سيء الأخلاق لأنه لم يتزوج حتى الآن ، أنا في

    عمره ولم أتزوج بعد ، هل يعني هذا أنني منحل أخلاقياً ؟



    سكت قليلاً وقلتِ بصوت أقرب ما يكون إلى الهمس : ربما !


    أذكر أنني قطعت الخط من دون أن أودعكِ ، أنهيت الاتصال ما إن

    لفظتِ كلمتكِ المتشككة تلك ، كدتِ أن تفجري هاتفي باتصالاتك

    ورسائلك الآسفة ، لكنني لم أقبل اعتذارك إلا بعدما دفعتِ ثمن كلمتك

    تلك أياماً طويلة من الاعتذارات والبحث والانتظار .



    الحق انكِ أصبتِ فيما قلته ، فلطالما كان عبد الله شاباً عابثاً يجاهر

    بهوسه بالنساء وبعبثه في مدينة لا تحترم أطهر أنواع الحب وأشرفها

    ما بالكِ بزير نساء مجاهر بالعبث ؟!



    لكنني وعلى الرغم من ذلك لم أحب تأكيد نظريتك الخاصة بالعمر

    والأخلاق والزواج ، لذا غضبت منكِ أو افتعلت الغضب !



    أنتِ فتاة يزداد يقينها حيال الشكوك إن قابلت شكوكها بسخرية

    أو موافقة أو مداراة ! لا تهدأ شكوكِ و لا تستكين إلا أن غضبت

    وثرت وعاقبتكِ على شكك بالهجر والجفاء .



    يدهشني كثيراً أن تكون فتاة ذكية مثلكِ بهذه السذاجة العاطفية

    أحياناً !



    يدهشني أنكِ مستمرة في تعاملك مع غضب الآخرين وكأنه دليل

    الحقيقة الذي لا يفتعل و لا يختلق و لا يكذب !



    نمت ليلتي الثانية في الرياض بملحق عبد الله ، عاقبت أمي بغيابي

    عنها أيضاً ، تركت البيت ليكويها هجري ، وأنا مدرك تماماً أن هجر

    الغريب أشد ضراوة من هجر البعيد أحياناً .



    كنت أعرف أن أمي لن تتحمل غيابي عنها أثناء وجودي في الرياض ،

    هي قادرة على أن تجاري هذا الغياب بينما تفصلنا الآف الكيلومترات

    لكنها لا تقدر على غيابي و لا يفصلني عنها سوى بضعة أحياء سكنية.



    قلت لها عندما اتصلت بي لتسألني متى سأعود : لا تنتظروني ،

    سأنام عند صديقي .



    -أي صديق هذا ولماذا تنام عنده ؟


    -صديق قديم .


    -ولماذا لا تنام عندنا ؟


    قلت : ولماذا لا أنام عنده ؟!


    دسست رسالتي لأمي وأنا متيقن من حسن استقبالها للرسالة ،

    كنت أعرف أن أمي ستفهم ما أردت أن أقوله لها بجملتي تلك ، سكتت

    أمي قليلاً وقالت : فلتستعيذ من الشيطان الرجيم ، ولتعد إلى بيتك .



    قلت: فلتستعيذي منه أنتِ يا غالية !


    -الله يهديك !


    تركت أمي لتصارع أفكارها تلك الليلة وقضيت ليلتي عند عبد الله ،

    استيقظت في الصباح الباكر على ثلاث مكالماتٍ منها قالت لي

    عندما أجبتها : تعال وافطر معنا ،والدك يسأل عنك .



    قلت : لا أستطيع المجيء الآن ، نمت متأخراً ، سأعرج عليكم في

    وقت لاحق .



    قالت بصرامة : فلتأتِ الآن قبل أن يغضب والدك ، سننتظرك

    خلال ساعة .



    كان عبد الله في عمله ، أبدلت ملابسي وأرسلت إليه رسالة أخبره

    فيها أني غادرت البيت أثناء توجهي إلى بيت أهلي ، وجدت أبي

    وأمي على طاولة الطعام وقد بدآ بتناول إفطارهما ، سلمت عليهما

    وجلست من دون أن يسألني أبي أين كنت ومن أين جئت ، وكأنه

    لا يأبه لذلك .



    كانت أحاديثهما طبيعية وروتينية ومعتادة ،عن السياسة

    وعن الأهل والجيران والحياة .



    غادر أبي لإنهاء بعض أعماله المعلقة في إحدى الدوائر الحكومية ،

    وبقيت وجهاً لوجه أمام أمي !



    سألتني مجدداً عن المكان الذي قضيت فيه ليلة البارحة ،

    قلت لها إنني كنت عند عبد الله صديق الطفولة ، أخذت تسألني عن

    أحواله وظروفه وأهله وإن كان قد تزوج ، بطبيعة الحال سألتني

    عن أسباب عدم زواجه حتى الان !



    استأذنت منها لأستحم ، أوقفتني وهي تناولني هاتفها المحمول :

    سجل رقم أم البنت .



    قلت لها مبتسماً : أي بنت ؟


    قالت بعصبية : كم بنتاً تعرف ؟


    -قصدك جمانة ، اسمها جمانة .


    -لا يهم اسمها !


    -بل يهم اسمها ، كي لا تخطبي إحدى أخواتها بالخطأ .


    ناولتها الهاتف قائلاً : سجلت رقمها باسم أم خالد ، متى ستتصلين

    عليها ؟



    قالت بنفاذ صبر : تبيني أتصل اللحين ؟


    قلت مازحاً : غايبة عن المدرسة هي عشان تتصلين اللحين ؟

    فيه أحد يتصل يخطب الصبح ؟



    -خلاص أجل خلها تقعد لليل ، لا تخاف ما هي طايره ، تحمد ربها اللي

    بتأخذك .



    قلت لا وأنا أقبل رأسها : تحمد ربها أنك حماتها .


    -أيه أضحك عليّ بكلمتين .


    صعدت إلى غرفتي وأنا أضحك ، فتحت شباك الغرفة ، فدلفت

    الشمس بحرارتها اللاذعة ، على الرغم من أنني لم أحب يوماً حرارة

    الرياض إلا أنها بدت لي يومذاك في ألطف حالاتها ، وكأنها تبارك حبنا

    على الرغم من تقليديتها وحرارتها !




    ***

  7. #77
    من المشرفين القدامى
    جيل الطيبين
    أيقظتكِ عصراً ، كنتِ قد سهرتِ معي على الهاتف في الليلة السابقة

    فتركتكِ تنامين حتى أوشكت أن تتصل أمي بوالدتكِ ، أو ربما كانت

    قد اتصلت بها .



    قلت لك بأن الحرب بدأت ، فسألتني مازحة إن كان بإمكانكِ التراجع ،

    قلت لك : (( جربي أن تتراجعي )) ! ضحكتِ وتركتني لتتابعي الأخبار

    والأحداث من ضفة بيتكم .



    حاولت أن أراوغ الوقت ، فأخذت أفتش في مكتبتي القديمة ،

    لتطالعني كتبي الجامعية التي تنام فوق رفوفها منذ أكثر من عشر

    سنوات بانتظار عودتي إليها لأخلصها من حالة النشاز التي كانت

    عالقة بها بلا ذنب ارتكبته في حقي .



    طرقت أمي الباب فقمت لأفتح لها ليطالعني وجه عهود أختي الكبرى

    وقد فتحت ذراعيها لاحتضاني ، احتضنتني عهود بكل شوق ، شعرت

    وأنا أحتضنها بأمومتها تجاهي وإن لم يكن يفصلني عنها سوى بضع

    سنوات ، قالت وهي تضمني بشدة : هلا بالغالي هلا بالحبيب ،

    تو ما نورت الرياض يا حبيبي .



    قبلت رأسها ويدها ، أخذت أنظر إليها وقد أدهشني كثيراً كم بدت آثار

    الزمان على وجهها مبكراً وكأنها تكبرني بعشر سنوات ، قلت لها :

    النور نورك يا عهود ، أيش المفاجأة الحلوة ؟



    -أنا اللي المفروض أقولك أيش هالمفاجأة الحلوة ؟ ليه ما قلت إنك

    نازل الرياض كان تجمعنا كلنا من البارح وشفناك .



    -ما فات إلا الخير ، لا حقين إن شاء الله .


    -لا والله مو لاحقين ياحبيبي ، مها ومشاعل مع أولادهم تعرف الصيف

    كل الناس تسافر ، والله لو يدرون أنك موجود إن ينهبلون .



    قالت أمي التي كانت تقف خلفها : يلحقون على عرسه إن شاء الله .


