بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته


رغم مرور أكثر من 13 قرنأً لكن لا زال الكثير من المسلمين وغيرهم يجهل كل الجهل أسباب ودوافع قبول الامام علي بن موسى الرضا عليهما السلام ولاية العهد (رمضان 201- صفر 203هجري) للخليفة العباسي الطاغية "المأمون" ، وفي ذكرى مولده (ع) المبارك والميمون أرتأيت أن أستعرض ذلك باختصار لضيق المقام من باب "فذكر ان الذكرى تنفع المؤمنين – ".
لقد أشرقت الأرض بمولد الامام علي الرضا عليه السلام والذي نعيش هذه الايام ذكرى مولده المبارك والميمون، فقد وُلد خَيرُ أهل الأرض، وأكثرهم عائدة على الاسلام. وَسَرَتْ موجاتٌ من السرور والفرح عند آل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد استقبل والده الامام الكاظم عليه السلام النبأ بهذا المولود المبارك بمزيد من الابتهاج، وسارع الى زوجته يهنئوها بوليدها قائلاً: (هَنِيئاً لكِ يا نَجمَة، كَرامَةٌ لَكِ مِن رَبِّكِ ).
وسمَّى الامام الكاظم (ع) وليده المبارك باسم جده الامام أمير المؤمنين على بن أبي طالب عليه السلام تَبَرُّكاً وَتَيَمُّناً بهذا الاسم المبارك، والذي يرمز لأَعظَم شخصية خُلِقَت فِي دنيا الاسلام بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والتي تَحلَّت بجميع الفضائل.
فهو عليه السلام بضعة نبي الرحمة (ص) وله موضع حساس وثقيل في السلسلة المعصومة الطاهرة (ع) في الزمن الاسلامي والمضمون الولائي، حيث أن الدارس لسيرته يلتمس حقائق اسلامية ومعجزات امامية تنطق بدور الامام أبا الحسن (ع) في المتغير الاسلامي، حيث أنه جمع الاسلام جغرافية وفكراً ومدارس ورتب بمواقفه حقائق الامامة رغم كل الاضطهاد الذي عاشه وعلى طول أزمنة أجداده حتى انتهت ولاية العهد إليه، على الرغم من ان الولاية عندهم منذ عالم الذر، فهم آل بيت عليهم السلام أرفع عن الدنيا وحطامها، بل هم حجج الله البالغة والمرشدة للدار الدائمة والامام الرضا(ع) كان يدرك تماما ماذا وراء عرض الخليفة العباسي "المأمون" لقد قتل المأمون أخاه الأمين من أجل الحكم والخلافة فكيف يتنازل عنها؟! ، حيث نلحظ ذلك في حادثة طلب المأمون من الامام الرضا (ع) أن يؤم الناس في صلاة العيد ب"مرو" فخرج بروح وروحانية صلاة عيد رمضان المبارك مجسدا سنة النبي الأكرم (ص) … وكيف تفشى الفزع والخوف في نفس وسلطة "المأمون" مما دفعه لارجاع الامام الرضا (ع) ومنعه من اقامة صلاة العيد (الارشاد:ج2 ص264 وعيون أخبار الرضا (ع): ت42 ج1).
كان "المأمون" ذكياً جداً وكان يهدف من وراء تعيين الامام علي بن موسى الرضا (ع) ولياً للعهد وتحت طائلة الضغط والاصرار والتهديد بالقتل الى تحقيق أهداف سياسية اخرى منها:
1- تهدئة الأوضاع المضطربة بعد الاضطربات التي حدثت جراء القتال الدَّامي بين "المأمون" وأخيه "الأمين" والذي انتهى بقتل الاخير، إضافةً إلى قيام ثورات وحركات مسلحة وازدياد عدد المعارضين لحكمه.
2- تحسين صورته أمام الناس بأنه يحب أهل البيت عليهم السلام وليس كما كان عليه والده "هارون" .
3- اضفاء الشرعية على حكمه وتحقيق ما يصبو اليه مستفيدا من الولاء الفكري والعاطفي للامام (ع) في نفوس المسلمين، ورضاه الظاهري، وهو ما ستستنتجه الأمَّة .
4- إرضاء العلويين والذين رفعوا لواء الثورة في مناطق عديدة من الدولة العباسية.
5- إبعاد الامام الرضا (ع) عن قواعده الشعبية ، وتحجيم الفرَص المتاحة للاجتماع بوكلائه ونوابه المنتشرين في شرق الأرض وغربها، بتكثيف المراقبة من مراقبة الامام (ع) بذريعة المحافظة على سلامته.
