"اعتاد أبي، يوم كنّا صغاراً، أن يصطحبنا معه إلى الحمّام أيام الشتاء الباردة.. كان يوقظنا فجراً فنمضي في إثره حاملين صرّة ملابسنا النظيفة، إلى حمّام الحسيني الذي مايزال في مكانه الفريد في آخر سوق موسى العطية المسقوف، بدكاكين عطّاريه الغارقة في روائحها اللاسعة، وعتمته الشاحبة.. وما أن نهبط دكّات الحمّام الإسمنتية الداخلية وتبتلعنا صالته المستطيلة بمصابيحها الواهنة ودفئها الخدر حتى نكون في عالم آخر غريب، فعلى جانبي تلك الصالة غرف ضيّقة أشبه ما تكون بحفر مستطيلة واقفة في الجدار بأبواب خشب شربت من الأصباغ ما لم تكن تحلم به. وكل غرفة من هذه الغرف هي منزع شبه مظلم كأنه برزخ تخلع فيه ثيابك وتتعرّى إلا من وشاح يلتفّ على خصرك ويستر نصفك الأسفل فتكون على استعداد لتمضي إلى عالم آخر... ستقودك قدماك بخفٍّ من خشب إلى بوّابة ثقيلة يصرّ صريرها وهي تنفتح على مهل على نفق من بخار يفضي إلى جوفٍ مستدير تتوسّطه دكّة حجريّة مستديرة تمطر عليها غيوم البخار الساخن ويجلس عليها الرجال أنصاف عراة منتظرين أن تتساقط عن أجسادهم أدرانها كما تتساقط الذنوب، قبل أن يستحمّوا ويتطهّروا بالماء الساخن ويخرجوا ثانية إلى العالم في دورة حياة نقيّة. وسوف تسمع هناك، في عالم دفين مغلق كأنه قيامة صغيرة، في الضوء الشاحب المعروق أصداء الماء وأغاني المستحمّين ونقرات الطاسات النحاسية على الأحواض الصغيرة. وحين تخرج من الحمّام دافئاً نقيّاً يستقبلك العالم كما يستقبل مولوداً جديداً..."
الحمامات الشتوية..
كانت الحمامات الشعبية في العراق إلى وقت قريب أحد المرافق الحيوية التي يرتادها الناس في كثير من الأحيان ويزداد الإقبال عليها في الشتاء أكثر من الصيف لعدة أسباب منها: وجود كمية هائلة من البخار يتشبع بها جسد المستحم، فإذا كان يعاني من نزلة برد وجد في الجو الدافئ ما يريحه ويخفّف عنه، ومن افتقد الدفء في حمّام داره قصد الحمّامات الكبيرة ووجد فيها ما يطلبه. ولمّا كانت السخّانات غائبة عن الحمّام المنزلي في بيوت عامّة الناس، وتسخين الماء يتطلّب قدراً غير قليل من الغاز أو النفط، وجد العامة، في الشتاء خصوصاً، في الحمّامات الأهلية الكبيرة البديل جاهزاً، ولعلّ بعضهم، ممّن يستثقل القيام بعملية الاستحمام بنفسه، فيلقي بأعبائها على الدّلاّك في الحمّام العام وهو رجل ماهر في إراحة الجسد ممّا علق به من أدران وإعادة الحيويّة إليه.
حمامات البصرة..
وفي محافظة البصرة حمامات كثيرة منها حمّام الحيدري وحمّام الحسيني وهو أقدمها ويقع في سوق العطية بالعشار، وحمّام السيف الذي أقفل أبوابه منذ سنتين ويقع في البصرة القديمة مجاوراً جامعها الكبير، وحمّام الكرامة الذي يقع في العشار وتحديداً في منطقة البجاري، وحمام الفيحاء الذي يقع مقابل سوق الخضار ولا يزال قسم من الناس يرتادون هذا الحمام يوميا خاصة الحدادين ومن يعملون في تصليح السيارات لإزالة تراكمات الدهن والغبار عن أجسادهم.
وقد اعتاد الناس على ارتياد الحمام لمعالجة الأنفلونزا في الشتاء البارد دون أن يعرف الكثير منهم السبب، والذي يتلخص في تعرض المزكوم إلى كميّة من البخار الساخن تفتح المجاري التنفسية.
جولة..