    ابتسمت عهود : ما شاء الله أيش هالأخبار الطيبة؟


    قلت لها مازحاً : أجل تحسبوني جاي عشانكم ؟


    قالت وهي تضحك : توقعت والله إن عندك شيء

    وأخيراً يا عبد العزيز ! ، ما بغيت !



    -خلاص استسلمت .


    سحبتني من يدي : تعال خلينا نجلس وأحكيلي مين وكيف

    وشلون ومتى ؟



    حكيت لعهود عنكِ باختصار ، كنت أحدثها عنكِ بفرح لم أتوقعه ولم

    أتخيله ، كنت أرى في عينيها السعادة والتضامن والتأييد فيزيدني هذا

    فرحاً وحماساً .



    قالت أمي بنبرة منزعجة : يعرفها من أربع سنين !


    قالت عهود : وإذا يعرفها يمه ؟ وجهاً تعرفه و لا وجهاً تجهله .


    -وش هالبنت اللي تكلم واحد أربع سنين ؟


    -دامه يعرفه من أربع سنين فهو يعرف أخلاقها وكيف تربيتها وإلا

    ما تجرأ وخطبها .



    قالت أمي بعصبية : أنا ماني مرتاحة لها زواج و لا أحب هالطريقة

    ونصحته ، حنا اللي علينا سويناه ، البنت وخطبناه له اليوم وهو بكيفه .



    قالت عهود وهي تربت على ركبتي : موب صاير إلا كل الخير ، أفرحي

    اليوم وأنبسطي ما صدقنا على الله بيستقر ويتزوج، لايهون

    علينا الرجال .



    ابتسمت لعهود ممتناً من دون أن أعلق على كلام أمي ، كنت أدرك أن

    لا شيء قادراً على تغيير قناعتها بخصوص علاقتنا ، وأن أي تبرير أو

    محاولة إقناع لن تكون إلا محض فشل ، لذا آثرت الصمت كي لا أدخل

    معها في جدال يزعجها ويزعجني .



    قامت أمي من مجلسها لتوقظ هديل من نومها،قالت لي عهود

    وهي تهمس : الله يهديك ، ليه قلت لهم أنك تعرفها ؟



    -أيش تبيني أقول لهم ؟


    -قول زوجة صديقي تعرفها ومدحتها لي ، ألف أي شيء زيك زي

    العالم .



    -وليه أكذب في موضوع سخيف هو راح ينكشف بعدين ؟


    -وليه ينكشف ؟ نص العالم متزوجين بالطريقة ولا أحد درى عنهم .


    سألتها مبتسماً : مثل مين ؟


    ضحكت : مثلي بس لا تعلم أحد .


    -والله ! ، و لا عمري تخيلت ، ليتني داري وقتها كان ذبحت أبو محمد .


    -أجل أذبح أبو سعود بالطريق معك .


    -أي أبو سعود ؟


    -زوج مشاعل !


    -أوف !


    -نصيحة يا عبد العزيز ، داري على شمعتك تقيد ، الرسول صلى الله

    عليه وسلم قال : (( استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان )) .



    -معكِ حق .


    -عموماً ما صار إلا الخير وإذا على أمي ، يومين وترضى ، لا تنكد على

    نفسك أنت .



    -إن شاء الله .


    رفعت فنجان القهوة ورشفت منه وقلت ممازحاً عهود : يا حليلك يا أم

    محمد ، أجل أبو محمد جاء عن طريق زوج صديقتك ؟



    ضحكت : شفت ليه أقولك داري على شمعتك تقيد ، عشان محد يذلك

    على السالفة زي ما أنت قاعد تذلني على سالفة مر عليها إحدى

    عشرة سنة .



    قلت لها وأنا أضحك : أمزح معك يا بنت الحلال .


    -أعرف حبيبي أعرف ، تدري يا عبد العزيز أن الرسول صلى الله عليه

    وسلم قال : (( لم يَر للمتحابين مثل النكاح )) إذاً الرسول يوصي

    المتحابين بالنكاح ليه حنا نحرمه ؟ ، اللي يحب أحد ينوى زواجه وإلا

    ما يكون حب يكون قلة أدب .



    كان منطق عهود فطرياً ، نقياً وشفافاً ، لم تدنسه العادات ولم تشوهه

    التقاليد ، كانت عهود وعلى الرغم من تدينها ومحافظتها تؤيد الحب

    وتدعو إلى الفطرة التي فطرنا الله عليها ، شعرت بعد حديثي مع عهود

    أن في حياتي المتوقفة والمعلقة في الرياض أشياء وأشخاصاً في

    منتهى النقاء والبياض والجمال ، شعرت بحديثها ينساب في جوفي

    كسلسبيل عذب ، لذيذ وشفاف .



    منطقها الذي يتناسب ويتلاقى كثيراً مع منطقكِ سيجعلكِ تحبينها

    مثلما سيجعلها تحبكِ .



    فكرت أن ألحق بأمي لأسألها عما دار بينها وبين أمك ، وفكرت أن أنتظر

    اتصالكِ لتخبريني عما دار من جهتكِ ، اخترت فيما سأفعل وقررت

    في النهاية أن أنتظر .




    ***

  8. #78
    من المشرفين القدامى
    جيل الطيبين
    مر عشرون يوماً على اتصال والدتي بوالدتكِ ولم يستجد شيء

    منذ ذلك الوقت، كان الوقت بطيئاً معي ، بارداً وثقيلاً ،كان الانتظار

    صعباً ومقلقاً لدرجة لا تحتمل .



    سألتكِ أكثر من مرة عن سبب تأخر رد والدتكِ ، كنت أرى في ارتباككِ

    وتلعثمكِ الأسباب التي حاولتِ إخفاءها ومقاومتها .



    كان من الواضح أن والدكِ أو عائلتكِ بصورة أعم ترفض ارتباطنا مثلما

    ترفض أمي زواجي منكِ ، ومثلما بدأت أفقد مع الوقت مباركة والدي

    لهذا الزواج .



    سألني والدي قبل أيام عن أسباب عدم اتصال أمك بأمي حتى الآن

    قلت : مشاريع الخطبة والزواج تأخذاً أشهراً طويلة وأنت خير من

    يعرف هذا .



    قال صحيح ، لكن الفتاة تعرفك و لا بد من أنها مهدت لأهلها الموضوع

    بشكل من الأشكال ، فلماذا تأخروا في الرد علينا ؟



    -كل تأخيرة فيها خيرة .


    صمت والدي قليلاً وقال : صحيح ، على أي حال ولأصدقك القول ،

    لا أشعر أنني مرتاح لهذا الزواج .



    -لماذا ؟ مالذي تغير ؟


    -لم يتغير شيء ، لكنني وبعدما سألت عن والد الفتاة وجدته رجلاً

    معروفاً وذا مكانة وقدر محترم ، و لا أريد أن يحدث منك أو بينك

    وبين الفتاة أمر قد يحرجنا معه .



    -أنت تخشى أن أحرجكم إذاً !


    قال بصرامة : نعم ، أخشى هذا ، البنت بنت (( حمولة )) وعائلة

    محترمة ، لا أريدك أن تقحمنا مع أهلها بأي إحراج ، نحن عائلة معروفة

    ولنا مكانتنا أيضاً و لا تريدك أن تجلب لنا الفضائح أياً كان نوعها .



    كنت أعرف أن والدي يرمي لحكاية (( ريما )) التي يبدو أنه لن ينساها

    أبداً ، لذا أطرقت صامتاً وقلت بهدوء : أطمئن ، لن تسمع عني

    إلا خيراً .



    قال بصوتِ بدأ يتسلل إليه الندم : بإذن الله .


    أخذ والدي يقلب صفحات الجريدة وأنا صامت بجواره كطفل صغير ،

    كنت أشعر بأن أنفاسي تصدر صوتاً من هيبة وجود أبي ومن هيبة

    حضوره ، ارتفع صوت هاتفه ، سمعته يتمتم وهو يبحلق بالشاشة :

    من هذا ؟!



    قال وهو يضع السماعة على أذنه : مرحباً .


    -وعليكم السلام والرحمة ، حياك الله .


    رأيته يلتفت إلي ففهمت من نظراته أن والدك المتصل ، استرسل :

    يا هلا والله بأبو خالد ، حيال الله هذي الساعة المباركة اللي سمعنا

    فيها صوتك وتعرفنا فيها عليك .



    كنت أستمع إلى والدي وهو يتبادل مع والدكِ المجاملات المعتادة

    وهو يعدد عليه معارفه من عائلتكِ وأقاربكِ ، كان من الواضح أن والدي

    يعرف بعض أفراد عائلتكِ وأن والدكِ يعرف في المقابل بعض أفراد

    عائلتنا ، أخذ والدي يسمي أزواج أخواتي وأخوالي لأبيكِ وحكى له عن

    عمله وعن وليد وقليلاً عني !



