بدأت نوبات الهلع المرضية تنتابني في سنتي الثانية هنا ، على الرغم
من أن العيش هنا والابتعاد عن مجتمعنا بكل شرائحه كان أكبر
أحلامي في مراهقتي ، إلا أن الخوف من الموت وحيداً كان ينتابني
بين الحين والآخر و لا يزال يفعل في بعض أوقات حزني وبأسي .
فكرت كثيراً فيما لو زارني الموت فجأة في غربتي ، كم سأمكث ميتاً
قبل أن يكتشف موتي أحد ، وكم سيبقى جسدي عالقاً هنا قبل أن
تنهي السفارة إجراءات نقلي إلى الرياض .
الرياض حيث أرجو أن أموت !
أنا لا أحب أن أعيش في الرياض ، لم أحب يوماً مولدي بها و لا حياتي
فيها ، لكنني أريد حتماً أن أموت فيها ، أشعر أحياناً بأن الرياض أرض
للموت وليست للحياة ، أرض يُفترض أن نعيش بعيداً عنها ،لكن علينا
أن نعود إليها يوماً لنلفظ أنفاسنا الأخيرة فيها .
لذا انتقلت من الشقة التي كنت أعيش فيها إلى بيت باتي وروبرت ،
أردت أن أنام في بيت يشاركني التنفس فيه أحد ، استبعدت تماماً
مشاركة شقة مع أحد الزملاء الخليجيين ، لأنني كنت أدرك أن أهواء
الطلبة في نمط الحياة مختلفة وهذا ما كان سيضعنا يوماً أمام نقطة
خلاف كبيرة ، خشيت أن أخسر علاقتي مع أحد فأثرت العيش مع
كهلين كنديين ، أحببتهما كثيراً وخففا من وطأة الغربة علي ليالي
كثيرة .
أتدرين ، تراجعت نوبات هلعي كثيراً عندما عرفتكِ ، جئتِ فانتشلتني
من مخاوفي وقلقي ، أسكنتِ السكينة في قلبي ، فبت أنام قريراً
متفائلاً هادئاً ومطمئناً .
لكن الخوف عاودني بعد أربع سنوات من الطمأنينة ، فبعد ارتفاع وثيرة
خلافنا في الآونة الأخيرة ، عاودتني نوبات الهلع من جديد وكأنها لم
تغادرني يوماً .
أشعر أحياناً أنها عادت أكثر وطأة وحدة ، وأظن بأنها ستقتلني يوماً ،
وأنني سأموت من شدة الهلع .
أذكر أول مرة زارني الخوف فيها بعد انقطاع ، كنتِ قد أخبرتني عن
مبتعث إماراتي قابلته في إحدى المقاهي القريبة من الجامعة مع
هيفاء ، قلتِ بأنه دفع حسابكما ، وضحكت كثيراً على هيفاء التي
جعلته يندم على تلك الشهامة غير المبررة ،
والتي لم يكن لها مناسبة .
أخبرتني بعدها بشهر أنكِ كنتِ تجلسين في ذلك المقهى بانتظار
موعد محاضرتك ، عندما صادفته مع ابنيه وأنكما تبادلتما أطراف
الحديث ، كنتِ تتحدثين عن حواركما بحماسة أثارت غيرتي ، فعلى
الرغم من أنني كنت أثق تمام الثقة بأنه من المستحيل أن ينتشلني
أحد من أعماقك ، أو أن يثير اهتمامكِ أحد غيري ، لكن هاتين
المصادفتين لم تكونا مريحتين بالنسبة إلي .
لذا غضبت كثيراً ، عاتبتكِ وطلبت منكِ أن لا تتحدثي معه أبداً
لو صادفته في أي مكان .
كنا نجلس في مقهانا الخاص ، عندما جاءتنا نادلة المقهى التي تعرفنا
جيداً ، مدت إليكِ بورقة صغيرة ، وقالت إن رجلاً جاء ليسأل عنكِ ،
وأنه طلب منها أن تسلمكِ هذه الورقة .
لا أعرف ما الذي تلبسني لأسحب الورقة من النادلة من دون أن
أستأذنها أو أستأذنكِ ، كان خط ماجد جميلاً ، مثيراً ، ورائحة الغزل تفوح
من حروفه التي أرد أن يجس نبضكِ بها .
كانت حروفه مختصرة ، لكنها واضحة
( جمانة ، مررت ولم أجدك ، أفكر بكِ كثيراً ، ماجد العاتكي ) .
