الفصل الثالث : جوهر الفكر الألماني
15يرى
نيتشه أن الفكر الألماني مماثل في بنائهللمتاهة، ومثل هذا
التشخيص يؤكد لنا من جديد الاختلاف الموجود بين الفكر الفرنسي الذي يسعى نحو الوضوح، والفكر الألماني المدرك أن إشكاليات الفكر والحياة معقدة، ولا يمكن الإجابة عليها في كل الأحوال بوضوح، ويعترف
ليبنتز صراحة أن القدر في اللاهوت، وتكوين المتصل في الفلسفة، هما بالفعل متاهتان، ولكن الباحثين لم ينفوا بتاتا إمكانية إيجاد خيط مرشد داخلهما، وأنهم اعترفوا بالصعوبة، ولكنهم لم يحولوا الصعب إلى مستحيل. كما أن المثال المنطقي سيكون بالضرورة إقصاء لكل الوقائع الاحتمالية الجائزة لصالح الضرورة والعقل، أي القول أن المركز النظري سيأخذ هيئة المتاهة الدائرية. إن روح المنهج تتضح غالبا باستعارة المتاهة والقصر، التي لا نجد أنفسنا فيهما إلا بمساعدة خيط
آريان. وقد تنبه
دفيد سمارد David Simard في مقاله المعنون بـ : "
كانط أو المحاولة الفاشلة لإنقاذ المثالية"، إلى أن هذا الأخير يلجأ إلى ما سماه بـالدوران الفكري عندما يتعرض للطبيعة مثلا، فهي كما يمكن أن نفكر فيها (نقد ملكة الحكم- بعد ميتافيزيقي) طبيعة مبدعة، خالقة ولها قصدية وغائية. هذا النوع من الطبيعة ليس موجودا، ولكن لابد أن نعمل "كما لو كان كذلك" / "Comme si". ويصفه كذلك بالمكر فهو لا يقول أن الله والروح موجودان، ولكن لا بد أن نسلك كما لو كانا كذلك. وبالنسبة لهيجل
، يرى
كارسنتي أنه لمس المطلق عندما كان شابا، فاعتقد أنه أصبح مجنونا، وفي النهاية وصل إلى الرضا، فأدار دهره للمطلق، فمات الخشوع لديه. ولقد توصل الفيلسوف العربي
عبد الرحمن بدوي إلى نفس النتيجة في مؤلفه حول "
شوبنهور"، واصفا موقفه من الحرية بالالتواء و التناقض.
16بالإضافة إلى الصعوبات التي يطرحها هذا الدوران/اللاوضوح، هناك دلالات مهمة يمكن استخلاصها منه، وهي :
- صعوبة الحكم على القضايا حكما جازما وتعقد الإشكاليات.
- الموقف الفلسفي قابل للتغير والتطور.
- الفكر الألماني ليس حبيس مذهب بعينه، فهو يوظف عددا كبيرا من المذاهب، ما جعل هيجل لاحقا يربط الحقيقة بالكل.
17إن قراءة الفرنسيين للفكر الألماني، كانت قراءة أيديولوجية، فمنذ الانتقادات الأولى حاول الفرنسيون معارضة مفكر ألماني بمفكر ألماني أخر، كما فعل
لبر Lebre .A سنة 1843، حيث أن ألمانيا في نظره زعزعت الإيمان، وقد أكمل
هيجل ما بدأه
كانط، في حين أن المسيحية قد أعلنت عن إلـه شهيد. ولكن يعود الفضل لشلنج الذي أعاد نفحة الإيمان، عندما اعتبر أن إله الوعي الكوني هو إله شخصي وحر، وحرية الإنسان تتماشى مع كون الله مشخصا، لذلك لا يجب أن نترك العقل وحده يستحوذ على كل فكرنا، فالله بما أنه متميز و ليس فقط موجودا عاما، لا يمكن أن يدرك بالعقل، الذي لا يعرف منه إلا ما هو لا شخصي. وقد صار مجمل الفكر الألماني تعبيرا عما يسمى بـ "البؤس الألماني"، ويعترف
دولوز في دروسه حول
ليبنتزبأن فلسفة هذا الأخير هي بالدرجة الأولى عقلانية، وأنه فيلسوف النظام، ومن هذا المنطلق يعرفنا بحقيقة مفادها أن
ليبنتز"رجعي" Réactionnaire. و في حواره مع
جنات كلومبالJeannette colombelيرى أنه من المسموح له استخلاص بعض الخصوصيات بالنسبة لفلسفة محافظة، من غير أن يفعل هذا مع
هيجل، لأنه لا بد على أحد ما من أن يلعب دور الخائن. وقد لجأ
دولوز إلى
نيتشه من أجل دحض الديالكتيك
الهيجلي، لأن
دولوز يركز على الاختلاف، لذا يعتبر الديالكتيك مجرد "سيمولاكر" يكرس الوضع الراهن. وبتركيز
هيجل على النفي والعدم، فقد كان سببا في ظهور العدمية (انتصار القوى الرجعية) التي انتشرت في ألمانيا، والتي كان
نيتشه من محاربيها. إن الاختلاف
الهيجلي وفق هذه القراءة اختلاف مجرد، لا يعترف بالاختلاف الأنثروبولوجي، فليس لأن الوجود ينفى يوجد إذا اختلاف، ولكن لأن هناك اختلاف يمكن للوجود أن ينفى. إن هذه "الرجعية" هي التي ستشكل فيما بعد ما أطلق عليه
أوستاش كوفيلاكيس Eustache Kouvélakis و
لوسيان كالفي Lucien Calvié وكذا
فرانسوا جونتون François Genton بـ : "البؤس الألماني
". وهذا ما شرحه
ماركسمن قبل عند دراسته لـ
كانط مبيّنا خوف الألمان من الفعل السياسي، ما يعكس عجزهم وبؤسهم، ويعتبر
كانط الممثل للإرادة الخيرة والمدافع عن البرجوازية، نموذجا مثاليا لذلك البؤس.
