ارشاد القلوب : بالاسناد إلى أبي حمزة الثمالي عن أبي إسحاق السبيعي قال دخلت المسجد الاعظم بالكوفة فاذا أنا بشيخ أبيض الرأس واللحية لا أعرفه ، مستندا إلى أسطوانة وهو يبكي .
ودموعه تسيل على خديه ، فقلت : ياشيخ ما يبكيك ؟ فقال لي : أتى علي نيف ومائة سنة لم أر فيها عدلا ولا حقا ولا علما ظاهرا إلا ساعتين من ليل وساعتين من نهار ، وأنا أبكي لذلك ، فقلت : وما تلك الساعة والليلة و اليوم الذي رأيت فيه العدل ؟ قال : إني رجل من اليهود وكان لي ضيعة بناحية سوراء، وكان لنا جار في الضيعة من أهل الكوفة يقال له الحارث الاعور الهمداني وكان رجلا مصاب العين ، وكان لي صديقا وخليطا ، وإني دخلت الكوفة يوما من الايام ومعي طعام على أحمرة لي أريد بيعها بالكوفة ، فبينما أنا أسوق الاحمرة وقد صرت في مسبخة الكوفة وذلك بعد عشاء الآخرة ، فافتقدت حميري ، فكأن الارض ابتلعتها أو السماء تناولتها ، وكأن الجن اختطفتها ، وطلبتها يمينا وشمالا فلم أجدها ، فأتيت منزل الحارث الهمداني من ساعتي أشكو إليه ما أصابني ، وأخبرته بالخبر ، فقال : انطلق بنا إلى أمير المؤمنين عليه السلام حتى نخبره ، فانطلقنا إليه فأخبره الخبر ، فقال أمير المؤمنين عليه السلام للحارث : انصرف إلى منزلك وخلني واليهودي فأنا ضامن لحميره وطعامه حتى أردها له ، فمضى الحارث إلى منزله وأخذ أمير المؤمنين عليه السلام بيدي حتى أتينا الموضع الذي افتقدت حميري وطعامي ، فحول وجهه عني وحرك شفتيه ولسانه بكلام لم أفهمه ، ثم رفع رأسه فسمعته يقول : والله ما على هذا بايعتموني يامعشر الجن ، وايم الله لئن لم تردوا على اليهودي حميره وطعامه لانقضن عهدكم ولاجاهدنكم في الله حق جهاده ، قال : فوالله مافرغ أمير المؤمنين عليه السلام من كلامه حتى رأيت حميري وطعامي بين يدي، ثم قال أمير المؤمنين عليه السلام : اختر يا يهودي إحدى خصلتين : إما أن تسوق حميرك وأحثها عليك أو أسوقها أنا وتحثها علي أنت ، قال : قلت : بل أسوقها وأنا أقوى على حثها وتقدم أنت ياأمير المؤمنين عليه السلام أمامها إلى الرحبة ، فقال : يا يهودي إن عليك بقية من الليل فاحفظ حميرك حتى تصبح وحط أنت عنها أو أحط أنا عنها وتحفظ أنت ، فقلت : يا أمير المؤمنين أنا قوي على حطها وأنت على حفظها حتى يطلع الفجر ، فقال أمير المؤمنين عليه السلام : خلني وإياها ونم أنت حتى يطلع الفجر فلما طلع الفجر انتبهت ، فقال : قم قد طلع الفجر فاحفظ حميرك وليس عليك بأس ولا تغفل عنها حتى أعود إليك إن شاء الله تعالى .
ثم انطلق أمير المؤمنين عليه السلام فصلى بالناس الصبح ، فلما طلعت الشمس أتاني وقال : افتح برك على بركة الله تعالى وسعر طعامك ، ففعلت ، ثم قال : اختر مني خصلة من خصلتين : إما أن أبيع أنا وتستوفي أنت الثمن أو تبيع أنت وأستوفي أنا لك الثمن ، فقلت : بل أبيع أنا وتستوفي أنت الثمن ، فقال : افعل ، فلما فرغت من بيعي سلم إلي الثمن وقال لي : لك حاجة ؟ فقلت : نعم أريد أدخل السوق في شراء حوائج ، قال : فانطلق حتى أعينك فإنك ذمي ، فلم يزل معي حتى فرغت من حوائجي ، ثم ودعني ، فقلت عند الفراغ أشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له وأن محمدا عبده ورسوله وأشهد أنك عالم هذه الامة وخليفة رسول الله صلى الله عليه وآله على الجن والانس ، فجزاك الله عن الاسلام خير الجزاء ، ثم انطلقت إلى ضيعتي فأقمت بها شهورا ونحو ذلك ، فاشتقت إلى رؤيته فقدمت وسألت عنه فقيل : قد قتل أمير المؤمنين عليه السلام فاسترجعت وصليت عليه صلاة كثيرة وقلت عند فراقي : ذهب العلم ، وكان أول عدل رأيته منه تلك الليلة وآخر عدل رأيته منه في ذلك اليوم ، فمالي لا أبكي ؟ وكان هذا من دلائله عليه السلام . (1)
--------
(1) البحار ج39 ص 189