قصه منقوله وحقيقيه على حد علمي
لماذا لم يدقّوا جدران الخزان ؟!
في عام ١٩٦٣ كتب الفلسطيني غسان كنفاني روايته "رجال في الشمس" التي تدور أحداثها حول ثلاثة فلسطينيين من أجيال مختلفة جمعهم حلم واحد، وهو حلم الهروب من واقعهم الفلسطيني البائس والمزري، ونظراً لظروفهم المادية الصعبة فقد قرروا الهروب إلى الكويت عبر خزان ماء صدىء يقوده فلسطيني رابع يُدعى "أبو الخيزران"، الرجل الذي فقد رجولته في حرب عام ١٩٤٨، وهو ما برح بوعد الرجال الثلاثة بأنه يملك نفوذاً عند الحدود العراقية الكويتية تمكنهم من العبور بكل سهولة ويسر ..إنطلق "أبو الخيزران" بخزّانه بعد أن نفض جيوب الثلاثة المساكين في رحلة شاقة متعبة إلى البصرة عبر الصحراء المترامية الأطراف، وفي شهر آب أحد أشد شهور السنة حرارة، وقبيل الوصول عند النقطة الحدودية بين البصرة والكويت، إختبىء الرجال الثلاثة داخل الخزان لمدة أقصاها سبع دقائق كما وعدهم "أبو الخيزران"، إلا أن "أبو الخيزران" أخذه الحديث مع موظفي شرطة الحدود الذين كانوا يودون سماع قصته مع الراقصة، فتعدَّت أكثر من عشرين دقيقة و"أبو الخيزران" يتصبب عرقاً لتخليص الأوراق منهم، وهم في سخرية كبيرة .. والثلاثة المساكين داخل خزان صدىء وتحت لهيب الشمس الحارقة، وهم راقدون بصمت خشية أن يفتضح أمرهم .. وبعد أن فرغ "أبو الخيزران" من حديثه المُسهب، قاد خزانه بعيداً عن أنظار موظفي الشرطة الحدودية .. ليجد الثلاثة المساكين قد لفظوا أنفاسهم الأخيرة داخل الخزان الذي أحرقهم لهيبه .. فيتسائل "أبو الخيزران" ليبرر جشعه :" كان عليهم أن يدقوا الخزان" .. وتنتهي الرواية.
إلا أن غسان كنفاني ذاته يتسائل صارخاً:
" لماذا لم يدقوا جدران الخزان ؟! لماذا ؟! لماذا؟!"
هذه الرواية ذات رموز ودلالات سياسية واضحة، فهي ترمز إلى الفشل المتكرر للقيادات الفلسطينية التي تحمل لواء هذه الأرض وهذا الشعب المسكين، فـ"أبو الخيزران" يمثل القيادات الفلسطينية الجشعة التي لا يهمها إلا أن تملأ بطونها وجيوبها على حساب الشعب الأعزل، والتي فقدت هيبتها بعد حرب عام ١٩٤٨، والتي تقفُ مذلولة أمام الغرب "شرطة الحدود"، والثلاثة رجال من أجيال مختلفة دلالة على أن هذا الشعب قد هرم وشاخ دون أن يطال شيئاً يحقق أحلامه في التحرير والخلاص والنهوض .. والسؤال:"لماذا لم يدقوا جدران الخزان ..؟!!" دلالة على الثورة .. لماذا لا يثور الشعب على قياداته الجشعة؟ ولماذا يفضل الموت بهذا الصمت المقيت؟ لماذا؟!
إلا أن هذه الرواية لم تعد تمثل الواقع الفلسطيني وحسب، بل هي واقعٌ عربيٌ ممتد .. واقعٌ بائسٌ وأليم .. وها هو حتى عندما ثار الشعب العربي وإنتفض، أخرج "أبو الخيزران" خيزرانه ليضرب ويبطش بلا رحمة أو هوادة .. إذن؛ هما خياران للموت: أن تثور، أو أن تموت بصمت .. أن تنتفض أمام قياداتك، أو أن تهرب من الحرية لتغرق في الأبيض المتوسط .. لكن هناك خيار ثالث للموت هو أسوءهم: أن تعيش في هكذا واقع ..!
ولعل الإجابة على سؤالك يا غسان قد تكون:
" تُرى لماذا لم يدقوا جدران الخزان ؟! هل وصل تمسكهم بحلم الحياة حد التضحية بها! أم أن فقدان الحياة أسهل من فقدان الأمل! " ..
.
.
محمود الجعفري
.
#غسان_كنفاني_في_ذكرى_وفا ه
.