كانت لنا جولة في حمامات محافظة البصرة لنستمع إلى آراء أصحابها وروّادها وارتأينا أن تكون الزيارة في أحد أيام العطل الرسمية متوقعين زيادة في عدد الناس المرتادين لهذا المرفق الحيوي وكانت محطتنا الأولى حمام الحيدري الواقع في العشار ـ شارع أبي الأسود أو ما كان يسمى شارع المترب سابقاً... التقينا الحاج (أبو نزار) صاحبه فاستقبلنا بحفاوة بالغة وقدم لنا شراب الحمامات الشائع بعد الاستحمام (الدارسين) واسترسل بالحديث عن الحمامات أيام زمان قائلا: حمام الحيدري افتتح عام 1976 وكان في السابق يزهو بالعمل المستمر الدؤوب حيث الأمان أولاً وكثرة الناس الوافدين من داخل وخارج القطر، فمحافظة البصرة كان يؤمها الكثير من الناس طلباً للعمل والرزق والتجارة ويقيم فيها جنود من مدن عراقية عديدة، ويتقاطر عليها زائرون من الكويت والخليج العربي ومعظم هؤلاء يقبلون على الحمام للاستحمام.. ويصطحب المستحمّ معه عادةً (بقجة) وهي صرة تحوي مناشف شخصية و(وزرات) وفاكهة وليفة وصابوناً، ومن عوامل إقبال الناس على الحمامات رخص الأجور سابقاً ورخص قيمة رسوم الماء والمجاري حيث كانت زهيدة وتحدد بموجب مقياس أما الآن فيستوفى منا 3000 دينار عن كل حوض شهرياً، وحمامنا يحوي اليوم 20 حوضاً بدلاً من 60 حمام كانت موجودة في السابق.
وعن أجرة الحمامات وأيام الذروة يقول: في السابق كانت الأجرة 150 فلساً، أما الآن فتصل إلى 1500 دينار، وكانت أجرة الدلاك 150 فلساً فقط.. والحمام يزدهر أيام الاثنين والخميس فقط لوجود أعراس والعرسان يأتي معهم مجموعة كبيرة من أصدقائهم ومعارفهم وتتم الزفة والدبكات أثناء الغسل ويدفعون الأجور والإكراميات بسخاء.
وأختتم متحدثاً عن أهم المشاكل التي يعاني منها الحمام قائلاً: نعاني من شحة النفط فالجهات المعنية بالمحافظة تجهزنا ببرميلي نفط أسبوعيا أي ما يعادل 400 لتر بينما الاستهلاك اليومي في فصل الشتاء عندنا هو 500 لتر مما يضطرنا إلى شراء الفرق من السوق السوداء التي قد يصل سعر البرميل الواحد سعة 200 لتر فيها إلى 60 ألف دينار بالإضافة الى أجور الماء والمجاري التي بلغت الموسم السابق حوالي مليون وثلاثمائة وسبعون ألف دينار، اضافة إلى اضطرارنا إلى شراء تناكر الماء لعدم توفر ماء في المنطقة و بسعر 25 ـ 30 ألف دينار للتنكر الواحد.
تاريخ طويل..
حمام السيف في منطقة البصرة القديمة وجدناه مغلقاً منذ سنتين حيث قام صاحبه بتحويله إلى محلات تجارية عرضها للإيجار ليسدل الستار على أحد معالم المدينة الأثرية، كنا نتمنى ان نجد هذا الحمام يستقبل رواده لكن للأسف باءت أمنيتنا بالفشل.. وانتقلنا في جولتنا إلى حمام الفيحاء في منطقة العشار مقابل سوق الخضار ولم نجد صاحبه الحاج (أبو خالد شاكر فالح)، ولكننا وجدنا أولاده شكري ومصطفى وهاني الأصغر الذي اعتذر عن إجراء التحقيق الصحفي ورفض إعطاءنا أي فكرة لولا حضور أخيه الأكبر الذي رحب بنا واستضافنا واسترسل بحديثه موضحاً أن هذا الحمام أُسّس عام 1965 لكن صاحبه الحالي اشتراه عام 1981 وكان مبنياً على الطراز القديم فقام بتطويره واستخدم أسلوبا حديثاً في عمله حيث كان يستخدم أسلوب البيلر (الخزان) النفطي الذي تضرم النار تحته لتسخين الماء لكنه طور الحمام مستخدماً شبكة أنابيب يمر بها الماء عبر مضخات كهربائية تحتها شعلة نار ضخمة وتقوم مراوح بضخ هواء على الأنابيب الساخنة ليُستفاد من الهواء الحار لأغراض التدفئة والتبخير، كما قام بإنشاء سقوف ثانوية للحمام وخزانات للملابس وشاهدنا معالم الحمام الحديثة لكنه اعتزل العمل بالحمام مكتفياً بأولاده.
ولما سألنا عن أهم الشخصيات التي ترتاد الحمام أجاب: عسكريون كبار كانوا يقبلون على الاستحمام فيه باستمرار أثناء الحرب مع إيران، ومن الشخصيات التي تزور الحمام باستمرار كثير من شيوخ العشائر والأدباء والكتاب وغيرهم من الشخصيات البصرية المعروفة.
وسألنا عن اشهر الدلاكين الذين عملوا في الحمام فأجاب إن له اثنين من أعمامه وهم كل من العم أبو حبيب (رحيم فالح) والعم أبو فرج (الحاج حاتم فالح)، وهم الآن عاجزون عن العمل لكبر سنهم، لكن الأخير كان بارعاً في اجراء تمارين العلاج الطبيعي لذا كان يزوره أناس من الكويت والدول الخليجية كل خميس وجمعة.