تحزبت الأحزاب ضد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في مكة وضواحيها وقصدت المدينة لمحاربة رسول الله، ونزل جبرائيل على النبي وأخبره فاستشار النبي أصحابه، فأشار عليه سلمان بحفر الخندق حول المدينة، فأقبل رسول الله ومعه المهاجرون والأنصار، وحفروا الخندق، في جانب من المدينة يشبه نصف الدائرة، فلما فرغوا من حفر الخندق، وصل المشركون، ونزلوا بالقرب من الخندق.
وخرج فوارس من قريش منهم: عمرو بن عبد ود أخو بني عامر بن لؤي، وعكرمة بن أبي جهل، وضرار بن الخطاب وهبيرة بن أبي وهب ونوفل بن عبد الله قد تلبسوا للقتال، وخرجوا على خيولهم حتى مروا بمنازل بني كنانة فقالوا: تهيئوا للحرب يا بني كنانة، فستعلمون اليوم من الفرسان؟ ثم أقبلوا تعنق بهم خيولهم حتى وقفوا على الخندق فقالوا: والله إن هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها، وتعرفها قبل ذلك فقيل لهم: هذا من تدبير الفارسي الذي معه (سلمان) ثم تيمموا مكاناً ضيقاً من الخندق فضربوا خيولهم، فاقتحموا فجالت بهم في السبخة بين الخندق وسلع، وخرج علي بن أبي طالب في نفر من المسلمين حتى أخذ منهم الثغرة التي منها اقتحموا، وأقبلت الفرسان نحوهم، وكان بينهم عمرو بن عبد ود فارس قريش وكان قد قاتل يوم بدر حتى ارتث (حمل من المعركة) وأثقلته الجراح فلم يشهد أحداً، فلما كان يوم الخندق خرج معلماً ليرى مشهده، وكان يعد بألف فارس وكان يسمى: فارس يليل لأنه: أقبل في ركب من قريش حتى إذا هو بيليل وهو واد قريب من بدر عرضت لهم بنو بكر في عدد فقال لأصحابه: امضوا، فمضوا، فقام في وجوه بني بكر حتى منعهم من أن يصلوا إليه، فعرف بذلك، وكان اسم الموضع الذي حفر فيه الخندق: المداد، وكان أول من طفره عمرو وأصابه، فقيل في ذلك:
عمرو بن ود كان أول فارس جزع المداد وكان فارس يليل
وركز عمرو بن عبد ود رمحه في الأرض وأقبل يجول حوله، ويرتجز.
وذكر ابن إسحاق أن عمرو بن عبد ود كان ينادي من يبارز؟ فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): من لهذا الكلب؟ فلم يجبه أحد فقام علي (عليه السلام) وهو مقنع في الحديد، فقال: أنا له يا نبي الله، فقال إنه عمرو، اجلس، ونادى عمرو: ألا رجل؟ وجعل يؤنبهم ويسبهم، ويقول أين جنتكم التي تزعمون أن من قتل منكم دخلها؟ فقام علي (عليه السلام) فقال: أنا له يا رسول الله، فأمره النبي بالجلوس رعاية لابنته فاطمة التي كانت تبكي على جراحات علي (عليه السلام) يوم أحد، ثم نادى الثالثة فقال:
ولقد بححت من النــداء بــجمعكم هـل من مبارز؟ووقفت إذ جبن المشجع مـــــوقـف البطل المناجزإنــــي كـــذلك لــــم أزل متسرعاً نحـــو الهزائـــزإن السماحــــة والشجــا عة في الفتى خير الغرائز
فقام علي (عليه السلام) فقال: يا رسول الله أنا.
فقال: إنه عمرو، فقال: وإن كان عمراً وأنا علي بن أبي طالب!! فاستأذن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فأذن له، وألبسه درعه ذات الفضول، وأعطاه سيفه ذا الفقار، وعممه عمامة السحاب على رأسه تسعة أكوار (أدوار) ثم قال له: تقدم.
فقال لما ولى: (اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوق
رأسه ومن تحت قدميه).
ثم قال: برز الإيمان كله إلى الشرك كله.
فمشى إليه وهو يقول:
لا تعجلن فـقـــــــــــد أتا ك مجيب صوتك غير عاجزذو نيــــة وبصيــــــــرة والصــدق منجـــي كل فائزإني لأرجو أن أقيــــــــم عـليك نائحـــــــة الجنائــــزمن ضربة نجلاء يبـــقى ذكـــرها عنـــــد الهزاهــــز
وما زال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) آنذاك رافعاً يديه مقحماً رأسه إلى السماء داعياً به قائلاً: اللهم إنك أخذت مني عبيدة يوم بدر وحمزة يوم أحد، فاحفظ علي اليوم علياً، رب لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين.