    قال والدي لوالدك في نهاية المكالمة : على خير إن شاء الله ،

    الله يجمعنا على الخير والفرح ، على موعدنا بإذن الله .



    قال والدي بعدما أنهى المكالمة : هذا والد جمانة .


    سألته أحدد موعداً يقابلنا فيه ؟


    -غداً ، بعد صلاة العشاء .


    ابتسمت على الرغم مني ، غداً يا جمان ، سأدخل بيتكِ من بوابته

    الرئيسية وعلى رؤوس الأشهاد ، من كان يتخيل هذا ؟!



    قال والدي : في الغد ستزورهم أنا وأنت لنتعارف ، بعدما يوافوننا

    بموافقتهم بإذن الله ، نزورهم مع أعمامك .



    -إن شاء الله .


    -قم واحلق وابتع ثياباً جديدة .


    قلت : أبشر !


    ركبت سيارتي بروح تقفز ، أدرت المحرك واتصلت بكِ ، قلت ما إن

    أجبتي : وأخيراً !



    كان من الواضح أنك لا تعرفين عن مكالمة أبيك شيئاً ، سألتني :

    وأخيراً ماذا ؟!



    -أتصل والدك بوالدي قبل قليل !


    -شهقتِ : حقاً !


    -قرر والدكِ بعد ثلاثة أسابيع من الانتظار أن يقابلنا ! لو أنني تقدمت

    للأميرة ديانا بعد طلاقها من تشارلز لما استغرق الأمر ثلاثة أسابيع

    لترد عليّ فيها بالموافقة .



    -متى سيقابلكم ؟


    -غداً .


    -أتمازحني ؟


    -بإمكانكِ أن تسألي والدكِ إن لم تصدقي !


    -غريب هذا ! كان رافضاً لقاءك .


    -يبدو أن أمكِ مارست سلطته وتدخلت .


    -طلبت منها إقناعه لكنني لا أعرف إن كانت قد فعلت .


    -لابأس ، والدي أيضاً بدأت تساوره المخاوف يا جمان ، لذا علينا أن

    نحاول استعجال الأمر قبل أن يفسده علينا أحد .



    -إلى أين أنت ذاهب الآن ؟


    -سأبتاع ثوباً يليق بمقام المناسبة ، ما رأيك ، شماغاً أم غترة ؟


    ضحكتِ : فلتأتِ حافياً إن أردت ، المهم أن تأتي !


    لا أعرف إن كنت قد قلتها مازحاً أم أنكِ مرتابة حقاً من تراجعي ،

    يومذاك ظننتكِ تمزحين لكنني أظن اليوم أنكِ تعنينها بشكل ما .



    أغلقت منكِ حينما وصلت إلى السوق ، نزلته منتشياً ، كنت قاب

    قوسين منكِ يا جمانة ، بل كنت أدنى !




    ***

  9. #79
    من المشرفين القدامى
    جيل الطيبين
    نستيقظ في أيام استثنائية ونحن ندرك جيداً أنها أيام لا تشبه بقية

    الأيام ، أيام قد تغير حياتنا وإلى الأبد .



    استيقظت ليلة الأمس عشرات المرات قلقاً من هذا اليوم وتوقاً إليه ،

    اليوم ليس كأي يوم مر في حياتي يا جمانة ، اليوم سأقابل الرجل

    الذي لولاه ، لما جئتِ أنتِ إلى هذه الحياة .



    لطالما تخيلت كيف سيكون لقائي الأول مع والدك ، كيف سأقابل

    الرجل الذي تحملين جيناته قبل أن تحملي اسمه .



    ماذا عساي أن أقول لأبيكِ اليوم يا جمان ؟! أأشكره أولاً لأنه ساهم

    في إنجابكِ ؟! أم أشكره لأنه اختار لكِ اسماً رقيقاً يختصر النعومة

    والجمال والدلال في (( جمان )) !



    أم أشكره لأنه كان من أوائل الآباء السعوديين الذين قبلوا ابتعاث

    بناتهم في بادية ثورة الابتعاث بالألفية الثالثة ، أم أشكره على أنه

    من اختار كندا لكِ ومن اختار أن نلتقي هناك من دون قصد منه

    و لا تخطيط ؟



    لولا والدكِ يا جمانة لما التقينا يوماً ، لولاه لما أحببتكِ ! ، لذا أحب والدكِ

    كثيراً ، أحبه كثيراً وأغار عليكِ منه كثيراً لأنه الرجل الوحيد الذي

    ينافسني في قلبكِ .



    أتذكرين إجازة عيد الميلاد الذي قضيته في الرياض وحدكِ من دوني ؟!


    كنت ملحاحاً في طلبي لصوركِ ، كنت أريد أن أعيش معكِ الشتاء هناك

    ، أن أعيش معكِ أيامكِ ورحلاتكِ وأوقاتكِ كلها ، كنت أطلب منكِ أن

    ترسلي إلي عن طريق الإنترنت صوراً تختصر كل ما تقومين به

    وما تفعلينه ، كنت أرسل إلى هاتفكِ طوال الوقت

    (( صوري ، صوري )) ! وكنت تبعثين إلي بالصور حالما تتمكنين

    من الجلوس على جهاز حاسبك .



    أرسلت لي في أحد أيامكِ هناك صوراً لك قضيتها مع عائلتكِ في

    المزرعة ، كان والدكِ يجلس مرتدياً (( بشتاً )) شتوياً واسعاً ، وكنتِ

    تجلسين مختبئة قي حضنه داخل البشت و لا يظهر منكِ سوى

    رأسكِ المسند إلى رأسه .



    كنتِ قد أرسلتِ لي رسالة على هاتفي كتبتِ لي فيها

    (( أرسلت إليك بصورة على بريدك )) .



    فحت جهازي بحماس وأرسلت إليكِ بينما كان تحميل الصورة جارياً

    (( أنتظر تحميلها )) !



    رفعت رأسي لتطالعني صورتكِ في حضن والدك ، كنتِ جميلة للغاية ،

    وكان والدكِ وسيماً على الرغم من أعوامه الخمسين ، كنت تتعلقين

    برقبته بحب وفرح وطمأنينة جلية ، كانت الحميمة التي تجمعكما

    في الصورة في غاية الإنزعاج بالنسبة إليَ .



    أغلقت شاشة الحاسب بكل ما أوتيت من غضب أو ربما (( غيرة )) !


    اتصلت بكِ عدة مرات ولم تجيبي عليَ ، أرسلت إليك

    (( ردي علي الآن )) ! ، اتصلت بعدها فأجبتني بصوتٍ خفيضٍ :

    سأتصل عليك لاحقاً .



    قلت بغضب : أريد أن أتكلم معكِ الآن .


    قلتِ وأصوات كثيرة تتعالى حولك : أنا مشغولة الآن .


    صرخت : لا يهمني من حولك ، فلتبتعدي عنهم أو كلميني بوجودهم ،

    لا يهمني أحد .



    صمت وسمعت صوت خطواتكِ في الهاتف وأنتِ تبتعدين والأصوات

    التي كانت حولكِ تبعد وتخفت ، قلت بدهشة : ها قد ابتعدت ،

    ما الأمر يا عزيز ، لماذا تصرخ ؟



    -هل يفترض أن أظل طوال اليوم على الهاتف لتجيبي علي ؟


    -حبيبي، أنت تعرف أنني في اجتماع عائلي ، وأن حولي الكثير من

    الناس وتدرك أنني لا أستطيع الرد عليك بوجودهم ، فلِمً الغضب ؟!



    -أنا لا يهمني قطيع الخراف الذين تجلسين بينهم ، يجب عليكِ أن

    تجيبي على اتصالاتي حينما أتصل حتى لو كنت مع أبيكِ وإخوتك .



    -منذ متى ؟!


    صحت فيكِ : من الآن .


    قلتِ بخوف : ما أمرك ، ياعزيز ؟ أتلبستك الجنية من جديد ؟


    -حتى وإن تلبستني قبيلة كاملة من الجن ، لا شأن لكِ بالأمر .


    صحتِ : ما أمرك لماذا تصرخ بلا سبب ؟


    -لأنني أكره قلة الأدب .


    -أية قلة أدب ؟


    -صورتكِ مع أبيك قمة في الوضاعة ، بل قمة في الشذوذ .


    -أي وضاعة وأي شذوذ ؟! هذا أبي ، أمريض أنت ؟


    -بل أنتما المريضان .


