بالعودة لخمسين أو ستين سنة للوراء كانت عاصمتنا الحبيبة بغداد مدينة في طور البناء والعمران ورويدا رويدا بناها أهلها وأضافوا لها المحلات والألوان والفرحة والحدائق والسينمات والبارات والكازينوهات والمكتبات وصارت تكبر وتزدهر لكن دارت الدوائر عليها من كل حدب ومن كل صوب وخربت نفسيات الناس قبل أن يخرب عمرانها وصار الغرباء هم أسياد القرار وهم من يحملون معاول (الهدم أو البناء) في تأريخها الحاضر
ساحة الوثبة
تقع بالثلث الأول من شارع الرشيد مبتدءا من الباب الشرقي بمواجهة جسر الأحرار من جانب الرصافة كانت المساحة الخضراء (العامة) الوحيدة في كل شارع الرشيد تتزين بأشكال الزهور عبر مواسمها المختلفة على الأسيجة ممزوجة مع شتلات الآس الفواحة ونخلتين من النوع القصير أما ما ميزها طوال تأريخها فهي مظلتها المركونة على حافتها الملاصقة لشارع الرشيد لحماية شرطي المرور من حر الشمس فيما تعلوها ســـاعة تعلن التوقيت المحلي للمدينة
لم تحتوي طوال تأريخها على أية أرائك للجلوس أو ملاعب للأطفال لكنها كانت تمثل الرئة التي تنقي هواء الشارع مازجة عبق الريح الآتية من دجلة الجميل برائحة ياسها وورودها الحلوة
لايعرف لها تأريخ محدد لكنها بالتأكيد مرتبطة بشارع الرشيد وجسر الأحرار معا لهذا حكاية فقد بنى الأنكليز جسرا يربط منطقة الصالحية (الكرخ) بمنطقة رأس القرية(الرصافة) من الحديد وحمّلوه على مراكب في عرض النهر وذلك عام 1918 وسمي الجسر بجسر "الجنرال مود" إذ كان يطل عليه من جهة الكرخ تمثال القائد "مود" وساحته التي حملت نفس الإسم
عام 1941 أفتتح الجسر الذي ما زال قائما لليوم وسمي بجسر "الملك فيصل الأول" والساحة التي تقابله من جهة الرصافة بساحة الملك فيصل الأول
بعد 14 تموز عام 1958 وإعلان الجمهورية أستبدل إسم الجسر بـ "جسر الأحرار" وحملت السـاحة إسما جديدا وصارت تسمى "ساحة الوثبة" منذ ذلك الزمان على أن البعض يسميها "ساحة حافظ القاضي" نسبة للمحلات المشهورة والمطلة على الساحة
تتوسط "ساحة الوثبة" منطقة تحولت لمركز تجاري مهم وهي أيضا وجهة القادم من جهة الصالحية والكرخ ونقطة إلتقاء قريبة بشارع الجمهورية وإستراحة الناظر الذي لا يلبث أن تلهيه البنايات والعمارات العالية
لمن يقصدها مشيا من صوب الكرخ وحال إنتهاء الجسر:
على اليمين كان هناك نادي نواب الضباط ومدخل أحد البارات ثم محل خياطة إبراهيم القزاز ثم فرع ضيق يفضي لسوق شط العرب تليها عدة محلات صغيرة
وعند إستدارة الرصيف بإتجاه سيد سلطان علي كان هناك محل "شربت أبو محمد" المشهور بعصير البرتقال والليمون ومتراصا معه كانت هناك صيدلية
ثم مطعم النصر المشهور برائحة الكص والدجاج المشوي وملاصقا لفندق النصر وفندق شط العرب المشهور ببالكوناته المطلة على الساحة والشارع
بعدها مدخل سوق "شط العرب" ثم محلين صغيرين أو ثلاثة أحدها كان مختصا ببيع أنواع (معاجين الأسنان) المستوردة من الخارج حتى تأتي واجهات محلات "أوروزدي باك" أهم مولات ذلك العصر ثم تنتهي البناية بشارع فرعي يوصل لموقف سيارات أوروزدي باك والجامع الموجود في ذلك الفرع في الجهة الثانية من شارع الرشيد كان هناك شارع عريض نسبة للقياسات المعروفة يمثل بداية منطقة "سيد سلطان علي" ..
