وينبغي أن يذكر ملخص هذه القصة من مغازي الواقدي وابن إسحاق ، قالا : خرج عمرو بن عبدود يوم الخندق وقد كان شهد بدرا فارتث جريحا ، ولم يشهد أحدا ، فحضر الخندق شاهرا نفسه معلما مدلا بشجاعته وبأسه ، وخرج معه ضرار بن الخطاب الفهري وعكرمة بن أبي جهل وهبيرة بن أبي وهب ونوفل بن عبدالله بن المغيرة المخزوميون ، فطافوا بخيولهم على الخندق إصعادا وانحدارا يطلبون موضعا ضيقا يعبرونه ، حتى وقفوا على أضيق موضع فيه فأكرهوا خيلهم على العبور فعبرت ، وصاروا مع المسلمين على أرض واحدة ورسول الله عليه السلام جالس وأصحابه قيام على رأسه ، فتقدم عمرو بن عبدود فدعا إلى البراز مرارا ، فلم يقم إليه أحد ، فلما أكثر قام علي عليه السلام فقال : أنا أبارزه يارسول الله ، فأمر (5) بالجلوس وأعاد عمرو النداء والناس سكوت على رؤوسهم الطير ، (6) فقال عمرو : أيها الناس إنكم تزعمون أن قتلاكم في الجنة وقتلانا في النار ، أفما يحب أحدكم أن يقدم على الجنة أو يقدم عدوا له إلى النار ؟ فلم يقم إليه أحد ، فقام علي عليه السلام دفعة * ثانية وقال : أنا له يارسول الله ، فأمره بالجلوس ، فجال عمرو بفرسه مقبلا ومدبرا إذ جاءت عظماء الاحزاب فوقفت من وراء الخندق ومدت أعناقها تنظر ، فلما رأى عمرو أن أحدا لايجيبه قال :
ولقد بححت من النداء بجمعهم هل من مبارز * ووقفت إذ جبن الشجاع موقف القرن المناجز
إني كذلك لم أزل متسرعا قبل الهزاهز * إن الشجاعة في الفتى والجود من خير الغرائز
فقام علي عليه السلام فقال : يارسول الله ائذن لي في مبارزته ، فقال : ادن ، فدنا فقلده سيفه وعممه بعمامته وقال : امض لشأنك ، فلما انصرف قال : اللهم أعنه عليه فلما قرب منه قال له مجيبا إياه من شعره :
لاتعجلن فقد أتاك مجيب صوتك غير عاجز * ذو نية وبصيرة يرجو بذاك نجاة فائز إني لآمل أن أقيم عليك نائحة الجنائز * من ضربة فوهاء يبقى ذكرها عند الهزاهز
فقال عمرو : من أنت ؟ وكان عمرو شيخا كبيرا قد جاوز الثمانين وكان نديم أبي طالب في الجاهلية فانتسب علي عليه السلام له وقال : أنا ابن أبي طالب ، فقال : أجل ، لقد كان أبوك نديما لي وصديقا ، فارجع فإني لا أحب أن أقتلك كان شيخنا أبو الخير مصدق بن شبيب النحوي يقول : إذا مررنا في القراءة عليه بهذا الموضع : والله ما أمره بالرجوع إبقاءا عليه بل خوفا منه ! فقد عرف قتلاه ببدر وأحد وعلم أنه إن ناهضه قتله ، ( فاستحيا ) ؟ أن يظهر الفشل فاظهر الابقاء والارعاء وإنه لكاذب فيها قالوا : فقال له علي عليه السلام : لكني أحب أن أقتلك : فقال : يا ابن أخي * إني لاكره أن أقتل الرجل الكريم مثلك فارجع ورائك خيرا لك ، فقال علي عليه السلام : إن قريشا يتحدث عنك أنك قلت : لايدعوني أحد إلى ثلاث الا أجيب ولو إلى واحدة منها ، قال : أجل ، قال : فإني أدعوك إلى الاسلام ، قال : دع هذه ، قال : فإني أدعوك إلى أن ترجع بمن يتبعك من قريش إلى مكة ، قال : إذا تتحدث نساء قريش عني أن غلاما خدعني ! قال : فإني أدعوك إلى البراز راجلا ، فحمي عمرو وقال : ماكنت أظن أحدا من العرب يرومها مني ، ثم نزل فعقر فرسه وقيل .
ضرب وجهه ففر وتجاولا ، فثارت لهما غبرة وارتهما عن العيون إلى أن سمع الناس التكبير عاليا من تحت الغبرة ، فعلموا أن عليا قتله وانجلت الغبرة عنهما وعلي راكب صدره يجز رأسه ، وفر أصحابه ليعبروا الخندق فظفرت بهم خيلهم إلا نوفل بن عبدالله ، فإنه قصر فرسه فوقع في الخندق ، فرماه المسلمون بالحجارة ، فقال : يامعشر الناس أكرموا من هذه ، فنزل إليه علي عليه السلام فقتله ، وأدرك الزبير هبيرة بن أبي وهب فضربه فقطع قربوسه وسقطت درع كان حملها من ورائه ، فأخذه الزبير ، وألقى عكرمة رمحه ، وناوش عمر بن الخطاب ضرار بن عمرو: فحمل عليه ضرار حتى إذا وجد عمر مس الرمح رفعه عنه وقال : إنها لنعمة مشكورة فاحفظها ياابن الخطاب ، إني كنت آليت أن لا يمتلئ يداي من قتل قرشي فأقتله ، فانصرف ضرار راجعا إلى أصحابه ، وقد كان جرى له معه * مثل هذه في يوم احد ، وقد ذكرناها ، ذكر القصتين معا محمد بن عمرو الواقدي في كتاب المغازي . (1)
--------
(1) البحار ج39 ص4