    -لا أسمح لك بأن تتحدث عني وعن والدي بهذه الطريقة ، إن كنت

    مقاييس الأبوة والبنوة والحب عندكم تختلف عن مقاييسنا فهي

    مشكلتك وليست بمشكلتي .



    -وتحاججينني أيضاً ؟! أتعلمين ، لا أعرف حقيقة لماذا أناقش فتاة

    مثلك ، أنتِ منحرفة في كل شيء .



    قطعت الاتصال وأنتِ تتكلمين ، أدرت جهاز الركض وأخذت أجري عليه

    بأقصى سرعتي كفهد غاضب ، ركضت وركضت وركضت وركضت

    حتى كادت عضلات ساقي تنهار ، سمع تصوت نغمة هاتفي

    المخصصة لكِ ترتفع ، نزلت من على الجهاز وذهبت لأستحم متجاهلاً

    الإجابة عليكِ ، جلست تحت المياه المنهمرة أفكر فيما قلته وفيما

    حصل ، أدركت في تلك اللحظة أنني قلت ما لا يجوز لي قوله ، وأنني

    بالغت كثيراً في ردة فعلي ، أزعجتني كثيراً رؤيتكِ في حضن رجل آخر

    حتى وإن كان والدكِ ، أعرف بأن مشاعري لم تكن سوية ، وأن ما قلته

    لم يكن عادياً لكنني أفقد السيطرة على مشاعري وأفكاري ولساني

    حينما أغضب وأنتِ خير من يدرك ذلك .



    حينما خرجت بعد الاستحمام ، وجدت مكالمة منكِ ورسالة كتبتِ لي

    فيها : (( أيستحق الأمر ما قلته )) ؟



    لم أكن أعرف بماذا أجيب عليك خصوصاً بعدما أخطأت في حق

    والدك المقدس القدر لديكِ ، كتبت مقدمات كثيرة وحذفتها ، احترت

    كثيراً فيما سأبرر به ما قلته ، لم أكن قادراً على أن أعتذر لك اعتذاراً

    مباشراً لأنني ببساطة لا أمارس الاعتذار و لا أجيد مهارته .



    كتبت لك بعد وقت طويل من التفكير (( غرت )) !


    أجبتني (( لكنه أبي )) !


    كتبت : (( لكنني غرت )) .


    أرسلتِ (( الله يهديك )) .


    كان من الواضح أن رسالتكِ الأخيرة أنك سامحتني وإن تبقى لديكِ

    شيء من العتب ، حاولت أن أفسر لكِ أسباب غضبي لاحقاً ، قلت لكِ

    بأنني فقدت السيطرة على أعصابي وبأنني لم اقصد حتماً ما قلته ،

    وقد كنت متسامحة ومتفهمة وسريعة المغفرة معي كعادتك .



    سامحتني يومذاك على ما فعلته في حق والدك ، لكنني لم أسامح

    نفسي على ما قلته ، شيء ما يهزني فيما يتعلق بوالدك ، أشعر

    دوماً بأنني أريد أن أصبح يوماً أباً مثله ، أباً يحب أبناءه كما يحبكم والدكِ

    ويحبني أبنائي كما تحبون أنتِ وأخوتك والدكِ.



    كان يوم لقائي بأبيكِ سريعاً للغاية ، في النهار بلمح البصر ،


    تواصلنا أنا وأنتِ عن طريق الرسائل طوال النهار ، كنت أخبركِ بكل

    ما أقوم به ، وحينما ارتديت ملابسي فتحت كاميرا الحاسب لتري

    (( أناقتي )) في يوم طلبي إياكِ .



    بخرتني والدتي بالعود حينما نزلت إليهم ، وأخبرني والدي أنه اتصل

    بأبيكِ قبل قليل وأخذ منه عنوان منزلكم الذي كنت أعرف طريقه جيداً .



    أخذ والدي يسرد عليّ قائمة الممنوعات من الأحاديث والحكايات ،

    كان خائفاً من أن يزل لساني بأي شيءٍ قد يؤثر على صورتي أمام

    أهلك ، كان حريصاً على أن أبدو بصورة لائقة ، و لا أعرف حقيقة إن

    كان قد أردا ذلك من اجلي أو من أجل عائلتنا بأكملها ، ففي بلادنا

    لا يتزوج الأفراد بل تتزوج العائلات وتتناسل .



    كان والدي قد أنهى قائمة المحظورات (( تقريباً )) عند وصولنا إلى

    منزلكم ، سألني وهو يحل حزام الأمان ، ومن دون أن ينظر إلي :

    أهذا هو منزلهم ؟



    قلت : نعم .


    قال وهو يترجل : لم أزودك بعنوان منزلهم على فكرة !


    كنت قد نسيت تماماً أن أسأل والدي عن عنوان بيتكم ، كنت منصتاً

    لما يقوله ولم أشعر بنفسي إلا وأنا أركن السيارة أمام البيت ، كان

    موقفي أمام والدي محرجاً للغاية لكن تسارع الأحداث وخوفي من

    مقابلة والدك هونت علي شيئاً من الحرج ، كتبت لكِ رسالة سريعة

    (( أنا على مشارفك )) ، أرسلتها ولحقت بوالدي .



    كانت بوابة البيت مفتوحة ، رأيت والدك وشقيقك خالد وسعود

    يجلسان في الخيمة المقابلة للبوابة ، قام والدكِ وأخواك من

    مجلسهما ما إن دلفنا البيت ، اقترب والدكِ مرحباً بنا : يا هلا والله

    ومسهلا ، حياكم الله تفضلوا .



    سلم والدكِ عليّ وعلى أبي ، قبلت رأسه وانحنيت على يده لأقبلها

    فسحبها من يدي متواضعاً ، قال والدكِ بلطف مازحاً وهو يربت على

    كتف أبي : يا هلا والله ، زارتنا البركة ، أيكم العريس ؟



    ضحكنا جميعاً فقال والدي : لا تسمعك أم عبد العزيز تزعل علينا .


    كسر والدكِ بلطفه توتر اللقاء ورسميته ، كان ذكياً منذ اللحظة الأولى

    واستطاع بذكائه وحنكته أن يجعل لقاءنا مريحاً وعفوياً منذ البداية .



    دار حوار طويل في بداية الجلسة بين والدي ووالدكِ عن معارفهما ،

    فقد كان لديهما معارف مشتركون ، أخذا يتبادلان أخبارهم متحدثين

    عن الحياة وعن المجتمع وعن الزواج وعن عموميات كثيرة .



    كنت أتأمل والدكِ هو يتحدث بعفوية راقية وبلطف جم وثقافة يعتد بها

    وقلبي يخفق من وطأة حضوره ، هاهو والدكِ أمامي يا جمان ، جئت

    إليه بقدمي ساعياً من أجلك كنت فعلياً على مشارفك .



    أخذت أتأمل إخوتكِ الشباب الذين سبق لي وأن تعرفت عليهم بطرق

    عديدة ومن دون أن يعرفوني ، كم أصبحت اعرف إخوتكِ يا جمان ،

    أعرف ما يحبون وما يكرهون ، وأعرف ما تحبينه فيهم وما تكرهين ،

    مثلما أعرف فيكِ أكثر مما يعرفون بكثير يا جمانة .



    التفت إلي والدكِ بعد قرابة النصف ساعة ، وضع يده على ركبتي

    وقال : حيا الله عبد العزيز ، بشر ، كيف الدراسة ؟



    كان والدك يحدثني بلهجة الأصدقاء ، ابتسمت قائلاً : أبشرك كل الأمور

    طيبة .



    أخذ يسألني عن تفاصيل إقامتي ، منذ متى أقيم في كندا ، ماذا

    أدرس ، كم تبقى على حصولي على الماجستير ، أين أعيش ، مع من

    أعيش وكيف أعيش ، سألني عن هواياتي ، عن أحلامي ، خططي ،

    وعن تصوري الخاص فيما يتعلق بمشروع الزواج ! عما أنتظره من

    المرأة وعما أظن بأنني قادر على توفيره لها .



    كان يستمع إلي بإنصات شديدٍ ، يهز رأسه متفهماً ويرفع حاجبيه

    معجباً أحياناً ، كان والدكِ يتمتع بثقافة الإنصات ولغة الجسد بطريقة

    لا تعقل من رجل في عمره وفي مجتمع لا يؤمن بثقافة كتلك .



    أخبرني أن أخاك خالد بصدد إنهاء أوراقه وإكمال دراسته للماجستير

    في بريطانيا ، تحدثت مع خالد عن مشروع الابتعاث ، عن البرنامج الذي

    سيلتحق به ، عن التخصصات المطروحة وعن البلدان التي يبتعث

    إليها وأفضل الخيارات التي قد يقدم عليها الطالب حينما يفكر بإكمال

    دارسته خارج البلاد .



