بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته


سأل رجل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الله سبحانه، أهو قريب ليناجيه بصوت خفي أم بعيد ليدعوه بصوت مرتفع؟ عندها نزلت الآية 186 من سورة البقرة:
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾

أيها الاحبة
إن العلاقة بين الانسان والله تعالى، هي من حيث المسافة (إذا قدر لنا أن نقيسها ماديا) أبعد ما يكون من أي قياس في الكون.. فالله من حيث موقعه العالي المتعالي لا يدانيه علو، فهو الخالق المدبر والمنظم والراعي والمالك والرازق والمنعم والمعطي يحيي ويميت وإليه المصير.. وفي الوقت نفسه فإن الانسان من موقعه المحتاج والعاجز والفقير إلى الله في اصل خلقه ووجوده وبقائه وعيشه لا استقلال له عنه مطلقاً في الرزق والرعاية في كل لحظة من لحظات حياته.

فكيف اذا تكون هذه العلاقة وكيف تسير وبأي سبل.. علماً أن هذه الرابطة ستظل تحكم الإنسان حتى قيام الساعة..
ونحن اعتدنا في واقعنا على فكرة ان الموقع كلما علا وارتفع، اصبحت العلاقة معه اكثر تعقيدا واكثر بعداً وصعوبة وتحتاج معها الى وساطات كثيرة. هذا في قاموس غالب الناس.. اليس كذلك؟

أما في العلاقة بين العبد وخالقه فيمكننا القول انه بالرغم من بعد الموقع الذي تحدثنا عنه الا انها هي العلاقة الاقرب على الاطلاق، ويقول القرآن الكريم: «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إليه مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ»

الله أقرب ما يكون للانسان.. أقرب اليه من روحه، اقرب إليه من حبل الوريد.. موجود في كل لحظة وخلجة وخفقة، وهذا من باب ربوبيته ورحمته وحنوه وعطفه ومحبته وحرصه على من خلق، عينه لا تنام، يدبر الامر يهدي ويرشد: فهو بعيد لا يرى وقريب يشهد النجوى..« وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ..».
ان هذا القرب وهذا الحضور لله في حياة خلقه لهو نعمة من اهم النعم التي أنعم بها الله على الانسان.. والتي للاسف لم يستثمرها الانسان ولم يستفد منها بالقدر الذي يعينه في حياته..

ان تغييب فكرة "قرب الله" واستبعادها من التواصل قيَّد علاقة الانسان بالله، فصار يحكمها الخوف والتوجس والغربة.. وكلنا يعلم ان على عاتق التربية تقع هذه المسؤولية التي جعلت من صورة الله صورة بعيدة مرعبة مخيفة.. يحلو للبعض أن يصوِّر الله لنا كأنه ينتظر عباده ليحصي عليهم زلاتهم، لينتقم ويتشفى وينفث غضبا ونارا والعياذ بالله.. كما أن البعض يحلو له بحسن نية أن يقدمه بصورة منغص اللذات، وأن الاصل لديه العقاب لا الثواب والنار لا الجنة.. القسوة لا الرحمة.. صورة للاسف زرعت في الوجدان فبنت الحاجز تلو الحاجز بين الفرد وخالقه.. وصار هاجسه دفع غضبه ورد عقابه،
والمشكلة عندما يتكرّس هذا الاسلوب في التربية منذ الطفولة البريئة والتي لا تكون قد اختبرت المعاصي أو اساءت الى علاقتها بالله.. عندها ماذا يحدث في قلبِ الطفل؟ يصبح الله بعيداً بدل ان يكون قريبا، ويصبح مراقبا بدلا ان يكون سندا وموجها وحاميا .. وتصبح الابواب الى الله مغلقة مع انها هي بالأصل مشرعة على مصراعيها.. ألا نسمع آباء يحذّرون أطفالهم: اللي بيكذب الله بيخنقو.. اللي بيسرق الله بموتو.. ألا نغلق بمثل هذه الأساليب القلوب الطرية دون الله وحبّه ورحمته.

وهذه التربية الخاطئة للاسف جعلت للشيطان بطريقة او باخرى الحضور الاوسع، وان كان من باب الحذر منه.. فصار كل همنا الخوف من الشيطان في خط مواز للخوف من الله. نعم هذه التربية هي التي توسع ساحة الشيطان تمنحه أبواباً أوسع للقلوب، فيما تضيّق ساحة الله التي وسعت كل شيء ونوره الذي اضاء كل شيء.

