بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته



قد لا يخطئ المرء حين يقول: "وراء كلّ عظيم امرأة"، وبالأخص حين تحتل هذه المرأة مكانة الأم؛ الأم التي تُعنى بصناعة الإنسان، والتي تعبّر عن أفضل المهن وأشرفها.

الأم التي أكرمها الرسول الأعظم(ص) بقوله: "الجنة تحت أقدام الأمهات".
الأم التي أفرد لها الإسلام حقوقاً واضحة سطرها الإمام زين العابدين(ع) في رسالة الحقوق فقال: "أما حقّ أمّك فأن تعلم أنها حملتك حيث لا يحتمل أحدٌ أحداً، ووقتك بجميع جوارحها، ولم تبالِ أن تجوع وتطعمك، وتعطش وتسقيك، وتعرى وتكسوك، وتضحى وتظللك، وتهجر النوم لأجلك، ووقتك الحرّ والبرد لتكون لها، فإنك لا تطيق شكرها إلا بعون الله وتوفيقه".
الأم التي تحتل المكانة السامية من خلال الدور الإنساني المصيري الذي أُنيط بها، والذي يُختصر بإنتاج جيل رسالي واعد، قادر على تحمّل مسؤولياتٍ جسام أقل ما يُقال فيها إنها تلعب الدور الأكبر في مستقبل الأمة والإنسانية. لذا فإنّ الاهتمام بالجيل المستقبلي الواعد، يفرض علينا التفكير بالبيئة التي تحتضنه وترعاه، وتوفّر له كل سبل التربية والتعليم؛ فالبذور الجيدة لا يطيب محصولها إلا إذا غُرست في تربة طيبة توافق نموها، والولد الذكي– مثلاً- لا تتفتّح مواهبه، ولا تسمو أخلاقه إلا إذا عاش في ظروف صحية وثقافية وأخلاقية جيدة.
وإذا أردنا أن نصوغ صورة المستقبل المتمثّل بنشاطات أبنائنا، علينا أن نتوقف طويلاً عند معالم صورة من يتحمل مسؤولية رعايتهم وتربيتهم، معالم صورة الآباء والأمهات بالدرجة الأولى، والصورة التي سيحاكي الأطفال أقوالها وأفعالها ومواقفها وعاداتها، انطلاقاً من ملكة التقليد والمحاكاة.
ولما كان حديثنا يركز على الأم كمحور أساس يحيط بالطفل، ويعيش معه الوقت الأطول، بفعل طبيعة المهمة التي تستجيب لحاجاته الأساسية، وبفعل التزامات الأب الحياتية التي تفرض عليه الحضور وقتاً أطول خارج البيت، كان من الضروري مواكبة تربية البنت انطلاقاً من مراحل طفولتها وشبابها من أجل زرع السِّمات السلوكية التي تتوافق مع أنوثتها والعمل على تنمية غريزة الأمومة الراقدة في أعماقها والكامنة في استعداداتها.
إنّ مسؤولية التربية في بعض جوانبها تكمن في تشجيع كلّ من الذكر والأنثى على تعلّم دوره الخاص به، والقيام به كما رسمه الله سبحانه وتعالى، فنربي الصبي ليكون أباً، والفتاة لتصبح أماً، فيحاكي الصبي خطوات أبيه، وتحاكي البنت تصرفات أمها.
وبما أنه (الطفل) نتاج أسرة- أحدُ أهم مكوناتها الأم- فإنّ الكثير من معالم شخصيته تحدّدها طبيعة التربية التي يخضع لها، التربية الناتجة عن الإطار الثقافي والاجتماعي والأخلاقي الذي يعتمده الأبوان في سلوكهما؛ لذا نجد الإسلام في تعاليمه يحتاط بأسلوبٍ وقائي ينصح به ليُجنّب الأسرة عثرات وإشكالات:
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (سورة الروم، الآية21).
وحتى يتوفر هذا الجو الأسري الهادئ الذي تعبّر عنه الآية بـ "السكن"، وجّه الإسلام الشاب والفتاة معاً إلى تحكيم العقل في اختيار الشريك؛ فلا ينساق الواحد منهما عشوائياً وراء رغبات طائشة فقط، ولا يركّز أيضاً على الجوانب الجمالية وحدها (وبالأخص بالنسبة للفتيات)، بل يتوقّف طويلاً أمام الصفات الروحية والعلمية والقيميّة (الدين، التقوى، الخلق الحسن، السمعة الطيبة، الثقافة الكافية...)
{وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} (سورة البقرة، الآية221).
يُروى أنّ النبي(‘) قام خطيباً بين الناس، فقال: "إياكم وخضراء الدمن، قيل: يا رسول الله وما خضراء الدمن؟ قال (ع): المرأة الحسناء في منبت السوء".
وقد ورد في الحديث عن الرضا(ع): "ما أفاد الله عبداً خيراً من زوجة صالحة إذا رآها سرّته، وإذا غاب عنها حفظته في نفسها وماله".