    كان والدك يحاول أن يشركني وإخوتكِ في الحوار ، لذا وجه محور

    الحوار لخالد ، كنت أستمع لأخيكِ بكل جوارحي ، فهمت وهو يتحدث

    لماذا تختلفين دائماً معه .



    أنتِ لا تدركين كم يشبهكِ خالد ، إنه يشبهكِ في أشياء كثيرة ،

    هو مثلكِ ، هادئ ، متزن ، خجول ويملك نظرة جدية تجاه العلم

    والمستقبل والحياة ، بينما كان سعود ، لطيفاً ومبتسماً وخفيف

    المعشر ، شعرت وكأنه أخي الصغير الذي أعرفه منذ أن خلق .



    لم يكن في الحوار الدائر أي شيء يخصكِ ، طرح أبوك مواضيع كثيرة

    للنقاش لم يتضمنها أي شيء يتعلق بك ، كنت أعرف أنه يريد أن

    يسمع آرائي تجاه بعض القضايا الحياتية ، لذا أبديت رأيي في كل

    موضوع تطرق إليه ، في نهاية الجلسة أستأذنه والدي في زيارة أمي

    وأخواتي لكم ، رحب والدكِ بزيارتهم خلال الأسبوع ، تاركاً مهمة

    تنسيق الزيارة للـ (( سيدات )) حسب تعبيره (( حرفياً )) .



    في طريقنا للخروج ، صافحت إخوتكِ مودعاً وحينما هممت بتوديع أبيكِ

    صافحني بقوة ممسكاً بيساره ذراعي قائلاً : (( إن شاء الله نشوفك

    قريب يا عبد العزيز )) .



    قلت : سأكون بانتظار اتصالك ياعم ، بإذن الله أقابلك في أقرب

    وقت ممكن .



    ابتسم ابتسامة بدت لي ذات مغزى : سأتصل بك قريباً بإذن الله .


    أرسلت إليكِ ما إن ركبت سيارتي

    (( يسلم لي أبوك وتسلم لي بنته )) ، لتعرفي أنني قد غادرت

    منزلكم ، كان أبي مرتاحاً كثيراً في طريق عودتنا إلى البيت بعكس

    ما كان عليه حينما توجهنا إلى منزلكم ، أعجب والدي بوالدكِ وإخوتكِ

    كثيراً ، وأخذ يحذرني من أقدم على أي تصرف قد يحرجه معهم .



    مر لقاؤنا بوالدكِ بسرعة شديدة ، بل مر اليوم بأكمله كحلم سريع ،

    وجدت حينما عدت إلى البيت شقيقتي عهود وزوجها وأبناءها

    بانتظاري ،كانت أمي قد أخبرت عهود عن ذهابنا لمقابلة والدك ،

    فجاءت مستبشرة وتواقة لأخبار تفرح قلبها .



    أخذ والدي يحكي لهم عما دار في اللقاء بينما كنت أحاول أن أوطد

    أوصار الحب بيني وبين أبنائها ، أستأذن والدي زوج عهود لينهي عملاً

    بسيطاً خارج المنزل ، وبقيت أسير استجوابهما ، قال لي يوسف زوج

    عهود مازحاً : تهورت يا عبد العزيز ، خانك ذكاؤك أخيراً .



    قلت : كيف ؟


    -سأنصحك نصيحة من أخ لأخيه ، أنجو بجلدك و لا تتزوج ، استمر

    في حياتك حراً طليقاً .



    -يبدو أن عهود قد كرهتك في الزواج .


    -هل ترغب برؤية الشيب الذي غزا رأسي بعدما تزوجتها ؟


    قالت عهود بلا مبالاة : دعك منه يا عبد العزيز ، هذه سخافات الرجال

    المعتادة ، يعتقدون أنهم أكثر رجولة حينما يقولون هذا الكلام ، المهم ،

    أخبرني ، هل تشعر بالراحة الآن ؟



    ابتسمت : الحمد الله .


    -ومتى سنزور العروس ؟


    -رتبي هذا الأمر مع أمي .


    قالت بحماس : أنا متشوقة كثيراً لرؤية من سلبت قلبك ، أي فتاة هذه

    التي تمكنت منك ؟!



    قلت مازحاً : أتمنى أن تعجبك وأن تحبيها ، لأنني لن أتزوجها إن

    لم تعجبك .



    قال يوسف : إن شاء الله ستتزوج وسنفرح بأطفالك ،

    مشاركة شخص ما الحياة هو أجمل ما فيها .



    ضربت عهود مازحة : أخيراً اعترفت !


    اتصلتِ بي بينما كان يوسف يمازح عهود ويذكرها ببعض المواقف

    الطريفة التي مرت عليهما في شهر عسلهما ، استأذنت منهم

    وصعدت إلى غرفتي ، سألتني ما إن أجبت : أخبرني عن تفاصيل

    التفاصيل !



    أخبرتكِ أنني نسيت أن آخذ عنوان منزلكم من أبي ، وأنني لم أشعر

    بنفسي إلا وأنا أقف أمام باب البيت ، حدثتكِ كم ارتاح أبي لأبيكِ

    وإخوتك وكم تشجع لزواجنا ، اختصرت لكِ ما قبل في اللقاء وطلبت

    منكِ أن تستعدي للقاء أمي وأخواتي خلال الأسبوع .



    كنتِ في غاية الحماسة للقاء أمي ، حتى جاء يوم اللقاء ، أنتابكِ

    يومذاك خوف العالم كله وانتابني ترقب العالم أجمع .



    أوصت أمي وعهود ، هديل ولينا إلى منزلكم كان الطريق صاخباً

    بأسئلة لينا وهديل :

    (( من أين يعرفها ، كيف ، ما اسمها ، ما شكلها )) ....



    سألتني لينا : أجميلة هي ؟


    -سترينها بعد قليل .


    -أيعني هذا أنها جميلة ؟


    -قلت لك ، سترينها بعد قليل .


    -ولماذا لا تخبرني أنت الآن ؟


    -ولماذا لا تصبرين خمس دقائق وترين بنفسك ؟


    -أريد أن أعرف رأيك أنت !


    -أرجوك يارب ساعدني !، حمداً لله على أنني لا أعيش معكن ،

    نعم هي جميلة .



    سألت هديل : جميلة مثل من يا عبد العزيز ؟


    قلت بنفاذ صبر : جميلة مثل نفسها .


    قالت : لم تفهمني ! أقصد جميلة مثل من ، مثلاً بينوبلي كروز ،

    تشارليز ليرون ، جوليا روبرتس .. مثل من ؟!



    التفت إلى أمي في المقعد المجاور : أسألك بالله ، كيف تعيشين

    معهن ؟



    قالت عهود بسخرية : ماذا ستفعل المسكينة ، مضطرة !


    قالت أمي بلهجة آمرة : فلتصمتي أنتِ وإياها ، لا أريد أن أسمع نفساً

    واحداً في بيت الناس .



    قالت لينا : أتريدننا أن نموت ؟


    صاحت هديل : لماذا تأخذوننا معكم إن كنتم تعتبروننا أطفالاً ؟


    كنا قد وصلنا إلى منزلكم ، قلت لأمي إنني سأعرج على صديق قديم

    يسكن قريباً من بيتكم ، طلبت منها أن ترسل إلي برسالة حينما

    تريدني أن أحضر لإقلالهم .



    كانت هديل أخر من نزل من السيارة ، قالت لي وهي تنزل :

    عبد العزيز وش شعورك ؟



    قلت : شعوري متفشل ومنحرج أنكم خواتي والله .


    قالت وهي تضحك : خلك قريب من تيلفونك برسلك المستجدات

    أول بأول .



    أرسلت عليكِ وأنا واقف بسيارتي أمام البيت

    (( يفصلني عنكِ بعضة جدران ، أرى الآن ضوء غرفتكِ أمامي ،

    أمي بانتظارك ، فلتنزلي إليها )) ، ومن ثم أرسلت برسالة أخرى

    (( بالمناسبة ، أخواتي ! ، امسحيهم بوجهي )) !



    لم تجيبي علي مثلما توقعت ، توجهت إلى مقهى قريب من بيتكم

    وجلست وحدي منتظراً ، لا أعرف لماذا رغبت بالجلوس وحيداً ،

    ربما لم أرغب بأن يشاركني الانتظار أحد ، كنت أريد أن أعيش تلك

    اللحظات وحيداً من دون أن يخفف من وطأته علي أي أحد .



