ولادة الحر العاملي 1033 هـ
من هو الحرّ العامليّ ؟
هو محمّد بن الحسن بن عليّ.. ينتهي نسبه إلى الحرّ بن يزيد الرياحي المستشهَد بين يدَي سيّد الشهداء الإمام الحسين عليه السّلام يوم طفّ عاشوراء.
فهو إذن وريث الشرف والعزّ، وحفيد أسرة جُلّهم من العلماء والأدباء، ومن سلالة المجد والكرامة والفضائل والمعالي. يقول السيّد محسن الأمين العامليّ: آل الحرّ بيت علم قديم، نَبَغ فيه جماعات، ولا يزال العلم في هذا البيت إلى اليوم، يمتازون بالكرم والسخاء، وبشاشة الوجه وحُسن الأخلاق (1).
أمّا مولده فيذكره هو نفسه حينما يترجم لنفسه في كتابه ( أمَل الآمِل ـ القسم الأوّل ص 141 ) حيث يقول: مؤلّف هذا الكتاب، كان مولده في قرية (مَشْغَرى) ليلة الجمعة ثامن رجب سنة 1033 هـ. ومَشْغرى قرية من قرى لبنان من ناحية البقاع (2).
وأمّا دراسته فيذكرها هو أيضاً في (أمل الآمل) أنّه قرأ بمشغرى على أبيه وعمّه وجدّه لأمّه وخال أبيه وغيرهم. وهو يروي بالإجازة عن الشيخ المجلسيّ وعن السيّد نعمة الله الجزائريّ وغيرهما؛ إذ كان ممّن يُوثَق به ويروي عن الثقات المعروفين.
مكانته العلميّة
نترك تقييمها لأهل الخبرة من العلماء:
• قال عليّ بن ميرزا أحمد في ( سُلافة العصر ص 367 ): تصانيفه في جبهات الأيّام غُرَر، وكلماته في عُقود السُّطور دُرَر.. يُحيي بفضلِه مآثرَ أسلافِه، ويُنشئ مُصطبِحاً ومُغتَبِقاً برحيق الأدب وسُلافه، وله شعر مُستعذَب الجَنا، بديع المُجتلى والمُجتنى.
• وذكره الأردبيليّ في ( جامع الرواة 90:2 ) فوصفه بأنه محقّق مدقّق، عالم فاضل متبحّر في العلوم، جليل القدر رفيع المنزلة.
فيما وصفه خير الدين الزركليّ في ( الأعلام 321:6 ) بأنه فقيه إماميّ مؤرّخ.
• بينما أجزل الشيخ عبّاس القمّي في الثناء عليه عند ذكره في ( الكُنى والألقاب 176:1 ) فقال: شيخ المحدّثين، العالم الفقيه النبيه، الورع الثقة الجليل، صاحب المصنّفات المفيدة.
• وأثنى عليه الشيخ يوسف البحرانيّ في (لؤلؤة البحرين ص 76 ) قائلاً: كان عالماً فاضلاً محدِّثاً أخباريّاً.
• وذكره الشيخ عبدالحسين الأمينيّ في ( شهداء الفضيلة ص 210 ) فقال: مجدِّدُ شرفِ بيته الغابر، تَقلّد شيخوخةَ الإسلام على العهد الصفويّ، وقد اختصّه المولى تعالى بتوفيقٍ باهرٍ قَلَّ مَن ضاهاه فيه، فنشر أحاديث أئمّة الدين صلوات الله عليهم.
• ونقف مع عمر رضا كحّالة وهو يعقد للشيخ الحرّ العامليّ عنواناً في كتابه ( معجم المؤلّفين 204:9 ) فيقول فيه: مؤرّخ، فقيه، أُصوليّ، محدِّث متكلّم، مشارك في أنواع من العلوم.
وهذه الكلمات ـ أيّها الإخوة ـ مؤشّر واضح على وثاقة الشيخ الحرّ العامليّ وجلالة قدره. وإذا كان تقييم العلماء ذوي الاختصاص مقياساً لمعرفة المكانة العلميّة للعالم، فالمؤلّفات التي دوّنها قلمه هي مقياس آخَر.
مؤلّفاته
أوّل مصدر وأهمّه وأدقّه في الاعتماد على تعداد كتب الشيخ الحرّ العامليّ هو ما كتبه في ترجمة نفسه في ( أمل الآمل ـ القسم الأوّل ص 142 ـ 145 ) حيث ذكر أنّ له كتباً طُبع أكثرها، منها:
1. الجواهر السَّنيّة في الأحاديث القدسيّة ـ لم يجمع أحد قبله مثله.
2. الصحيفة الثانية من أدعية الإمام السجّاد عليه السّلام ـ غير الصحيفة الكاملة.
3. تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة ـ طبع في 30 مجلّداً محقّقاً، وقد اشتمل على جميع أحاديث الأحكام الشرعيّة الموجودة في الكتب الأربعة وسائر الكتب المعتمدة، مع ذِكر الأسانيد وأسماء المصادر في ترتيب حسن.
4. هداية الأُمّة إلى أحكام الأئمّة عليهم السّلام ـ في ثماني مجلّدات محقّقة.
5. الفوائد الطوسيّة.
6. إثبات الهُداة بالنصوص والمعجزات ـ في ستّ مجلّدات، مشتملة على أكثر من عشرين ألف حديث منقولة من جميع كتب الخاصّة والعامة، مع حسن ترتيب وتهذيب.
7. أمل الآمل في علماء جبل عامل.
8. رسالة الرجعة سمّاها: الإيقاظ من الهجعة بالبرهان على الرجعة ـ تحتوي على 12 باباً تشتمل على أكثر من ستّمئة حديث وأربعٍ وستّين آيةً، وأدّلة وآراء كثيرة في إثبات هذه العقيدة.
9. الفصول المهمّة في أُصول الأئمّة عليهم السّلام ـ يشتمل على القواعد الكليّة المنصوصة في أصول الدين وأصول الفقه والطبّ والنوادر.
10. العربيّة العلويّة واللغة المرويّة.
هذا، إضافة إلى العديد من الرسائل العلميّة، منها: رسالة في خَلق الكافر، ورسالة الجمعة، ورسالة في حُكم الإجماع، ورسالة في تواتر القرآن، ورسالة في أحوال الصحابة، ورسالة الرجال، ورسالة في تنزيه المعصوم عن السهو والنسيان، ورسالة في الواجبات والمحرّمات المنصوصة سمّاها « بداية الهداية »، ورسالة في الوصيّة للولد.
وكان عازماً على تأليف شرح لكتابه ( وسائل الشيعة ).. هذا ما ذكره الحرّ العامليّ من مؤلّفاته إلى حين إتمامه كتابه ( أمل الآمل ).
إلاّ أن الشيخ الأمينيّ أضاف إليها: منظومةً في تواريخ النبيّ والأئمّة صلوات الله عليه وعليهم، ومنظومة في المواريث، ومنظومة في الزكاة، ومنظومة في الهندسة. وذُكر أنّ له ديوان شعر يحتوي على عشرين ألف بيت أكثره في مدح النبيّ وأهل بيته صلوات الله عليه وعليهم. فيما أضاف عمر رضا كحالة إلى مؤلّفات الشيخ الحرّ: الدرّ المسلوك في أخبار الأنبياء والأوصياء والخلفاء والملوك.
ويبقى ( وسائل الشيعة ) و ( أمل الآمل ) أشهر كتابين للشيخ الحرّ، حتّى كثر التعليق عليهما، وإن كانت تصانيفه الكثيرة ـ كما يرى الشيخ يوسف البحرانيّ ـ تحتاج إلى التحقيق والتحبير والتهذيب والتنقيح. ويعلّق السيّد محسن الأمين العامليّ قائلاً:
لقد رُزق ( الشيخ الحرّ العامليّ ) حظّاً في مؤلّفاته لم يُرزَقه غيره، فكتابه ( الوسائل ) عليه مُعوَّل مجتهدي الشيعة من عصر مؤلّفه إلى اليوم، وما ذلك إلاّ لحسن ترتيبه وتبويبه. وكم صنّف العلماء في أحوال الرجال فلم يحظ كتاب من الاشتهار ما رُزقه (أمل الآمل) على اختصاره، حتّى وُضعت عدّة كتب في أعصار كثيرة باسم ( تكملة أمل الآمل ) أو ( تتميم أمل الآمل ) (3).
• وقال الشيخ الأميني: وإنّ من أعظم أياديه كتاب ( وسائل الشيعة ) في مجلّداتها الضخمة التي تدور عليها رَحى الشريعة، وهو المصدر الفذّ لفتاوى علماء الطائفة.. وكان غير واحد من المحقّقين لا يُصدر الفُتيا إلاّ بعد مراجعة الكتابين معاً ( أي: وسائل الشيعة للشيخ الحرّ، ومستدرك وسائل الشيعة للشيخ الميرزا النوريّ ).