ما هي الصفات التي يجب أن نربي عليها الفتاة لتكون في المستقبل أماً مربية؟

إنّ الصفات الأساسية التي يجب أن تختصرها شخصية الأم كثيرة لا نستطيع حصرها، فأية صفة حميدة يمكن أن تتحلّى بها شخصية الأم، ومن هذه الصفات: الإيمان، العلم، التقوى، الرسالية، الاستقامة، الصبر، سعة الصدر... وغيرها.
ولكن من أين لنا بهذه الشخصية النموذجية؟

ما هو مهم وأساسي بالنسبة للأم، هو رعاية أجواء الأسرة بشكل عام، وتربية الأبناء ومواكبة نموهم وحاجاتهم بشكلٍ خاص، وبالأخص في العصر التكنولوجي المعقّد الذي نعيشه والذي يتطلب عمقاً في الإيمان، وسعة في الثقافة، وحكمة في السلوك، ومهارة في التربية.
في إطار التربية على الأمهات (والآباء) امتلاك النظرة المستقبلية البعيدة التي ستكون عليها صورة البنت التي نرغبها أماً، وهذا يفرض علينا معرفة العناصر التي يجب التركيز عليها لنحقّق هذه الأمنية.
إنّ من الأوليات المعرفية التي يجب أن تبقى حاضرة في ذاكرة كلّ أم معرفة الخصائص العمرية للطفل في مراحل نموه المتدرجة، بحيث يتم رصد الحاجات وامتلاك الخطة المبرمجة للاستجابة الواعية لهذه الحاجات بالطريقة التي تحقّق التوازن وتساهم في تكامل النمو. فالأم معنية بتنمية كامل شخصية الطفل بأبعادها الجسدية والنفسية والروحية والعقلية والاجتماعية والخلقية... وحتى تبرع في هذا النمط من التربية على المعنيين تزويد الأم وهي في مرحلة الاستعداد للأمومة بكل الثقافة التي تحقّق للطفل:

أولاً: صحةً جسديةً: وهذا يفرض أن تمتلك الحدّ الأدنى من الثقافة الطبية التي تُعنى بتوفير الغذاء المتوازن، والراحة الكافية، والنوم الوافي، والحركة اللازمة والحصانة من الأمراض المُعدية... ثم الإسعافات الأولية التي تسمح لها بمعالجة الحالات الطارئة.
ثانياً: استقراراً نفسياً: كما عليها أن تحيط بثقافة نفسية كافية تعتمد على بعض معطيات علم النفس التربوي، من أجل أن يعيش الطفل حالة السكن الانفعالي، بعيداً عن المشاكل الناتجة عن العلاقات الزوجية المتوترة، والتوجيهات التربوية المتعارضة. والمهم هو أن يعيش الطفل المحبة والمودة والثقة والعدالة، فلا تمييز بين ولد وآخر، ولا مقارنة بين قدرة وأخرى، لا عنف ولا قسوة ولا إذلال ولا سخرية...