    أرسلت هديل إلي برسالة : (( حلوة بس مستحية )) !


    حلوة ! أنتِ لستِ بحلوة فقط ، أنتِ حلوة ومالحة في الوقت ذاته ،

    تجتمع بكِ كل النكهات ، وتتمثل فيكِ كل الملامح وكل الألوان

    وكل المواسم .



    صيفية أنتِ وشتوية ، ربيعية وخريفية ، فيكِ ألوان الربيع ونضجه ،

    وقار الخريف وصمته ، بهجة الصيف وعصف الشتاء فيكِ من كل لون

    طيف ، ومن كل موسم وجه ومن كل مدينة ملامح ، ومع ذلك تصفكِ

    هديل بـ (( حلوة )) ! .



    أرسلت لي أمي باقتضاب معتاد : (( تعال )) !


    تركت قهوتي التي لم أشربها وتوجهت إلى بيتكم ، اتصلت بأمي

    لأخبرها أنني في انتظارها أمام البيت لتتركني قرابة الربع ساعة أمام

    الباب ... كنت أتأمل سائقكِ الذي كان يجلس على كرسي خارجي

    بحسد شديد ، لم أعرف لأي درجة كنت محظوظاً بمشاركتكِ السيارة

    إلا بعدما جئنا إلى الرياض وأصبح وجودنا معاً مستحيلاً

    ومنافياً للقانون .



    ركبت أمي وأخواتي السيارة وهن يتناقشن على الرغم من أن

    المسافة التي تفصل بين السيارة وباب البيت لا تتجاوز الخمسة أمتار !

    ، قلت لأمي مازحاً ما إن ركبت : حش ، حش ! بس حش !



    قالت عهود : ما شاء الله وش هالعروس يا عبد العزيز!


    قالت لينا : حلوة بس قصيرة عليك .


    قالت عهود : أخوك طويل ، أي بنت بتكون قصيرة عليه .


    مسكت يد أمي وقلت : وأنتِ يالغالية ، وش رأيك ؟


    قالت بهدوء : حلوة ومؤدبة ! ، ما شاء الله خواتها مؤدبات بعد .


    -أعجبتك يعني ؟


    -أهم شيء معجبتك أنت ؟


    قالت عهود مازحة : معجبتها يا حبيبي بس ماتبي تعترف

    شكلها غيرانة عليك .



    سألت أمي : أفا يا أم عبد العزيز ، ما أعجبتك ؟!


    -إلا والله أعجبتني ، حلوة ومؤدبة وتستحي وبنت ناس ، الله يتمم

    لكم على خير .



    تنهدت من أعماق روحي ، كانت مباركة أمي تعني لي وقتذاك كل

    الأشياء ! ، كنت أسمع أخواتي يتناقشن خلفي ، يطرحن الأسئلة علي

    ، ويسخرن مني من دون أن أميز فعلاً ما يقلنه ، كنت مرتاحاً وسعيداً

    ومطمئناً لدرجة أنني لم أعد أشعر إلا بنفسي وهي تتنفس

    الطمأنينة .



    أوصلت أهلي إل أخبرت أمي أنني سأكمل سهرتي لدى صديقي ،

    وقضيت طوال الليلة معكِ على الهاتف وأنا أجوب طرقات الرياض ،

    كمتسكع بلا بيت أو مأوى .



    قلت لكِ إنكِ أعجبتِ أمي لأنكِ مؤدبة ! سألتكِ كيف حكمت

    عليكِ بالأدب خلال ساعة ونصف ؟!



    قلتِ : ربما لأنني لم أنبس بحرف طوال الوقت !


    ضحكت كثيراً لأنني لم أتوقع غير ذلك ، أنتِ هكذا ، وأظن بأنكِ

    ستظلين كذلك ، مؤمن أنا لأن خجلك فطري وليس بمكتسب ، خلقتِ

    من خجل محض وصاف ، على الرغم من ثقتكِ واعتدادكِ بنفسكِ إلا أن

    الخجل طبعك ، صفتك وسمتك التي لن تتغير .



    لم يكن قد تبقى على أن نكون مخطوبين (( رسمياً )) إلا أن أراكِ

    وبشكل (( رسمي )) أيضاً ! ، قلت لك إن أمي ستتصل بأمك لتحدد

    موعداً أزوركم فيه لرؤيتك ، سألتني لماذا أريد أن أراك وقد رأيتك الآف

    المرات خلال أربع سنوات ؟ ، قلت مازحاً إنني قد أجد فيك ما يعيبكِ إن

    رأيتك رؤية شرعية ، لذا يجب علينا أن نرى بعضنا بشكل شرعي

    قبل أن نتورط في الزواج .



    كنتِ متعجبة كثيراً من إصراري على أن نرى بعضنا بتلك الطريقة ،

    ولا أدري لماذا لم أخبرك أنني قد اشتقت لرؤيتكِ بعد أسابيع طويلة

    من الحرمان ، للم أخبرك أنني أفتقد دفء ملامحكِ ، ابتسامتكِ الخجولة

    ، ورؤيتكِ وأنتِ تتنفسين ! ، كنت أريد أن أراكِ في منزلكم بحضرة أبيكِ ،

    أراكِ تدخلين أمامي متوجهة إلي وهو بجواري مباركاً حضوركِ لإلي

    وسعيي إليكِ ، لم أكن لأفوت على نفسي لذة كهذه ياجمان ، لم أكن

    لأحرم نفسي منها قط .



    اتصلت أمي بأمك في اليوم التالي واتفقنا على أن أحضر لرؤيتك ،

    اتصلت بأبيكِ واستأذنته بالحضور وطلب مني أن أجيء مبكراً

    لنتعرف أنا وهو على بعضنا أكثر فأكثر .



    حضرت مبكراً مثلما طلب ، لم يكن هناك أحد غيره حينما استقبلني ،

    جلس معي في صدر المجلس وأخذ يحدثني عنكِ ، قال لي بأن الرجل

    لا يشعر بأنه أصبح أباً فعلاً إلا بعدما ينجب بنتاً ، قال :

    (( فرحت كثيراً حينما رزقني الله بخالد وبعدها بسعود ،

    لكن فرحتي بجمانة لم تعادلها في في الدنيا فرحة ، لطالما كانت

    جمانة فرحتي الكبرى يا عبد العزيز ، لذا سأوصيك عليها طوال الحياة

    في يوم الزواج لن أسلم لك ابنتي يا عبد العزيز ، في يوم الزواج

    سأسلم لك الأمانة ، وسأشهد الله وخلقه على تسليمك إياه ،

    وسأسلك عن أمانتي لديك يوم القيامة ، إن أسأت إليها أو ظلمتها يوماً

    لن يكون حسابك عسيراً معي فحسب ، سيكون الله الحكم بيننا

    و لا أعدل من الله حكماً وحاكماً )) .



    كنت أستمع إلى أبيكِ بجوارحي كلها ، وصدى كلماته تدوي في

    نفسي ، استرسل : إن لم تكن تقدر على حمل الأمانة والحفاظ عليها ،

    لا تقدم على حملها يا عبد العزيز .



    قلت : سأحافظ عليها يا عم ، أعاهدك بذلك وأشهد الله على عهدي .


    قال : الله خير شاهد .


    سمعت صوت خطواتكِ وأنتِ تقتربين ، لا أحد يستطيع أن يميز قرع

    كعب حذائكِ مثلما أفعل أنا ! لا قدرة لأحد على أن يدرك أنك من يقترب

    سواي ، أنا وحدي من يميز صوت اقترابك من بين الآف البشر ، وها أنا

    أستمع إليك تقتربين خطوة بخطوة ، رجفة برجفة ، تدوسين بها على

    قلبي فينقبض من وجع الحب والترقب والفرح .كان والدكِ يتحدث

    إلي وكنت أنظر إليه مباشرة وأنا أنصت لقرع حذائك ، حينما سمعت

    صوتكِ : مساء الخير !



    التفت إليك ، وقعت عيناي بعينيكِ فابتسمتُ وابتسمتِ حباً جلست

    على أبعد أريكة مني ، الأريكة التي بجوار الباب من دون أن يدعوكِ

    والدك للجلوس ، قال والدكِ وهو يشير بيده : جمانة ، اقتربي يا بابا !



    قمت ومشيتِ تجاهي بخطواتٍ خجولة ، جلستِ على يميني ، قال

    والدك : عبد العزيز هذه جمانة ، أحب بناتي وأقربهن إلي .



