كانت الأواصر بين العرب في الجاهلية قبل الإسلام مُقطَّعة بشكل كبير؛ وذلك لأن العصبية كانت من صفاتهم المذمومة، وكانت تقود إلى الحروب المستمرَّة بين القبائل؛ وهكذا كانت الإغارة على الآخرين عادة عند معظم القبائل، وكانت الحروب تشتعل لأتفه الأسباب، ويتساقط الضحايا بالمئات والآلاف.

أيام العرب في الجاهلية
ومما يدلُّ على كثرة الحروب بين العرب أن ابن الأثير بدأ باب ذكر أيام (حروب) العرب في الجاهلية بقوله: "نحن نذكر الأيام المشهورة والوقائع المذكورة التي اشتملت على جمع كثير وقتال شديد، ولم أُعَرِّج على ذكر غارات تشتمل على النفر اليسير؛ لأنه يكثر ويخرج عن الحصر" [1]. ومع هذا فقد أتى بما يربو على خمسين يومًا (معركة)، كلها من الوقائع الكبيرة المشهورة!

بل بلغ من تعلُّق العرب الشديد بالحرب والقتال وتأصلها في نفوسهم؛ أن قال شاعرهم عمرو بن كلثوم [2] بيتًا من الشعر يُعبِّر عن هذه النفسيات المعقَّدة، والعقول المضطربة:

أَلاَ لاَ يَجْهَلَنْ أَحَدٌ عَلَيْنَا *** فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الْجَاهِلِينَا[3]

حتى وصل الأمر إلى أن قال القطامي [4]:

وَأَحْيَانًا عَلَى بَكْرٍ أَخِينَا *** إِذَا مَا لَمْ نَجِدْ إِلاَّ أَخَانَا [5]

إنه لم يكن هناك مانع إذن أن يُحارب الأخ أخاه، فقط لأن زمانه خلا من حرب أخرى!
وقد لَخَّص جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه أمر العرب قبل الإسلام في كلامه مع النجاشي ملك الحبشة، فقال له: "أَيُّهَا الْمَلِكُ، كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ نَعْبُدُ الأَصْنَامَ، وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ، وَنَقْطَعُ الأَرْحَامَ، وَنُسِيءُ الْجِوَارَ يَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ" [6].

حرب البسوس
وحرب البسوس [7] هي التي نشبت بين بكر وتغلب؛ بسبب ناقة جرحت.

حرب داحس والغبراء
وحرب داحس والغبراء [8] -فَرَسَان- بين عبس وذبيان، واستمرَّت كل منهما أربعين سنة [9].

يوم بعاث
كما قامت بين الأوس والخزرج -أبناء عمومة- حروب استمرَّت طويلاً كان أشهرها يوم بعاث [10] الذي انتهى لصالح الأوس [11].

حرب الفجار
ومن أشهر أيام العرب حرب الْفِجَارِ التي كانت بين قريش وكنانة من جهة، وقيس عيلان من جهة أخرى، وسُمِّيَت الفجار لما استحلَّ الحيَّان كنانة وقيس فيه من المحارم [12].

يوم عين أباغ
ومن أيام العرب يوم عين أباغ وكان بين غسان ولخم، وكان قائد غسان الحارث، وكان قائد لخم المنذر بن ماء السماء، وقُتل المنذر في هذا اليوم، وانهزمت لخم، وتبعتهم غسان إِلى الحيرة، وأكثروا فيهم القتل [13].

يوم أوارة
ومنها يوم أوارة وهو جبل، وكان بين المنذر بن امرئ القيس ملك الحيرة وبين بكر بن وائل بسبب اجتماع بكر على سلمة بن الحارث، فظفر المنذر ببكر، وأقسم أنه لا يزال يذبحهم حتى يسيل دمهم من رأس أوارة إلى حضيضه، فبقي يذبحهم والدم يجمد، فسكب عليه ماء حتى سال الدم من رأس الجبل إلى حضيضه، وبرَّت يمينه [14].

يوم الكُلاب الأول
ومن أبلغ الدلائل على ما وصلوا إليه من شهوة الدم ما رُوي عن يوم الكُلاب الأول، وكان بين الأخوين شراحيل وسلمة ابني الحارث بن عمرو الكندي، وكان مع شراحيل وهو الأكبر بكر بن وائل وغيرهم، وكان مع سلمة أخيه تغلب وائل وغيرهم، ووقعت الحرب بينهما في الكُلاب، وهو بين البصرة والكوفة، واشتدَّ القتال بينهم، ونادى منادي شراحيل: من أتاه برأس أخيه سلمة فله مائة من الإبل. ونادى منادي سلمة: من أتاه برأس أخيه شراحيل فله مائة من الإبل. فانتصر سلمة وتغلب على شراحيل وبكر، وفرَّ شراحيل، وتبعته خيل أخيه ولحقوه وقتلوه، وحملوا رأسه إلى سلمة [15].