18وفيما يخص الدروس التي خصها
ألكسندر كوجيف لـ : "فينومينولوجيا الروح"، فإنه يعترف بأن عمله ليس له خصوصية الدراسة التاريخية، فلم يكن يهمه أن يعرف ما أراد
هيجل قوله، وأن درسه كان عمل دعائيا موجه لصعق العقول. ومن هنا يتضح أن القراءات الفرنسية للفكر الألماني ليست قراءات علمية وموضوعية. وقد حاول
برنارد بورجوا تصحيح هذا الوضع لاحقا، ففي نظره يمكن النظر إلى الفلسفة الألمانية الحديثة من زاويتين :
191) الفكر الألماني يحوي تناقضا وصراعا بين مفكريه، كما هو الحال بين
هيجل و
كانط، حيث أن الإيمان في نظر
كانط يمثل نهاية الفلسفة، و
المسيح ليس إلا إنسانا مؤلها، فهو يقف موقف
الأنثروبولوجي الجغرافي البراغماتي، ولا يعطي للعادات والانفعالات دورا إيجابيا، تماشيا مع جوهر الأنوار الرافض للتقليد، وللماضي وللتاريخ. إن الأنثروبولوجيا
الكانطية، والأنثروبولوجيا
الهيجلية أنثروبولوجيتان عقلانيتان، ولكن أحدهما مؤسسة على إثبات العقل المناضل، والأخرى على إثبات العقل المنتصر.
20ويؤسس
كانط الفلسفة السياسية للفهم، والقائمة على الاعتقاد أن إثبات الحرية الإنسانية في الفرد هو ما يحقق الدولة، ولقد حاول أن يغير السياسة بالأخلاق، لأن المطلب الأخلاقي عقلاني ومثالي، أما الواقع السياسي فهو غير عقلاني، لأنه انعكاس لما هو كائن. بهذا الشكل يصبح المثالي عقلانيا، والواقعي لا عقلانيا. والنتيجة أنه أسس لفهم واع بمحدوديته وبسلبيته، ما لم يؤهله للثورة.
21أما
هيجل فقد وضع
أنثروبولوجيا تاريخية بإعطاء العادات والانفعالات دورا إيجابيا، وبالارتكاز على التاريخ يكتسب الإنسان مشروعية كاملة ويتشبع بالروح المطلق. إن وجود المواطن (الواجبات) يضمن وجود الإنسان (الحرية)، أي أن الإنسان لا يمكن أن يكون إنسانا إلا إذا كان مواطنا (حق الدولة يؤسس حق المواطن)، وهذه الاعتبارات تؤسس الفلسفة السياسية للعقل، ومهمة الفلسفة هي التفكير فيما هو موجود، وما هو موجود يمثل العقل، ولأن الواقع السياسي موجود فهو يمثل العقل.
222
) ولكن الفكر الألماني يعبر أيضا عن التعاون و التكامل بين مفكريه، فرغم هذا الاختلاف و التنافر، فإن
الكانطية و
الهيجليةفلسفتان للحرية، وقد عملا على التوحيد بين الحسي والعقلي،
فالهيجلية تستكمل الحركة التي بدأها
كانط، أي حركة مصالحة الحرية المطالب بها في حقوق الإنسان، مع الضرورة التاريخية المؤدية إلى تطور الدولة. وهذه المصالحة تمر هنا كذلك عبر إدانة تحقيق حقوق الإنسان عن طريق الثورة.
23إن النظرة الواقعية للحرية تجد تبريرا أقوى من حيث أن الفلسفة الألمانية تضحي بالفرد لصالح المنفعة الجماعية، فلقد أرادت الثورة الفرنسية أن تمنح الحرية والمساواة للجميع، ولكن في ألمانيا كان الأمر دائما متعلق بحكم جمهوري- ملكي أو ملكي – جمهوري.