أيها الاحبة :
إن هذه العلاقة مع الله وبالشكل الذي هندسها فيه ورسخ قواعدها نجدها مجسدة لدى الانبياء الذين عرفوا الله حق معرفته، فقصرت المسافة بينهم وبينه..
والقرآن الكريم أورد قصصهم ومواقفهم مبرزا هذه العلاقة مظهرا تفاصيلها ودقائقها...

فهذا ابو الانبياء ابراهيم عليه السلام كما يخبرنا القرآن يتوجه الى الله بهواجسه المعرفية: «رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى، قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن...» فيرد ابراهيم « قال بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي» تصوروا هذه العلاقة؛ النبي ابراهيم لم يخش. انفتح بطلبه المعرفي على الله والمتعلق بموضوع عقيدي: الآخرة والبعث بعد الموت فيطلب البرهان لمزيد من الاطمئنان بعد الايمان واليقين. وهذا ما يعكس علاقة حب وودّ حتى الدلال، وهذا ليس على الله ببعيد. فالله يعطي حاجتك، وهو جاهز للزيادة.. فهو الذي قال لرسوله «ولسوف يعطيك ربك فترضى»..

أما النبي موسى فلم يتردد ان يعرض همه وشكوكه من انه قد لا يفي بالدور المطلوب منه، فقدم مشكلته بكل تهذيب مع تمهيد ليحدثه عن نقطة ضعف تتمثل بعدم قدرته على النطق بالكلمات بمخارج حروفها .. وهو أمر لا ينتقص من موقعيته انما هو شيء تقني بحت. اراد النبي موسى ان ينفتح على الله بهذه المخاوف، فأجرى بين يدي الله فضفضة نفسية حقيقية، ويقترح على الله الحل «قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ* وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ» واستجاب الله لطلبه ووفق مهمته بمعية اخيه هارون.

ويصور لنا القرآن في مثلٍ آخر تواصل النبي يوسف مع الله تعالى في أشد لحظة يمرّ بها وفيها تحدٍّ لعفته وثباته إذ توجه الى ربه «وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ» هنا تتجسّد ثقة يوسف بالله، يفتح قلبه من غير وجل وبكل شفافية يسأله: يا رب ساعدني حتى لا اسقط في الامتحان.. اعطني قوة.. اكاد ان اقع ان لم تعصمني.

وهذا هو النبي زكريا يتوجه الى الله بهمٍّ شخصي فطري وهو الحاجة إلى الذِرية والولد فامرأته عاقر، ويخاف ان ينقطع نسله، فنراه يمهد طلبه الى الله بتفاصيل مؤمِّلاً استدرار رحمته ورأفته: «قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً» ويستجيب الله «يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ..» ويبادله الله بأكثر مما طلب حتى يرضى فسمى له الغلام باسم فريد من عنده «يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا».. وبعد هل وقف الحوار عند هذا الحد؟ لا، النبي زكريا لم يُخْفِ استغرابه في مقام الاخذ والرد:« رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِي ٱلْكِبَرُ وَٱمْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ ٱللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ» «قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا» وتحققت البشرى وكان لزكريا ما طلب من ربه، وجاء ولده يحيي ليكون نبيا هو الآخر.. «وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا»

أيها الأحبة
إن هذا الانفتاح على الله والعفوية والشفافية وهذا الارتقاء هو ما نريده ان يكون طابع علاقتنا بالله علاقة العبد بربه، علاقة المؤمل، علاقة الحب والود لحد العشق، علاقة تصل بك الى ان تقول ما قاله امير المؤمنين:
كفى بي عزاً ان أكون لك عبدا وكفي بي فخرا ان تكون لي ربا.

ان هذه العلاقة علاقة القرب هي ليست حكراً على الأنبياء المقربين والأولياء فحسب بل هي شاملة، وتتسع لكل من يعرف الله حق معرفته ويدعو الله بقلب سليم أخذا بالأسباب طاردا للمنفرات: فالله حبيب من تحبب اليه وقرة عين من لاذ به والتجأ اليه.. وشعارنا قول الشاعر:

لَيتَكَ تَحلو وَالحَياةُ مَريرَةٌ وَلَيتَكَ تَرضى وَالأَنامُ غِضابُ
وَلَيتَ الَّذي بَيني وَبَينَكَ عامِرٌ وَبَيني وَبَينَ العالَمينَ خَرابُ
إِذا نِلتُ مِنكَ الوُدَّ فَالكُلُّ هَيِّنٌ
وَكُلُّ الَّذي فَوقَ التُرابِ تُراب
والحمد لله رب العالمين