شعرت حينئذ بأن الآف اللترات من الدماء الساخنة ضخت في أوردتي ،
وكانت دمائي تغلي ، تغلي فعلاً ! ، شعرت بأنفاسي تتصاعد حارة
وبعضلاتي تتشنج ، لن أقول بأنه تملكني الغضب لأنني تمكنت من
كبحه فقمت من مكاني خوفاً عليكِ .
رميت الورقة في وجهكِ وهرولت إلى سيارتي مسرعاً ، كنت أريد أن
أبتعد عنكِ بأسرع وقت ، خشيت عليك مني ، خفت أن يعميني الغضب
وأن أؤذيكِ ، لذا ركبت سيارتي بسرعة وانطلقت بها بلا وجهة محددة .
في طريقي إلى حيث لا أدري ، شعرت بأسناني تصك ببعضها بدون
إرادة مني ، بدأت أنفاسي تضطرب وبدأ جسدي ينز عرقاً ، شعرت
بالاختناق وبأنني سأصدم بإحدى السيارات أو بإحد المارة ، أوقفت
سيارتي وأنا أقاوم الشعور بدنو النهاية .
كان نشيج أنفاسي يملأ عقلي ، كنت أحاول التنفس بقوة فأسمع
صوت أنفاسي المضطربة ويزداد هلعي أكثر فأكثر ، حللت حزام
الأمان ، فتحت نافذتي بيد ترتعش ، حاولت أن أتنفس ، أطرد الموت
من رأسي ، أن أتشبث بالحياة .
سمعت صوت هاتفي ، كان زياد هو المتصل ، أجبته وأنا أرتجف ،
سألني ما إن سمع صوتي : عسى ماشر !
-أحس أني بموت .
قال بقلق : وش صاير وش فيك ؟
أجبته وأنا ألهث وقد بدأت أهدأ : كنت ماشي وحسيت أني بصدم .
قال زياد متفهماً : فهمت فهمت ،استرخِ وتنفس ، ما فيك شيء أنت
معي على الخط وكل أمورك كويسة .
حاول زياد أن يطيل معي الحديث وأن يجعله مرحاً قدر الإمكان ، قال
مازحاً في نهاية المكالمة وبعدما تأكد من أنني أصبحت أكثر ارتياحاً :
لا تكبر الموضوع في داخلك ، مجرد panic attack وراحت بيتهم !
شعرت بأن مكالمة زياد قد انتشلتني من بين فكي الهلع فعلاً ،
لا أدري ما الذي كان سيحل بي لو لم يتصل بي زياد أو لم أتمكن
من الرد عليه .
ربما كنت سأظل في سيارتي حتى أموت هلعاً ، على الرغم من أن
جميع الأطباء الذين سبق وأن استشرتهم في نوباتي تلك ، قد أكدوا
لي أن لا أحد يموت من نوبة هلع ، إلا أنني أدرك أن أحد منهم لم
يشعر بما أشعر به ، الأطباء يفتون دوماً فيما تعلموا وليس فيما جربوا
وعايشوا .
في ذلك اليوم ، كرهتكِ كثيراً يا جمانة ، كرهتكِ ، ليس لأنكِ لم
تخبريني عن كيف عرف ماجد عن مقهانا ، و لا لماذا يبحث عنكِ فقط ،
كرهتكِ يومها لأنني تخلصت من الهلع بسببك و لأنه عاد إلي
بسببكِ أيضاً .
لم أتخيل يوماً أن أعايش الهلع من جديد ، ظننت بأنني قد انتهيت منه
إلى الأبد وبأن الرعب من الموت لن يعاودني إلا عند الموت ، فلماذا
أعدتِ ذلك الهاجس إلي ؟!
مشطت الطرقات بعدما أنهى زياد المكالمة ، كنت بحاجة لأن أتوه
بعيداً عن كل مكان يعرفني وأعرفه ، شعرت حينذاك بالحنق تجاهكِ ،
كنت أدرك أنك لم تفعلي شيئاً ، وأن هناك لبساً لا دخل لكِ فيه ،
لكنني كنت بحاجة لأن أغضب منكِ ، لأن أشعر بأنكِ آذيتني ، كنت
أحتاج لأن أشعر بذلك لأنني لطالما كنت من يغضبكِ ومن يؤذيكِ .
ربما رغبت في لاوعيي أن تخونيني حتى نتعادل ، أو ربما حتى
تخلصيني من تأنيب الضمير ، لكنني ، وعلى الرغم من رغبتي
المستترة في داخلي ، شعرت بالمهانة من فعلك وكذلك بالخيبة !
أعرف بأنك لن تفهمي شيئاً من هذه المشاعر ، وأعتقد بأنه من
الصعب أن يفهمها أحد ، أنا نفسي لم أتمكن من فهمها والوصل إلى
تحليل لها إلا بعد أشهر طويلة مما حدث .