    التفت إليكِ ، ابتسمتِ لي ، شعرت بالدمع يبلل عيني على الرغم

    مني ، قلت لك : كيف حالك يا جمانة ؟



    ترقرقت عيناكِ بالدمع ولم تجيبي ، كنا ننظر إلى بعضنا مأخوذين

    بسعادة الحكاية ، كنتِ في أجمل حالاتكِ ، بل كنتِ أجمل من على

    هذه الأرض ، أجملهن على الإطلاق !



    قال والدك بصوت هادئ وقد لمح ما في أعيننا : القهوة يا جمانة .


    كنت أدرك أنكِ لا تعرفين كيف تحملين القهوة ولا تعرفين كيف

    تسكبينها ، خشيت أن تنسكب عليك ، فقمت لأصبها ، قام والدكِ

    من مكانه وأمسك بها حالفاً أن يقوم بذلك ، حلفت أن لا يسكبها أحد

    غيري ، جلس والدك في مكانه وناولته فنجان القهوة ، قال لي مازحاً

    وأنا أجلس : كان يُفترض أن تصب لعروسك أولاً .



    قلت مرتبكاً : لم أكن أعرف أنها تشرب القهوة !


    أبعد والدكِ فنجان قهوته عن شفتيه ونظر إلي مندهشاً وقال : فعلاً ،

    هي لا تحب القهوة العربية .



    كان جلياً أن والدك قد فهم أو تأكد من معرفتنا الوطيدة لبعضنا

    ومن خلال خيوط الحكاية ، بعدما أشرت إلى أنك لا تحبين القهوة .



    أخذ والدكِ يحكي لي عن طفولتكِ وعن العائلة ، سألني عن طفولتي

    وعن حياتي وعن أفراد عائلتي ، تحدثنا عن الحياة والعمل والمستقبل

    ، قال لي : على فكرة ، حتى لا نخدعك أو نغشك ، جمانة لا تجيد

    شيئاً من أعمال المنزل .



    قلت : فتيات هذا الجيل لا يجدن شيئاً قبل الزواج يا عم ، لكنني قد

    أساعد جمانة وأعلمها كل شيء ، ما رأيك يا جمانة ؟



    قلت بصوت منخفض : ربما !


    كان من الواضح أنكِ تشعرين بالإحراج لوجود والدكِ معنا ،شعر والدكِ

    بذلك فأستأذن مني ليطلب من السائق أمراً قال : أعتبر نفسك في

    بيتك يا عبد العزيز ، سأعود بعد قليل .



    التفتّ إليكِ ، كنتِ تراقبين والدكِ وهو يبتعد ، فقلت :

    شرايك تتركيني تلحقينه ؟



    ضحكتِ بصوت منخفض انتشاءً بضحكتك ،أخذت اتأملكِ بشعركِ البني

    المموج ، وسمرتكِ اللذيذة ، أتأمل عينيكِ الواسعتين وضحكتك التي

    تشف عن صفين من اللؤلوء الناصع ، حركت شفتي من دون صوت

    أحبكِ !



    فتحتِ يديكِ حتى آخرهما وأنتِ تشرين بسعادة حولنا : عزيز ! ، أنت

    في بيتنا !!



    نظرت إلى الباب لأتأكد من أن والدكِ بعيداً ، قمت من مكاني بسرعة ،

    وضعت يدي على خدك الأيسر وقبلت خدك الأيمن القبلة التي لطالما

    حلمت بها ، قبلتكِ قبلة طويلة واحدة ، حكيت لكِ فيها عن لوعة قلبي

    وعن حلم سنواتي الماضية ، عدت مكاني بسرعة وقلت :

    حتى لا تنسي تاريخ القبلة الأولى ، ولتذكري دوماً أن القبلة الأولى

    كانت في بيتكم !



    دخل والدكِ ، فاستأذنتِ مغادرة ، راح يحدثني عن السائق الذي يعيش

    في بيتكم منذ أحد عشر عاماً وكيف أنه يعتبره كأحد أبنائه ، تحدثنا

    قليلاً عن الخدم ، مساوئهم وحسناتهم ،وبعدها استأذنته في الرحيل

    متفقين على أن تقوم (( السيدات )) بالترتيب للخطوة اللاحقة .



    اتصلت بكِ ما إن ركبت السيارة ، عاتبتني على القبلة وتساءلتِ عما

    كان سيفعله والدك بي إن كان قد دخل في اللحظة التي قبلتكِ فيها ،

    قلت لكِ بأنه كان سيزوجنا الليلة ، كنتِ سعيدة على الطرف الآخر ،

    يرقص صوتكِ من فرط السعادة ، كنت واقفاً أمام الإشارة أحدثكِ حينما

    التفت إلى السيارة المجاورة ، كانت سيارة فارهة تركب في مقعدها

    الخلفي فتاة جميلة سافرة الرأس وتتحدث على الهاتف ، كانت الفتاة

    تضع حجابها على كتفيها بلا مبالاة وكأنها تقف في مدينة غير التي كنا

    نقف فيها !



    صفّرت بشفتي : وش هالقمر ؟!


    قلتِ بدهشة : ماذا قلت ؟!


    أردت أن أستفزكِ كالعادة ، قلت بجواري فتاة توجع القلب !


    صحت فيني : أنت وقح لدرجة لا تطاق ، لقد كنا تواً معاً .


    -بدأت حالة العته ! سأغلق السماعة الآن .


    -تحدث معي مثلما أتحدث معك .


    -لا أريد أن أتحدث معكِ الآن !


    أنهيت الاتصال ، وضعت هاتفي على الوضعية الصامتة ، ورميته

    بجواري ، لم أكن أريد أن أسمع نحيباً لمجرد مزحة ، كانت الفتاة قد

    وصلت إلى بيتها بينما أنتِ تصرخين في وجهي لمجرد أنني قد أبديت

    رأيي بفتاة كانت تجلس في سيارتها بجوار سيارتي !



    الحق أنني أردت أن أتلذذ باستفزازك ، أردت أن أُثير غيرتكِ لكنكِ

    سرعان ما تلبستِ حالتك الدراماتيكية المعتادة فأردت أن أنهي

    الأمر قبل أن يتفاقم .



    كانت شاشة هاتفي تضيء باسمك طوال الطريق ، أزعجتني كثرة

    اتصالاتك أخذت الهاتف لأغلقه فإذا بصديقي عبد الله يتصل ، قال لي

    بأنه سيخرج لمخيم شبابي خارج المدينة وسألني إن كنت أرغب

    بمرافقته ، اتفقنا أن يعرج علي في بيت أهلي ليقلني بعدما أبدل

    ملابسي وأعد العدة للنوم في الصحراء .



    أرسلت إليكِ برسالة في طريقي إلى البر ، قلت لكِ فيها أنني سأبيت

    في البر مع أصدقائي ، وطلبت منكِ أن لا تتصلي لأنني لن أرد عليكِ

    حتى تتأدبي .



    كان عبد الله يثرثر طوال الطريق عن أصدقائه الذين كنا في طريقه

    إليهم ، أما أنا فكنت أفكر في أحداث هذا اليوم ، لا أعرف لماذا انطفأت

    حماستي فجأة تجاه زواجنا ، شعرت بثقل كبير يجثم فوق قلبي

    وكأنني رجل آخر غير الذي لم ينم ليلة الأمس توقاً للقائك ، لا أعرف

    لماذا فترت فجأة ، ربما أخافني كلام والدكِ كثيراً ، شيء ما في

    كلماته هزني وقبض فؤادي بصورة لم أفهمها ، وربما لأنني توقعت

    أن تواجه زواجنا عراقيل كثيرة فتفاجأت حينما تيسر كل شيء بصورة

    سريعة لا تصدق ، فاختلت موازيني بعض الشيء .



    الحقيقة أنني لا أعرف ما الذي اعتراني ، لكن الخوف من الزواج بدأ

    يدب في نفسي حالما خرجت من باب منزلكم ، لا أعرف إن كنا قادرين

    على أن نعيش حياة أبدية معاً ، لا أعرف إن كنا ننفع كزوجين

    من الأساس !



    أحبكِ كثيراً و لا أظن بأنني قادر على أن أحب امرأة أكثر مما أحببتكِ

    وأحبك ، لكني لا أعرف إن كنت مستعداً فعلاً لأن أتزوج الآن ، الحق

    أنني لا أعرف إن كنت سأفكر في الزواج الآن لولا ما حدث بيننا خلال

    العام الماضي ، ولولا أنكِ ستعودين قريباً إلى الوطن وإلى الأبد .



    الخدش الذي حدث في علاقتنا واقتراب موعد عودتكِ وترككِ لي في

    الغربة وحدي ، كانت عوامل تضغط بالنسبة إلي ، جعلتني لا أفكر

    إلا في أن أستبقيكِ بأي صورة كانت .