فقال عمرو: من أنت؟ وكان عمرو شيخاً كبيراً قد جاوز الثمانين، وكان نديم أبي طالب بن عبد المطلب في الجاهلية، فانتسب علي له.
فقال عمرو: أجل، لقد كان أبوك نديماً لي وصديقاً، فارجع فإني لا أحب قتلك! فقال علي (عليه السلام): لكني أحب أن أقتلك! فقال عمرو: يا ابن أخي إني لأكره أن أقتل الرجل الكريم مثلك، فارجع وراءك خير لك، ما آمن ابن عمك حين بعثك إلي أن أختطفك برمحي هذا فأتركك شايلاً بين السماء والأرض لا حي ولا ميت!! فقال له علي (عليه السلام): قد علم ابن عمي أنك إن قتلتني دخلت الجنة وأنت في النار، وإن قتلتك فأنت في النار وأنا في الجنة.
فقال عمرو: كلتاهما لك يا علي؟ تلك إذاً قسمة ضيزى!! فقال علي (عليه السلام): إن قريشاً تتحدث عنك أنك قلت: لا يدعوني أحد إلى ثلاث إلا أجيب، ولو إلى واحدة منها؟ قال: أجل.
قال: فإني أدعوك إلى الإسلام، وفي رواية: أدعوك إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
قال: دع هذه!! أو نح هذا.
قال: فإني أدعوك إلى أن ترجع بمن يتبعك من قريش إلى مكة، فإن يك محمد صادقاً فأنتم أعلى به عيناً، وإن يك كاذباً كفتكم ذؤبان العرب أمره.
قال: إذن تتحدث نساء قريش عني: أن غلاماً خدعني وينشد الشعراء في أشعارها أني جبنت، ورجعت على عقبي من الحرب، وخذلت قوماً رأسوني عليهم.
قال: فإني أدعوك إلى البراز راجلاً، فجمى عمرو وقال: ما كنت أظن أحداً من العرب يرومها مني.
ثم نزل فعقر فرسه ـ وقيل ضرب وجه فرسه ففر ـ ثم قصد نحو علي (عليه السلام) وضربه بالسيف على رأسه، فأصاب السيف الدرقة فقطعها، ووصل السيف إلى رأس علي (عليه السلام).
فضربه علي (عليه السلام) على عاتقه فسقط، وفي رواية: فضربه على رجليه بالسيف فوقع على قفاه، وثار العجاج والغبار، وأقبل علي ليقطع رأسه فجلس على صدره، فتفل اللعين في وجه الإمام (عليه السلام) فغضب (عليه السلام)، وقام عن صدره يتمشى حتى سكن غضبه، ثم عاد إليه فقتله.
وقال ربيعة بن مالك السعدي: أتيت حذيفة بن اليمان، فقلت: يا أبا عبد الله: إن الناس يتحدثون عن علي بن أبي طالب ومناقبه، فيقول لهم أهل البصيرة: إنكم لتفرطون في تفريط (تقريظ) هذا الرجل.
فهل أنت محدثي بحديث عنه أذكره للناس؟ فقال: يا ربيعة وما الذي تسألني عن علي؟ وما الذي أحدثك به عنه؟ والذي نفس حذيفة بيده: لو وضع جميع أعمال أمة محمد في كفة الميزان منذ بعث الله تعالى محمداً إلى يوم الناس هذا، ووضع عمل واحد من أعمال علي في كفة أخرى لرجح على أعمالهم كلها، فقال ربيعة: هذا المدح الذي لا يقام له ولا يقعد ولا يحمل، إني لأظنه إسرافاً يا أبا عبد الله!!! فقال حذيفة: يا لكع! وكيف لا يحمل؟ وأين كان المسلمون يوم الخندق وقد عبر إليهم عمرو وأصحابه؟ فملكهم الهلع والجزع، ودعا إلى المبارزة فأحجموا عنه حتى برز إليه علي فقتله؟
والذي نفس حذيفة بيده: لعمله ذلك اليوم أعظم أجراً من أعمال أمة محمد إلى هذا اليوم وإلى أن تقوم القيامة.