6- إيقاف خطر الامام الرضا (ع) على الحكم العباسي القائم لو ترك الامام (ع) في المدينة لأدَّى ذلك الى ضعف سلطة "المأمون"، وبهذا الصدد قال المأمون: "وقد خشينا إنْ تركناه على ترك الحالة أن ينفتقَ علينا منه ما لا نسدُّه، ويأتي علينا ما لا نطيقه".
7- تشويه سمعة الامام علي بن موسى الرضا (ع) والإيحاء للناس أن زهد العلويين ومعارضتهم للحكم هو من أجل الحصول على المناصب والدليل وجوده (ع) في جهاز الحكم العباسي رغم ظلمه الفرعوني (رجال الكشي: ح958 وأمالي الصدوق: ص64).
وقد كشف الامام الرضا (ع) ذلك خلال حديثه ل"المأمون" بقوله: "تريد بذلك أن يقول الناس: إنَّ علي بن موسى الرِّضا لم يزهد في الدنيا بل زهدت الدنيا فيه، ألا ترون كيف قبل ولاية العهد طمعًا بالخلافة"؟!.
كما أن "المأمون"صرح بذلك أمام كبار العباسيِّين عندما أجتمعوا عنده في "مرو" معترضين على قرار ولاية العهد للرضا (ع) ، حيث أجابهم بقوله: "…ولكنَّنا نحتاج أن نضع منه قليلاً قليلاً حتَّى نصوِّره عند الرَّعايا بصورة من لا يستحقُّ هذا الأمر".
8- جمع زعماء العلويين في العاصمة ثم العمل على تصفيتهم الواحد بعد الآخر.
9- توريط الامام أبا الحسن (ع) باتخاذ بعض الاجراءات السياسية ومن ثم محاسبته بتهمة التقصير.

لكن الامام علي بن موسى الرضا عليه السلام كان واعياً لما يريده "المأمون" ، فقبل بولاية العهد المشروطة بعدم التدخل في شؤون البلاد عندما خاطب "المأمون" بالقول: "على أن لا آمر، ولا أنهى، ولا أقضي، ولا أغيِّر شيئًا ممّا هو قائم، وتعفيني من ذلك كلِّه" – (الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي: ص255) ولاسباب منها:-
1- التهديد بالقتل وهو ما كان بالعلن خلال عرض "المأمون" للامام الرضا (ع) بقبول الخلافة أو ولاية العهد ورفض الامام (ع) لهما مما اثار غضب "المأمون" وقال:" يا أبن العم ، إنَّك تتلقاني أبدًا بما أكرهه، وقد أمنت سطوتي، فبالله أقسم لئن قبلت ولاية العهد وإلاَّ أجبرتُك على ذلك، فإن فعلتَ وإلا ضربتُ عنقَك"-(عيون أخبار الرضا (ع): ت40 ح3).
فقال الامام (ع): قد نهاني الله عزَّ وجلَّ أن ألقيَ بيدي إلى التَّهلكة، فإنْ كان الأمرُ على هذا، فافعل ما بَدا لك. (أصول الكافي: ج1 ص557 – دار الأسوة – عيون أخبار الرضا (ع): ت40 ح5 وح21).
كما صرَّح الامام الرضا (ع) باضطراره للقبول وكان يقول: "قد علم الله كراهتي لذلك، فلمَّا خيّرت بين قبول ذلك وبين القتل اخترت القبول على القتل"- (البحار: ج49 ص144، وقريب منه في البحار: ج49ص155 نقلاً عن الكافي: ج8) رغم انه لم يستسلم للقبول خائفًا من قتله، وإنَّما سيكون قتله سببا في خسارة الحركة الرسالية لحاجتها الى قيادته في هذه المرحلة، وسيكون قتله مقدمة لقتل أهل بيته (ع) وشيعته وانصاره.
2- استثمار الظروف لاقامة الدين وإحياء السُّنـَّة النبوية المحمدية الاصيلة عبر الحرية النسبية الممنوحة للامام (ع) ولأهل بيته وأنصاره فهي فرصة مناسبة لتبيان معالم الدين ونشر منهج أهل البيت (ع) في مختلف الأوساط الاجتماعية والسياسية خصوصًا في البلاط الحاكم عن طريق الالتقاء بالوزراء والخواص والخدم والحرَّاس والقضاة والفقهاء وأهلِ الدِّيانات الذي جمعهم المأمون لمناظرة الامام (ع)، اضافة الى قيامه بتوجيه المأمون الى اتِّخاذ الرأي الأَصوب مهما أمكن، وقد صرح الامام (ع) بذلك قائلاً: "اللهمَّ إنَّك قد نهيتني عن الإلقاء بيدي إلى التهلكة، وقد أُكرهت واضطررت …فوفقني لإقامة دينك، وإحياء سنَّة نبيِّك محمَّد (ص)، فإنَّك أنت المولى وأنت النَّصير، ونعم المولى أنت، ونعمَ النَّصير"- (تحف العقول: ص415 فما بعدها وأصول الكافي: ج11 ص223 فما بعدها).