    بقدر ما كنت سعيداً ومتعجلاً في موضوع الزواج ، بقدر ما بت أشعر

    بالتورط يا جمانة ، أخاف أن أتورط في قفص لم أستعد له ، وأخاف أن

    أورطكِ مع رجل غير جاهز لأن يكون زوجاً بعد .

    ربما استعجلنا يا جمان ، ربما استعجلنا الأمر كثيراً !




    ***

  10. #80
    من المشرفين القدامى
    جيل الطيبين
    مضت ثلاثة أيام على زيارتي لكِ في بيت أهلك ، طلبت من أمي أن

    لا تتعجل بالترتيب مع أمكِ لشيء قلت لها إننا بحاجة لبعض الوقت

    لنرتب أوضاعنا وجداولنا قبل البت بأي أمر يخص الزواج .



    كنت مضطرباً للغاية ، شيء ما في داخلي كان يتأرجح ، لا أعرف

    حقيقة ما الذي انتابني ، كل ما أعرفه هو أنني كنت بحاجة لأن أختلي

    بنفسي ، وأن أبتعد عنكِ لأفكر وحيداً من دون أية ضغوط عاطفية منكِ .



    لم أقدر على أن أشرح لكِ هذا ، ولم تفهمي أنتِ أنني بحاجة لبعض

    الوقت لأرتب أفكاري وأولوياتي ومشاعري ، كنتِ تلحين علي

    باتصالاتكِ ورسائلكِ ، كنت ملحاحة لدرجة أفقدتني الصبر والحلم

    واللطف !



    قلت لك في اليوم الثالث وحينما سألتني : ما هي الخطوة اللاحقة ؟


    -هل استخرتِ الله أولاً ؟


    سألتني بدهشة : فِيمَ أستخير الله ؟!


    -في زواجنا .


    -أتطلب مني الآن بعدما تسهل كل شيء أن أستخير ؟!


    -وماذا في ذلك ؟ أرجوكِ استخيري قبل أي شيء .


    كنتِ مندهشة من طلبي ، مثلما كنت مندهشاً أنا من نفسي !


    ربما طلبت منكِ أن تصلي صلاة الاستخارة لأنني كنت أتمنى من

    أعماقي أن تطلبي أنتِ تأجيل الزواج أو التراجع عنه ، كنت أريدكِ

    أن تطلبي ذلك مني ، لم أرغب بأن أكون من يطلب هذا الطلب

    وبعد كل هذا .



    كنت أعرف أن فتاة مفرطة الحساسية مثلكِ لن يمر عليها أمر كهذا

    مرور الكرام ، فتاة مثلك قد لا تشفى من هذا الأمر أبداً ، كنت أدرك أن

    التراجع عن الزواج سيوشم على قلبك وأنكِ ستتألمين بسببه طوال

    العمر ، ليس لأنكِ حساسة فحسب ، بل لأنكِ فتاة معتدة بذاتها

    على الرغم من التنازلات .



    تشاجرت معكِ بعد طلبي بساعات ، كنتِ متوجسة بعدما طلبت منك

    أن تستخيري ، سألتني إن كان قد استجد في حياتي شيء أو أحد،

    أزعجني اتهامك كثيراً ، غضبت منكِ ، تشاجرت معكِ وتركتكِ

    تغرقين في دوامة أفكارك وحيدة .



    كنت منزعجاً للغاية بعدما أنهيت اتصالي معكِ ، لم أكن أعرف ماذا

    أفعل وماذا سأفعل ، كنت ضائعاً ما بين حبي إليك وما بين عدم قدرتي

    على الالتزام حالياً ، أزعجني أيضاً أنكِ شككتِ بي على الرغم من

    أنني لم أفعل شيئاً .



    فتحت جهاز حاسبي ورحت أبحث عن بعض الصور الإباحية لأنتقم منكِ

    بها ! كانت هذه حيلتي الدائمة لأنتقم منكِ في داخل نفسي ، في كل

    مرة تظنين بي ظلماً ، أبحث عن صور أؤذيك فيها من خلالها ، كنت

    أعرف أنك ستنزعجين كثيراً منها وستعدينها خيانة عظمى في عرفكِ

    الدرامي السخيف ، لذا كنت أنتقم منكِ بمشاهدتي لصور تعتبرين

    مشاهدتي لها خيانة !



    لم أتمكن من الوصول إلى شيء ، كانت كل المواقع المخزنة في

    جهازي محجوبة من قبل مدينة العلوم والتكنولوجيا ، لمع في رأسي

    فجأة اسم (( ريما )) !



    لطالما فكرت ماذا فعلت الأيام في ريما .


    لم أكن أعرف رقم هاتفها ، ولا أعرف حقيقة إن كانت عادت إلى

    الرياض أم أنا لا تزال مغتربة ، كان قد مضى على آخر اتصال بيننا أكثر

    من تسع سنوات ، عقد كامل غابت عني فيه وغبت فيه عنها .



    لا أظن بأنها تزوجت ، ولا أظن بأنها قد عادت ، لكن عقداً كاملاً كفيل بأن

    يغير كل شيء في مبادئنا وأفكارنا ومشاعرنا ومصائرنا .



    فتحت على موقع الـ facebook سجلت اسمها في خانة البحث

    وأعددت نفسي لليلة طويلة من البحث ، ليفاجئني وجود اسمها

    وصورتها كأول اسم في القائمة ، أنحنيت أبحلق في الشاشة

    مندهشاً ، لم أكن أتوقع أن أجدها بهذه السرعة أبداً !



    كانت صفحتها خاصة ومحمية ، كانت بياناتها الظاهرة والموجودة في

    صفحتها تتضمن اسمها ، تاريخ ميلادها ، لإقامتها في ميتشغن في

    الولايات المتحدة ، وحالتها الاجتماعية التي لم تكن عزباء و لا مخطوبة

    و لا متزوجة ، بل كانت (( معقدة )) حسب ما وضعت في صفحتها !



    أخذت أتأمل صورتها ، لم تتغير كثيراً ، بدت لي أجمل مما كانت ، كما

    بدت أصغر بكثير من عمرها الحقيقي ، ابتسمت حينما رأيت صورة ريما

    ، تذكرت جنوننا وطيشنا والليلة التي غيرت في حياتي كل شيء .



    أخذت أفكر في حالتها الاجتماعية المعقدة ! ماذا قد تعني ؟!

    أهي معلقة في زواج ، ليست زوجة و لا مطلقة ؟ أم أنها على علاقة

    برجل لا تستطيع الزواج منه ؟! ربما رجل متزوج وربما رجل ليس

    مسلم ولا سعودي ، أو ربما هي على علاقة بامرأة أخرى ! فحدود ريما

    تتسع لفكرة كهذه .



    خطرت في بالي احتمالات كثيرة وأفكار أكثر ، كان لدي فضول شديد

    لأعرف ماذا حل بريما وماذا تفعل في الحياة الآن ، فكرت كثيراً وترددت

    كثيراً ، كنت أعرف أن أي اتصال بامرأة ثانية سيزعجكِ كثيراً مهما كان

    نوع الاتصال ، ومهما كانت أطرافه ، لكني أدرك أنك لن تعرفي شيئاً

    ولن تصلي إلى شيء ، كما أنني لا أرجو علاقة من ريما و لا عاطفة .



    ترددت كثيراً لكنني حسمت أمري ، فتحت أيقونة الرسالة ، كتبت

    (( مرحباً ريما ، أتمنى أنكِ لا تزالين تذكرينني ، وقعت عليكِ عن طريق

    المصادفة ، لم أصدق عيني قط ، أرجو أن تكوني بخير وسعادة ،

    أتوق كثيراً لمعرفة أخبارك ، طمئنيني عنكِ ، عبد العزيز )) .



    أخذت أبحث في الموقع عن أصدقاء قدامى لعلي أجد أحدهم مثلما

    وجدت ريما بأقل من خمس ثواني ، بعد دقائق من البحث وجدت

    أيقونة الرسائل تشير أشارة حمراء دلالة على وجود رسالة ، لم أصدق

    أن ريما أجابت بهذه السرعة ، كتبت لي : (( من أين جئت ! ،

    اتصل بي )) ، منهية رسالتها المختصرة برقمها الأمريكي الطويل !



    أخذت هاتفها وأنا أتمتم : أي ليلة هذه !



    ***

صفحة 8 من 11 الأولىالأولى ... 67 8910 ... الأخيرةالأخيرة
تم تطوير موقع درر العراق بواسطة Samer

قوانين المنتديات العامة

Google+

متصفح Chrome هو الأفضل لتصفح الانترنت في الجوال