حيث كان أحد المحلات يبيع أنواع التمور المحشوة باللوز وبجنبه محل لقلي الأسماك وصيفا كانوا يبيعون الرقي الذي كانت تقص أشيافه بالمنشار
ثم تأتي في الجهة الثانية عدة محلات للخياطة والآيس كريم والحلوى ومحل الفلافل والعمبة العراقية ومعرض أحذية "صادق محقق" ثم بوابة "سينما الوطني" وملاصقا لها أحد محلات بيع السكائر الأجنبية والكرزات والنستلات تليها بوابة "سينما الرشيد"
بعدها بإتجاه ساحة الوثبة كان هناك معرض كبير تابع للشركة العامة للخياطة بعده محلات " نعيم نعمو" للكماليات ثم يأتي "صالون حلاقة الجابى" وبعده يأتي "مطعم النهر" وعند إستدارة الرصيف كانت بوابة "سينما الرشيد" لفئة 40 فلس وجانب شباك التذاكر كان يجلس "المصور الشمسي" المشهور بكاميرته..
ثم محلات صغيرة ومنها مطعم صغير مشهور بالفطور وأحد الأفرع المغلقة الذي ينتهي بفندق حمورابي ثم "مصرف الرافدين" فرع الوثبة والذي كان ملاصقا لمركز شرطة العبخانة الكبير والواسع بمرآبه وبناياته
أما في الجهة المقابلة للمركز فكان هناك بار "السمان" ثم محلات بيع التبوغ (التتن) ثم محلات "ججاوي" لتأجير الكراسي ثم مدخل محلة "العاجلين"ومعمل سكائر تركي وبائع الكفتة الشهير جرجيس ثم محل لبيع الثلج ثم دربونة "الجلبة" تليها صيدلية "الأثير" بعدها تأتي محلات "نوفيكس" التي كانت تضاهي محلات أوروزدي باك
عند ركن الشارع وقبل إستدارة الرصيف بإتجاه منطقة رأس القرية كانت تأتي شركة "حافظ القاضي" التي تحول إسمها لاحقا لشركة "كتانة" حيث كانت مختصة ببيع الطباخات الأمريكية وفي شارع الرشيد كان هناك محل بيع أحذية ثم محل نظارات آسيا ودربونة مغلقة فيها معمل "الزنكوغراف" ثم دربونة "إبراهيم أبو الجبن" بالجنب من معمل "سيد حسين" للألبسة الجاهزة بعدها صيدلية ثم محل إختصاص ببيع "لمبات التلفزيونات" لصاحبه السيد وديع الحريري بعدها محل "حمودي نعمان" لبيع السندويجات ثم مطعم نادر في بداية هذا الفرع
بالعبور للجهة الثانية من شارع الرشيد بأتجاه الجسر كانت هناك "عمارة البدوي" و"مقام أبو شيبة" ثم مجموعة محلات لبيع الملابس والأحذية من بينها مخزن "ليدو" المشهور ببيع قمصان (نينو) أحد أشهر قمصان معمل "ألفا" العراقي حتى تأتيك عمارة "التأمين" وملاصقا لها كان هناك فرع صغير يقع فيه مصرف الرافدين فرع شارع النهر بعدها "ستوديو أرشاك" وصور الزهاوي المشهورة بواجهة المعرض وصورة نجاة الصغيرة وقد كتب عليهما (الخريف والربيع)
عندما ينحني الرصيف بإتجاه الجسر كانت هناك محلات "كيك وزبادي السماوي" تعلو المحل كازينو صيفي مطلة على الرشيد والساحة والجسر بجنبها بار "شــريف وحداد" وملاصقا له كان هناك محلات بيع الثريات والمصابيح الضوئية مقابل فندق "جبهة النهر" ومعمل "خياطة قريش" ..