24إن القراءة العلمية والموضوعية التي يقترحها
بورجوا حول الفكر الألماني تتحول إلى مجرد قراءة ذاتية في المبحث الأخير الذي خصه لدراسة حضور النص
الديكارتي في الكتابات الفلسفة الألمانية. كما أنه يعتبر أن ما توصلت إليه الفلسفة الحديثة مكافئ لما هو موجود في المسيحية التي مهدت لها الفلسفة اليونانية القديمة، من حيث أن تأثيرين أساسيين أثّرا على الفلسفة الألمانية، فهناك تأثير
ديكارت في لحظته النظرية، ثم تأثير
روسو في لحظته العملية، بمعنى أن الفلسفة الألمانية هي امتداد للفلسفة الفرنسية. ثم إن الفلسفة لا تفعل إلا أن تحكي قصة المجتمع الكوني (الإلهي) المتفرد والتفردات (الإنسانية) المعممة، أي أن الفلسفة الأوروبية تستمد مبادئها من المعتقدات المسيحية التي تركز على مرحلتين جدليتين مؤسستين للإيمان هما : مرحلة حلول وتجسد الكلي (الله – الروح – الفكرة–المفهوم...) في الفردي والشخصي والحسي، ثم مرحلة تحول هذا الفردي إلى كلي. وبذلك تتماها الفلسفة الفرنسية مع الفلسفة الألمانية في وحدة عجيبة، تزيل عن كل منهما خصوصياتها وتفرداتها. ومن ثم يظهر لنا أن المصالحة التي أقامها
بورجوا بين الفكر الفرنسي والألماني مصالحة مصطنعة فيها كثير من التعميم، الغرض من ورائه سلب الفكر الألماني تميزه وتفرده في الإجابة على إشكاليات الحياة، سواء كانت الإجابة فلسفية أو أدبية أو فنية.
استنتاجات
- إن الفكر الألماني على العموم يفكر بالمفهوم و يجتهد في إنتاجه و توظيفه في جميع المجالات، ومن هنا فهو يواصل ما بدأه اليونانيون. ولكن المفكرين الألمان يرون بأن الحقيقة لا تكمن في عالم مثالي منفصل، بل هي مرهونة بمدى قدرة الإنسان على تأمل شروط وجوده. كما تبقى المصالحة بين قطاعات الوجود المختلفة مبدأ أساسيا، وخاصة عند ليبنتز، كانط وهيجل.
- إن إلحاق المثالية بالفكر الألماني بالذات ناتج عن رد فعل فرنسي لم يكن ليرضى بالمشروع الفلسفي الألماني الذي نعته بالبؤس وبالجمود، إيهاما بأن هذا الفكر بعيد عن الواقع (الاجتماعي والسياسي) وغير قادر على تغييره. وكل ما في الأمر أن استراتيجيات التغيير كانت متباينة، فكانت تعتمد إما على رؤية إصلاحية وتركز على إحداث ثورة فكرية وجمالية (الحرية الفكرية)، وإما أنها كانت تقوم على رؤية ثورية سياسية (الحرية السياسية).
- وبالتالي فإذا كانت الفلسفة الألمانية الحديثة امتدادا للفكر اليوناني، فإن في هذا الأخير يؤدي إلى المصالحة بين الفكر والواقع وبين المعقول واللامعقول، وإن كانت امتدادا للمسيحية، ففي هذه الأخيرة أيضا شروط للتوفيق بين الهنا والهنالك أو بين الحسي والغيبي، أما إن كانت نابعة من روح العصر، فإن عصرها محكوم برهانات اجتماعية وسياسية توجب على الفيلسوف أن يكون عمليا أو براغماتيا. وهذا ما يفسر أن الباحث برنارد بورجوا يصف كل من فلسفة كانط وهيجل بأنهما فلسفتان براغماتيتان، ولا يتعامل معهما على أساس أنهما مثاليتان، أو منفصلتان عن الواقع. ومنه فإن مفهوم المثالية لوحده غير كاف للتعبير عن حقيقة ومضمون الفلسفة الألمانية، التي كانت تشتغل في اللاوضوح واللامعقول والجنون والمتاهة والرومانسية، ولكنها أيضا كانت تشتغل داخل الأنساق العقلانية الصارمة، والمنصتة للتاريخ وللعلم.
25إن المثالية إذا مفهوم قابل للتأويل، وقابل لأن ينطبق على فلسفات متباينة، والرؤية الفلسفية على العموم أوسع من أن تحصر في مذهب بعينه. والفكر الألماني مهم لأنه يتيح لنا فرصة التوجه نحو الإمكان، بدل الاكتفاء بمحدودية الشروط الواقعية، فالانغماس في نمط حياتي مادي وتقني يفقد الحياة كل معنى. والمعنى قابل للاسترجاع بالمصالحة الممكنة بين أطراف ثلاثة هي : الإنسان، الطبيعة والله.