3- تصحيح الأفكار السياسية الخاطئة حول تصدِّي أهل الدين للسياسة والتي كانت سائدة عند غالبية المسلمين ولا تزال حتى يومنا هذا وهي فكرة أموية – عباسية نفاقية، وأنه لا يليق بالأئمة والفقهاء أن يتولوا المناصب السياسية، فأراد الامام الرضا(ع) وبقبوله ولاية العهد أن يصحِّح هذه الأفكار السياسية الخاطئة، ويوضح للمسلمين وجوب التصدي للحكم في الظروف المناسبة
.
4- إفشال مخطَّطات "المأمون" بأن يقوم بتولية العهد لأحد العلويين، ويستثني عن إكراه الامام (ع) أو قتله، والعلوي المنصَّب لولاية العهد، إمَّا أن يكون: مساومًا، أو انتهازيًّا، أو مخلصًا قليل الوعي، أو واعيًا معرَّضًا للانزلاق في مغريات السلطة، وفي جميع الحالات، فان هذا الموقف سيؤدي الى شق صفوف أنصار أهل البيت (ع)، أو توريط العلوي بممارسات خاطئة تؤدي الى تشويه سمعة أهل البيت (ع)، أو القاء مسؤولية الفساد الاقتصادي والأخلاقي والاداري والسياسي عليه. أو يؤدي انزلاق من يتولى العهد من العلويِّين الى قيامه بمعارضة الامام (ع) أو ملاحقة أتباعه وأنصاره وشق صفوف الحركة الرسالية عبر إلقاء تبعة المفاسد على من يُنسب إلى أهل النبي (ع).
5- تعبئة طاقات اتباع وانصار أهل البيت (ع) بعد فشل الثورات العلوية وانكسارها عسكريا، حيث كانت الظروف التي خلقتها ولاية العهد مساعدة لاعادة بناء القوة العسكرية لأهل البيت (ع) وتعبئة طاقاتهم بايقاف الملاحقة والمطاردة لهم لإدامة التحرك فيما بعد حينما تكون الظروف
.
كما أنه كانت هناك مكتسبات كبيرة اخرى بقبول الامام علي بن موسى الرضا (ع) قبول بولاية العهد ، منها:-
1- اعتراف "المأمون" بأحقِّية أهل البيت (ع) في الخلافة والتصدي لأمور الأمة سياسياً ودينياً وذلك باعترافه الصريح في كتابه الذي كتبه للعباسيين المعترضين على تولية الامام الرضا (ع) ، حيث جاء فيه: "… فلم يقم مع رسول الله (ص) أحدٌ من المهاجرين كقيام علي بن أبي طالب (ع) فإنَّه آزره ووقاه بنفسه … وهو صاحب الولاية في حديث غدير خم، وصاحب قوله: أنت منِّي بمنزلة هارون من موسى إلاَّ أنَّه لا نبيَّ بعدي … وكان أحب الخلق الى الله تعالى والى رسوله، وصاحب الباب، فتح له وسدَّ أبواب المسجد. وهو صاحب الراية يوم خيبر، وصاحب عمرو بن عبد ودّ في المبارزة، وأخو رسول الله (ص) حين آخى بين المسلمين…".
2- توظيف وسائل الاعلام الرسمية لصالح الامام (ع) ، فالولاة والأمراء وأئمة الجمعة يدعون له من على المنابر في كل يوم، وكل جمعة وكل مناسبة، اضافة الى طبع اسمه على الدراهم والدنانير المعمول بها في جميع الأمصار.
3- حرية الامام الرضا(ع) في المناظرة للرد على جميع الشبهات المثارة من قبل أصحاب الأديان وأصحاب المذاهب، وتفنيد آراء الغلاة والواقفة، وتثبيت الآراء السليمة المنسجمة مع نهج أهل البيت عليهم السلام (البحار: 49: 290).
4- نشر مفاهيم وفضائل أهل البيت عليهم السلام ودورهم الريادي في الأمة، وخصوصًا بين الوزراء وقادة الجيش والفقهاء والقضاة، ومن يرتبط بالبلاط الحاكم بِصِلة.
5- حقن دماء المسلمين من أتباع أهل البيت (ع) ومن أتباع النظام الحاكم، فأعلن المأمون العفو العام عن قادة الثورات، ومنهم: زيد وابراهيم إخوة الامام (ع)، ومحمَّد بن جعفر. وتوقفت الثورات المسلحة، وتوجه قادتها وكوادرها الى اصلاح الأوضاع بصورة سلمية هادئة، وبناء القواعد الشعبية
.