[1] ابن الأثير: الكامل في التاريخ، 1/454.
[2] عمرو بن كلثوم بن مالك بن عتاب من بني تغلب، أبو الأسود: فارس شاعر مقدم سيد أحد فتاك الجاهلية، ولد نحو 40 ق. هـ في شمالي جزيرة العرب في بلاد ربيعة، وعمر طويلاً بلغ خمسين ومائة سنة، وهو الذي قتل الملك عمرو بن هند، توفي نحو 584م. انظر: المرزباني: معجم الشعراء ص202، 203، والزركلي: الأعلام 5/84.
[3] ديوان عمرو بن كلثوم ص78.
[4] القطامي: هو عمير بن شييم، والقطامي لقب غلب عليه، وهو شاعر إسلامي مُقِلٌّ، وكان نصرانيًّا فأسلم، وكان فحلاً في الشعر، رقيق الحواشي، كثير الأمثال.
[5] أبو تمام: ديوان الحماسة 1/66، المبرد: الكامل في اللغة والأدب ص55، المرزوقي: شرح ديوان الحماسة ص253.
[6] أحمد (1740) وقال شعيب الأرناءوط: إسناده حسن. وقال الألباني: صحيح. انظر: فقه السيرة ص115.
[7] البسوس: الناقة التي لا تدر إلا على التلطف بأن يقال لها: بس بس. وفي المثل: أشأم من البسوس. لأنه أصابها رجل من العرب بسهم في ضرعها فقتلها، فقامت الحرب بينهما. قيل: البسوس: اسم امرأة، وهي خالة جساس بن مرة الشيباني، كانت لها ناقة يقال لها: سراب. فرآها كليب وائل في حماه، وقد كسرت بيض طير كان قد أجاره، فرمى ضرعها بسهم، فوثب جساس على كليب فقتله، فهاجت حرب بكر وتغلب ابني وائل بسببها أربعين سنة.
[8] داحس والغبراء: اسمان لفرسين دخل صاحباهما سباقًا؛ فلطم أحدهما فرس الآخر؛ ليمنعه من الفوز، فقامت حرب بين القبيلتين قُتِلَ فيها الألوف.
[9] لمزيد من التفصيل؛ راجع: ابن الأثير: الكامل في التاريخ 1/473، 509 وما بعدهما، وتاريخ ابن خلدون 2/360، 365.
[10] يوم بعاث: هو يوم اقْتَتَلَتْ فيه الأوس والخزرج في الجاهلية، وكان الظفر فيه يومئذٍ للأوس، وفيها أيام مشهورة هلك فيها كثير من صناديدهم وأشرافهم، وبُعاث اسم أرض بها عرفت، وقال الخطابي: يوم بعاث يوم مشهور من أيام العرب، كانت فيه مقتلة عظيمة للأوس على الخزرج، وبقيت الحرب قائمة بينهما إلى أن قام الإسلام مائة وعشرين سنة فيما ذكر محمد بن إسحاق بن يسار وغيره. انظر: الخطابي: أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري 1/591، وقال ابن حجر العسقلاني: وقعة بعاث كانت قبل الهجرة بثلاث سنين، وهو المعتمد، وهو أصح من قول ابن عبد البر في ترجمة زيد بن ثابت من الاستيعاب: إنه كان يوم بعاث ابن ست سنين، وحين قدم النبي  كان ابن إحدى عشرة، فيكون يوم بعاث قبل الهجرة بخمس سنين. نعم دامت الحرب بين الحيين الأوس والخزرج المدة التي ذكرها في أيام كثيرة شهيرة. انظر: ابن حجر: فتح الباري 2/441.
[11] للمزيد راجع: ابن الأثير: الكامل في التاريخ 1/601-604، وتاريخ ابن خلدون 2/345-347.
[12] يطلق اسم الفجار على عدة حروب أشهرها الحرب بين كنانة وقيس عيلان، للمزيد انظر: ابن الأثير: الكامل في التاريخ 1/527- 532، 598-607، وتاريخ ابن خلدون 2/75، 211.
[13] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 1/487، 488، وأبو الفداء: المختصر في أخبار البشر 1/104.
[14] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 1/497، 498، وأبو الفداء: المختصر في أخبار البشر 1/104.
[15] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 1/493- 496، وأبو الفداء: المختصر في أخبار البشر 1/104.

د.راغب السرجاني