لا أدري كيف أشرح لك ما شعرت به وما رغبت فيه !
أردت أن أصدق أنكِ تخونيني ربما لأنني أشعر بأنني لا أستحقك ،
لكنني عندما أقنعت نفسي بأنكِ فعلتِ ، شعرت بألم لا يطاق وخوف
من خسارتك ، تألمت كثيراً، تألمت بشدة !
عدت إلى المنزل بعد ساعات من التجوال من دون هدف أو وجهة ،
كنت أحاول أن أفسر مشاعري وأن أرتب أفكاري بلا نتيجة ، فعدت إلى
المنزل بعدما أغلقت هاتفي الذي كاد أن يثن من رجاء مكالماتك .
وجدت روبرت وباتي يتابعان برنامجاً عند دخولي البيت ، حييتهما
مسرعاً ، فاستوقفني روبرت وهو يشير بجهاز التحكم : عزيز ، جاءت
جمانة قبل ساعات ، كانت تريد أن تقابلك .
-سأتصل بها ، شكراً بوب .
قالت باتي بحاجبين معقودين : لو فعل بي بوب بعض ما فعلته وتفعله
بجمانة ، لهجرته منذ سنوات ، فأجبتها ممازحاً :
-أنتِ تهددينه بالهجر منذ أن عرفتكما ، لما لا تهجرينه بدلاً من هذا
الإرهاب الذي تمارسينه عليه ؟!
ضحك روبرت سعيداً بدفاعي عنه ، فحملت هي إبريق الشاي متوجهة
إلى المطبخ وهي تتمتم متذمرة .
دخلت غرفتي ، اضطجعت فوق سريري وأنا أشعر بغيمة من الخذلان
تظللني ، كنت أفكر لكم هي موجعة هذه المشاعر ، كنت أتشرب
بفكرة الخيانة أكثر فأكثر ، وصراع دام يجري في أعماقي المضطربة .
كان يصرخ شيء في داخلي محاولاً إيقاظي من تلك الخيبة ، كان
يهتف بأنه من المستحيل أن تفعلي بي أمراً كهذا ، ليس لأنك تحبينني
فقط ، بل لأنك لا تشبهين هذا السلوك و لا تعرفين هذه الفكرة
و لا تحملين هذا الجين ، أنتِ امرأة لن تخون أحد يوماً ما ، لأنكِ ببساطة
لا تعرفين ماهية الخيانة ولا تشعرين بمتعتها .
وكان يصرخ في الجهة المقابلة وبصوتٍ جهور ، هاتف يصر على أنكِ
فعلتِ ، كان يهزني صائحاً : لقد أهنت ، خدعت ، هي تعبث معك وبك !
أردت أن أصدق الهاتفين ، أردت أن تخونيني وأن لا تفعلي ، أردت أن
أثق بك لكنني أردت أن أشك بكِ أيضاً ، صدقيني لا أعرف لماذا عشت
وأعيش ذلك ! ، أنا مريض ، لا شك عندي في هذا ، لكنني لا أعرف
السبب .
كانت الأفكار تتصادم داخل رأسي ، شعرت به يتضخم ، يثقل ويتأرجح ،
فتحت الدرج بجانب السرير ، تناولت حبتين من مهدئ كان قد صرفه
لي أحد الأطباء قبل سنوات ، واستسلمت لداع البكاء الملح داخل
نفسي .
أظن بأنني بكيت كل شيء ، كل حدث وكل أحد ، كنت بحاجة لأن أبكي
بعد فترة طويلة من عدم القدرة على البكاء ، فتهيأ لي سبب لأبكي كل
المواقف الماضية ، كنت خائفاً أكثر من أي شيء ، أرعبتني نوبة الهلع
التي انتابتني في سيارتي ، شعرت بأنكِ السبب ، وبأنني سأقع أسير
تلك النوباتِ من جديد .
أخذت هاتفي واتصلت بك ، أجبتني بعد النغمة الأولى ، صرخت بكِ ،
شتمتكِ . قلت لك بأنني تناولت حبتين ، وبأنني سأتناول بقية العلبة
إن لم تعترفي بما لم تقومي به ، فعلتِ من أجل أن أهدأ فانهرت
حينما فعلتِ !
عندما سمعت منكِ ما أردت سماعه ، أنهيت المكالمة وأنتِ ترجينني
أن أسمعك ، ركضت إلى الحمام ، وضعت إصبعي في حلقي لأتقيأ
ما ابتلعته ، تقيأت الحبتين ، لكنني لم أستطع أن أتقيأ الحزن والهلع
والغضب !
***