الحرّ العامليّ شاعراً
فضلاً عن فقاهته وروايته للحديث وتبحّره في كثير من المعارف والعلوم.. كان الشيخ الحرّ العامليّ شاعراً مُجيداً، ذكر هو بنفسه أنّ له ديواناً كبيراً حوى عشرين ألف بيت، وضمّ منظومات عديدة في التاريخ والمواريث والزكاة والهندسة، إضافة إلى قصائده الكثيرة في مدح رسول الله وآله صلوات الله عليه وعليهم في أشعار فاخرة كما يصفها السيّد محمّد باقر الموسويّ الخوانساريّ (4)، وهذه نماذج منها:
جَـدَّ وجْـدي لفُـرقـةٍ وتنائي عن رُبى أرضِ مكّةَ الغَرّاءِ
وشَجاني بعد الحجازِ خصوصاً عند بُعدي عن طِيبةَ الفيحاءِ
إلى أن يقول:
يـا إلـهي وسيـّدي ورجائـي فرِّجِ الهمَّ واستَجِبْ لي دعائـي
سيّدي أنتَ أنتَ غـايةُ قَصـدي سيّـدي أنَت أنتَ أقصى مُنائـي
يا غياثاً لـلمـستغيثِ أغـِثْـني جدَّ وجْـدي جَداً وطال عَنائـي
يا مَلاذي، يا مَلجأي، يا مُعـيني يا مُغيثي، يا مُنقذي من بلائـي
بك أرجو كشفَ الشـدائدِ عـنّي وزوالَ الـبأسـاءِ والضـرّاءِ
بنبيٍّ فاقَ الـخـلائقَ فـضـلاً وعـلـيٍّ ووُلـْدهِ الأوصيـاءِ
مَفزعِ الناسِ، مَرجعِ الخَلق طُرّاً مَنـبـعِ الفـضلِ، مَجمعِ العلياءِ
بَحر علمٍ، وطود حـلمٍ رَزيـنٍ، مـعـدنِ الجود، منهلٍ للظِّماءِ
إن تُـشكّكْ في فـضلِ مَجدهـمُ فاسـألْ جـميـعَ الأعداءِ والأولياءِ
يشهدوا كلُّهم، فأكرِمْ بفـضـلٍ أثـبَـتَـتْه شـهـادةُ الأعداءِ
بـمديحي لهم تشاغَلَ فِـكْـري لا بمدحِ الملوك والأُمـراءِ (5)
• وقال في الأخلاق والمعاشرة:
إنّ سِرَّ الصديق عندي مَصونٌ ليس يَدريه غيرُ سمعي وقلبي
لـم أكـن مُطْلِعاً لساني عليهِ قطُّ فضلاً عن صاحبٍ ومُحبِّ
حُـكْمُه أنّني أُخلّدُه فـي السجـن ـ أعني الفؤادَ ـ من غير ذَنْبِ
وقال في مجموعته ( مُهور الحُور ) قصيدة كلّها تبدأ بالهاء وتنتهي به:
هـدايـة ربِّ الـعالمين قلوبَـنا إلى حُبِّ مَن لم يُخلَقِ الخلقُ لولاهُ
هلال نما فارتدّ بدراً فـأشـرقَت جـوانـبُ آفـاقِ العُـلى بمُحيّاهُ
هما علّة للخَلق، أعني مـحمّـداً وأوّلَ مَـن لمّا دعا الـخَـلق لَبّاهُ
هل اختار خيرُ المرسلين مُواخياً سواهُ.. فأولاه الكمـالَ وآخـاه ؟!
هل اختار في يوم الـغدير خليفةً سواهُ له حتّى على الخَـلق وَلاّه ؟!
هدىً لاح من قولِ النبيّ: ولـيُّكم عليٌّ، ومولى كلِّ مَن كـنتُ مولاهُ
هناك أتى الوحيُ: بلّغْ ولا تخفْ ومِن كلّ ما تخشاهُ يعَصِمُكَ اللهُ (6)
أسفاره
ذكر الشيخ الحرّ العامليّ أنّه أقام في قريته ( مَشغرى ) أو ( مَشغره ) بلاد في الشام أربعين سنة، حجّ خلالها مرّتين. ثمّ سافر إلى العراق فزار هناك مراقد أئمّة الهدى عليهم السّلام، بعد ذلك رحل إلى خراسان فزار مرقد الإمام عليّ بن موسى الرضا سلام الله عليه بطوس، واتّفقت مجاورته فيها إلى الوقت الذي ألّف كتابه ( أمل الآمل ) الذي ترجم فيه لنفسه ذاكراً أنّ إقامته في المشهد الرضويّ المبارك حتّى ذلك العام قد مضت عليها أربع وعشرون سنة، حجّ خلالها مرّتين، وزار خلالها أيضاً الأئمّة عليهم السّلام في العراق مرّتين أُخريَين (7).
وكان قد زار مدينة إصفهان في تلك الفترة، والتقى هناك بالعلاّمة الشيخ محمّد باقر المجلسيّ صاحب ( بحار الأنوار )، وأخذ منه إجازة الرواية وأعطاه مِثلها.
وصرّح الشيخ الحرّ في خاتمة ( أمل الآمل ) أنّ وروده المشهد الرضويّ الشريف كان سنة 1073 هـ، فتكون إقامته فيه أكثر من ثلاثين سنة، إذا عُرف تاريخ وفاته رحمه الله.
وفاته
ت