وجاء علي برأس عمرو إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فتهلل وجه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فقام أبو بكر وعمر بن الخطاب وقبلا رأسه، وكان علي (عليه السلام) يقول:
أنا علي وابن عبد المطلب الموت خير للفتى من الهرب
فقال عمر: هلا سلبته درعه، فإنه ليس في العرب درع مثلها؟ فقال علي (عليه السلام): إني استحييت أن أكشف سوأة ابن عمي.
وفي رواية: لما جلس علي (عليه السلام) على صدر عمرو ليذبحه قال له عمرو: يا علي قد جلست مني مجلساً عظيماً، فإذا قتلتني فلا تسلبني حلتي، فقال (عليه السلام): هي أهون علي من ذلك.
ولما قتل علي (عليه السلام) عمراً انهزم المشركون وانكسرت شوكتهم، وكفى الله المؤمنين القتال بعلي (عليه السلام).
قال حسان بن ثابت في قتل عمرو بن عبد ود:
أمسى الفـتى عـمرو بن ود يبتغي بجنــــــــوب يثرب غارة لم تنظـــرفـلقــد وجدت سيوفـنا مشهــورة ولقــــــد وجدت جيادنا لم تقـصــــرولقـــد رأيت غـــــداة بدر عـصبة ضربوك ضرباً غير ضرب المحضرأصبحت لا تدعـــى ليـــوم كريهة يا عـمـــرو أو لجسيـم أمــر منـكــر
فأجابه بعض بني عامر:
كــذبتم وبيــــت الله لم تقـتلـــــوننا ولكن بسيف الهاشميين فافخــروابسيف ابن عبد الله أحمد في الوغا بكــف عـلــي نلتم ذاك فاقـصـرواولم تقتلوا عمرو بن ود ولا ابنـــه ولكـنه الكفـــو الهزبر الغضنفـــرعـلي الذي فــــي الفخر طال ثناؤه فلا تكثروا الدعوى عليه فتفجرواببــدر خـــــرجتم للبراز فــــــردكم شيــوخ قـريش جهــرة وتأخــروافـلما أتاهـــم حمــــزة وعـبيــــــدة وجاء عـلـــي بالمهنـــــد يخطـــرفـقالــوا: نعم أكفاء صـدق فاقـبلوا إليهــم سراعاً إذ بغــوا وتجـبروافجــــال عـلـــــي جــــولة هاشمية فـــدمرهم لما عـتــوا وتكـبـــروافـليس لكم فخـــر عـلينا بغيـــــــرنا وليـــس لكـم فخــر يعــد ويذكــر
وكان (عليه السلام) يقول ـ مشيراً إلى هذه الفضيلة ـ :
أعـلـــيّ تفتخــر الفـوارس هكـــذا؟ عـنـــي وعـنهم خبروا أصحابياليــوم يمنعنــي الفـرارَ حفـيظتـــي ومصمم بالرأس ليــس بنابـــــيأرديت عـمــراً إذ طغـــى بمهنـــــد صافــــي الحـديد مجرب قـضابنصــر الحجارة عــن سفاهــة رأيه ونصـــرت رب محمـــد بصوابفـصــدرت حيــن تركـتــه متجـــدلاً كالجــــذع بين دكادك وروابـــيوعـفـفـت عــن أثوابــه ولـو أننــي كــــنت المقـطّـر بزّني أثوابــــيلا تحسبــــــن الله خــــاذل دينـــــه ونبيــــــه يا معشــــر الأحـــزاب
وقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): ضربة علي يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين.
وفي رواية الحاكم في المستدرك: لمبارزة علي بن أبي طالب لعمرو بن عبد ود يوم الخندق أفضل من أعمال أمتي إلى يوم القيامة.
وسبب ذلك أنه لم يبق بيت من بيوت المشركين إلا وقد دخله وهنٌ بقتل عمرو، ولم يبق في المسلمين بيت من بيوت المسلمين إلا ودخله عزٌّ بقتل عمرو.
ولما وصل الخبر إلى أخت عمرو قالت: من ذا الذي اجترأ عليه؟ فقالوا: علي بن أبي طالب.
فقالت: لم يعد موته إلا على يد كفو كريم لا رقأت دمعتي إن هرقتها عليه، قاتل الأبطال وبارز الأقران، وكانت منيته على يد كفو كريم من قومه، ما سمعت بأفخر من هذا يا بني عامر، ثم أنشأت تقول:
لو كان قاتل عـمــرو غـير قاتله لكنت أبكــــي عـليـــه آخر الأبدلكـن قاتلــــه مــــن لا يعاب بــه وكان يدعــــى قــديماً بيضة البلد
وفي نسخة: وكان يدعى أبوه بيضة البلد.