والملاصق لمحل بيع المشروبات وعربة بيع وشوي الكباب العراقي ونقطة الأمن المكلفة بحراسة الجسر وكما يقولون عند "رقبة الجسر"
بالعودة للساحة فإن شارعا وسطيا كان يقع خلفها مباشرة في واجهته يرتفع "فندق الميناء" فيما تقوم خلفه عشرات المكاتب المختصة بالنقل البري مثل نقليات الإقتصاد ونقليات حداد ونقليات السعيد والتي كانت تنظم السفريات للمحافظات وللخارج
في التسعينات تفتق عقل بعض"أذكياء التخطيط" لغرض تخفيف الأختناقات المرورية دعوا للتخلص من الساحات العامة وكانت ساحة الوثبة ضمن البعض الذين حكم عليها بالإعدام (ساحة ميسلون في الغدير والساحة المقابلة للشورجة والسوق العربي من جهة شارع الجمهورية) وهكذا تحولت هذه الساحة الخضراء والجميلة لمنطقة جرداء بأرض إسفلتية تتصاعد منها الأبخرة السامة في موسم الصيف اللاهب
وعقب عام 2003 وفي ظل حالة الفوضى والفلتان تحولت الساحة مثلها مثل مناطق كثيرة في شارع الرشيد وشارع النهر (شارع العرائس) لموقف لعربات التحميل التي يسحبها البشر هذه المرة في منظر يعبر حقا عن المستوى الذي وصل إليه الإنسان العراقي ومستوى التطور الإنتاجي والخدمي
إن نظرة متأنية لتناقضات ساحة الوثبة تكشف حقيقة العقلية السائدة اليوم إن كان في محافظة بغداد أو أمانة العاصمة ومجلسي الوزراء والنواب وصولا لتشكيلات رئاسة الجمهورية ليس لأنها فريدة عصرها ومنها إنطلق "نيل آرمسترونك" لغزو الفضاء والنزول على القمر بل لأنها تمثل حالة عراقية وبغدادية تطوف من خلالها على العقليات والغرباء الذين تحكموا بمصير ومستقبل بغداد الجميلة
فطوال سنين كنا نسمع عن وفود تسافر للخارج وإتفاقيات لتوئمة بغداد مع غيرها من المدن والعواصم لكننا لم نشهد في حياتنا هذه أن مدينة عراقية بعراقة بغداد ومزدانة بدجلة الخير وبكل إرثها الفني والحضاري والبشري والإنساني تسير من سيء لأسوء يوما بعد يوم حتى صرنا إذا ما تذكرنا "مبولة" سيد سلطان علي فإننا ننعي الأيام الذهبية الغارقة في التأريخ الغابر حيث تخلو العاصمة العراقية وأهم شوارعها من أية دورات عامة للمياه تصوروا أهمية الوفود العراقية التي كانت تزور أوربا .. فقط تصوروا ماذا كانت تفعل؟
الخبر الأكثر غرابة من إلغاء ساحة الوثبة هو قرار محافظة بغداد عام 2005 بتسمية ساحة الوثبة (الملغاة أصلا) بساحة "شهداء الأكراد الفيلية" ليقضوا نهائيا على واحدة من علامات بغداد الجميلة ورأس القرية بالتحديد
أما المفارقة الكبيرة في هذا الأمر فأنها تكمن في أن هذه المنطقة (رأس القرية) لم يسكنها الأكراد الفيلية إذ أن مناطقهم معروفة للجميع خاصة في شارع الكفاح وأبو سيفين وباب الشيخ وعكد الأكراد وثانيا إن تسمية "الوثبة" ترمز لوثبة الشعب وأحزابه الوطنية عام 1948 ضد معاهدة (بورت سموث) الإستعمارية التي تم إسقاطها بعد أن قدم الشعب شهداء كثر خاصة أولئك الذين قضوا في معركة الجسر وبالتالي فهي تحمل دلالاتها الوطنية والتأريخية ولا تمت لأي نظام بصلة