ثالثاً: توازناً عقلياً: ويكون ذلك بالثقافة المعرفية التي تبدأ بتنمية غريزة حبّ الاستطلاع، ليكتشف محيطه، ويُحسن التعامل أو التكيّف الإيجابي مع كلّ أوضاعه ومشاكله. وهذا يفرض علينا توفير كلّ الأجواء العلمية الكافية التي توسّع من آفاقه المعرفية. ومن هنا نؤكد على الأهل الصبر على الثقافة المدرسية للفتاة من أجل أن تحصل على شهادات عالية:

- تجمّل شخصيتها العلمية بالمعرفة والوعي والقدرة على التحدي
- توظّفها في تطوير نفسها وخدمة مجتمعها
- تواكب بكفاءة التحصيل التعليمي لأبنائها، على الأقل في مرحلة التعليم الأساسي

وقد جرت العادة أن تنكبّ الأم على تدريس أطفالها برنامجهم المدرسي عند عودتهم من مدارسهم، وهذا يفرض ثقافة كافية في الموضوعات المعرفية المتنوعة (رياضيات، علوم، لغات، اجتماعيات، فنون...).
رابعاً: عمقاً روحياً: الإيمان الديني أساس في شخصية الأم. على هذا الأساس، ومن منطلق الأولويات علينا أن نجتهد في أن تمتلك الأم الثقافة الدينية الكافية والواعية، والتي يجب أن تتجسّد في أقوالها وأفعالها ومواقفها، لأنها بالنسبة لأبنائها القدوة الصالحة والأسوة الحسنة التي سيحاكي كل حركاتها وتصرفاتها، لذلك كانت مسؤوليات التربويين (الأسرة والمدرسة...) كبيرة جداً في تربية البنات على الرسالية التي تنطلق من الإيمان بالإسلام ديناً ومنهجاً وسلوكاً، بحيث يعيش الأطفال في كنف أمهاتهم حركة العبادة والطاعة والالتزام والأخلاق في كل مفردات حياتهم، حيث تتسلل المفاهيم الروحية إلى عقولهم ووجدانهم بشكلٍ عفوي من أجل أن تتحوّل إلى عادات متأصلة ومتجذرة في عمق شخصياتهم.
خامساً: انفتاحاً معاصراً: ثمّ إنّ البنت المرشحة لعالم الأمومة، وهي تعيش في عالم متغيّر، وفي عصر انفجار المعرفة، وفي أجواء الاتصالات والتكنولوجيات المعقدة، وفي الكون العجيب الذي يفاجئنا في كل يوم بالمزيد من الجديد... عليها أن تمتلك جزءاً من ثقافة هذا العالم المعولم المعاصر والمعقد، بحيث لا تعيش التعارض بين ما تتعلّمه في المدرسة وتأخذه من المجتمع، وبين ما تتعلّمه من أمها. على الأم – في هذا الإطار – أن تتحوّل إلى معلمة نموذجية ماهرة، تساهم في تسهيل عملية التعلّم المناسبة للطفل، لتساعد المدرسة في دعم الحالات الخاصة وفق مناهج وقائية وعلاجية متّفق عليها، وهذا يفرض عليها ثقافة تربوية تتصل بأساليب التعليم ووسائله وطرق دعمه وتقويمه.


إنّ مهمة الأمومة ليست بسيطة وسهلة كما يخطر ببال الكثير من الفتيات والأمهات. إنها مهمة شاقة وصعبة تتطلب ثقافةً ووعياً وجهداً وصبراً وتضحيةً، لكنها في الوقت ذاته مهمة شيقة ورائعة فيها من الجمال والفن والبهاء والمهارة ما يفوق الوصف، لذا فهي تتطلب فتيات بارعات مثقفات يتحلّين يالإيمان والعلم والحداثة والتجربة، فتيات قادرات على تحمّل مسؤوليات كبيرة أقل ما يُقال فيها إنها تلعب الدور الأكبر في مستقبل الولد والأمة والإنسانية.
قيل: "إنّ الأم التي تهزّ السرير بيمينها، قادرة على أن تهز العالم بيسارها" فيما إذا استطاعت أن توظّف علمها وإيمانها ومختلف قدراتها واستعداداتها في خدمة الله سبحانه والوطن والإنسانية، {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (سورة القصص، الآية 83).