فلماذا إلغائها من ذاكرة شارع الرشيد وأهله إذن؟
ولماذا زج الأكراد الفيلين وشهدائهم في هذا الأمر؟
ألا يكفينا خلافات وإحتراب ومآسي لتضيف لها أمانة بغداد سببا آخرا للإختلاف ثم هل خلت بغداد أو ساحاتها أو شوارعها من أي مكان لوضع نصب لهؤلاء الشهداء حتى يستولون على ساحة (غير موجودة أصلا) بغية وضع النصب فيها؟
وكيف قبل مصمم النصب هذا الإقتراح وتبريراته الواهية؟
هذا ما آل إليه مصير "ساحة الوثبة" الجميلة اليوم بعد سنوات التغيير وميزانيات بمليارات الدولارات لتصبح مرآبا لوقوف عربات النقل التي يسحبها البشر فيما كانت تشتغل بقوة الحمير والدواب في زمن أجدادنا السومرين بدلا من أن يكون هؤلاء الشباب خلف الآلات العملاقة أو في المؤسسات أو في مقاعد الدراسة والجامعات
لقد أخفق المسؤلون وللمرة الألف في الحفاظ على تراث بغداد ناهيك عن إعادة إعمار أهم مرتكزاتها الحضارية والإقتصادية والإجتماعية والأثرية شارع الرشيد وشارع النهر (شارع العرائس) ولكل من يتجول هناك لن تستغرقه كثيرا أن يلحظ فوضى المحلات وفوضى يافطاتهم فوضى النفايات والأزبال الملقاة في كل مكان فوضى تقادم البنايات والبالكونات الخربة فوضى الأماكن والمحلات والشقق المهجورة فوضى الأسلاك الكهربائية المنتشرة بشكل عشوائي مقرف لا يدل على أية درجة من الجمالية أو الذوق
دعوة لسكنة بغداد عموما وسكنة شارع الرشيد وساحة الوثبة أن تقارنوا مدينتكم بمدن العالم (بإستثناء مقديشو) دعوة لمحاسبة المسؤولين الذين يسرقونكم بوضح النهار بعد أن سرقوا تراثكم وتاريخكم وحرموا شبابكم من فرص تعليم وفرص حياة كريمة بل أنهم دفعوهم وفي هذا العصر للقيام بأعمال بدنية كانت الحيوانات تقوم بها منذ آلاف السنين
هل عرفتم أين تقع ساحة الوثبة؟
إنها تقع بعيدا عن المسؤولين الغرباء بعيدا عن السراق والحرامية بعيدا عن المسؤولين الذين أتت بهم المحاصصة الطائفية والمحسوبية والمنسوبية ورشوة الناخبين بعيدا عن الذين لا يحبون بغداد ولا ينتسبون لها قلبا ومشاعرا وذكريات وتأريخ
أين تقع ساحة الوثبة؟
إنها تقع في قلوب وأفئدة وعيون وعقول أهل بغداد الأصلاء أحبابها أولئك الذين إرتبطت بوجدانهم وأحاسيسهم ومشاعرهم وذكرياتهم أولئك الذين تدمع عيونهم إذا ذكر إسمها أمامهم ويبكون إذا سمعوا الجالغي البغدادي أو المقامات العراقية أولئك المسكونين بعشقها وجمالها وكل حي وطرف ودربونة وبناية ومحل وبيت منها
هذه بغداد التي ستغسل يوما نفسها من التراب والأوساخ التي علقت بها على يد الغرباء
** استميح القراء، وأبناء محلتي الجميلة (رأس القرية – راس الكرّية) عذرا، ان لم اذكر بعض المحلات او الأماكن، فهذه اللوحة حاولت ان اقدمها مختزلة ومختصرة وفي فترة زمنية محددة ، ويحق لأي منكم ان يطوف بالذكريات، وجمالياتها، وحلاوتها، ويضع الألوان والناس والتواريخ. اذ لا اتصور ان احدا منـّا كان سيتخيل ان يصيب مدينتا الجملية ما اصابها على يد قطعان التخلف.