بحث صغير : اشكالية التوحيد الصفاتي في النهج .. ( بين تعارض النفي والاثبات وطرائق الجمع )
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد

كنتُ كلما اقرأ نهج البلاغة واصل الى قوله عليه السلام عن التوحيد " كمال الاخلاص له نفي الصفات عنه " في خطبته الاولى تنازعني اشكالية كبيرة تفيد ان ثمة تقاطع و تعارض بين هذا المقطع وبين ما ثبت عندنا حتى شكلت عندي جدلية ذهنية وعلامة استفهام عن آلية الجمع وهي وجيهة جداعلى الاقل عندي وحسب فهمي واستيعابي للتوحيد الصفاتي ، ولطالما بحثت عن اجابة عن هذه الاشكالية وقرأت واستمعت ولكن ماكنت ارى لها مدفعا فاستحكمت عندي وعلقت في ذهني حتى جاء ذلك اليوم الذي وجدتُ ولله الحمد حلا لها اراه يناسبني ويقنعني الى حد لا بأس به ..والحاصل فموضوع الاشكال هو التوحيد الصفاتي بين علم العقيدة المؤصلة له تبعا للنصوص التي تثبته وبين ما يبدو من ان كمال المعرفة التوحيدية نفي الصفات ..وعلى كل حال ندخل في التفاصيل ببلورة الموضوع في اسئلة :
ماهي الاشكالية ؟
وماهو وجه التعارض ؟
وماهي طرق الجمع ورفع ما يبدو من تعارض للوهلة الاولى ؟
هذا ما سنحاول التعرف عليه باذنه تعالى في هذه المشاركة مقتصرين على الاهم في مفاصل الموضوع ان شاء الله تعالى .. دون تطويل ممل ولا ايجاز مخل فنقول :

الاشكالية في تعارض النصوص
ماهي الاشكالية ؟
الاشكالية تتلخص فيما يلي من نقاط :
1ـ لاشك ولا ريب في وجوب معرفة الله تعالى بل هي رأس العلم كما ورد وهذه المعرفة لا يمكن تحصيلها اذا كانت بمعنى الاطلاع على كنه وحقيقة الله تعالى اذ كيف للمتناهي ان يحيط علما بغير المتناهي بما لا يتناها ..ولا يحيطون به علما كما قال القرآن الكريم ..فماهو الطريق لهذه المعرفة وتحقيق ماهو واجب منها ؟
2ـ معرفته سبحانه باسمائه وصفاته الجمالية والجلالية والثبوتية والسلبية ..فمن جهة لا يمكن معرفة ذاته تعالى والاطلاع عليها ومن جهة يمكن معرفته ولكن لا عن طريق ذاته بل عن طريق توحيد الاسماء والصفات ومعرفته بما ثبت له من اوصاف عقلا ونقلا .. على ان هذه المعرفة التي فتح نافذتها لنا الشرع عن طريق الصفات ونطل من خلالها على معرفة ربنا سبحانه وتعالى ليست معرفة لحقيقة صفاته والاحاطة بها ومعرفة حدها ..ولهذالم يطلع العقول على تحديد صفته .ولم يحجبها عن واجب معرفته.. كما ورد في النهج فالمقدار المطلوب مفتوح وباب المعرفة الكنهية مغلوقٌ ..
3ـ ولقد عرفنا الله تعالى في قرآنه الكريم وعلى لسان نبيه الامين وعترته الطاهرين وبالعقل القطعي السليم عرفنا على مجموعة من صفاته سبحانه وهذا لا ينكره أي احد فهو من المعلوم بالضرورة فهل ينكر ملي الهي ان ربه عالم قادر حي وما اشبه ذلك من صفات ؟!!
4ـولكن حينما يقرأ الانسان نهج البلاغة ويقع بصره على الخطبة الاولى والنص الواقع في بداية الخطبة الذي يفيد باختصار ان التوحيد الحقيقي وكمال معرفته تعالى هو بان ينفي الموحد الصفات عن الله تعالى ..وهو مفاد اثبت في نفس الخطبة بالدليل والبرهان كما لا يخفى على من اطلع عليه .. وهنا تنشأ الاشكالية وعلامة الاستفهام الكبيرة ..
اذ كيف معرفته تعالى تتم بواسطة صفاته التي اثبتها النص القرآني والنبوية واحاديث المعصومين عليهم السلام وبين النص المتقدم الذي يجعل كمال المعرفة التوحيدية بنفي الصفات عن ذاته الاقدس .. بل والاشكل من ذلك ان مستهل نفس الخطبة التي جاء بها النص الذي انبثق منه الاشكال فيه اثبات واعتراف بوجود الصفات حيث جاء فيه " .. الذي ليس لصفته حدٌ محدود .. " فهل يعقل ان يصدر مثل هذه النصوص التي يبدو منها التناقض والتعارض ..؟!!حاشا وكلا لإمام الفصاحة والبلاغة .. اذن كيف نعالج الاشكالية وباي وسيلة نرفع ذلك التعارض ؟

توحيد النصوص ورفع الاشكالية باختلاف المسالك

الجواب عن ذلك : بمسلكين ..
الاول : ان نفي الصفات الذي يوجب كمال معرفته هي الصفات التي تجري للمخلوقين فالنفي للصفات في نص نهج البلاغة هو نفي صفات المخلوقين واما النصوص التي اثبتت له اللصفات فهي الصفات المختصة به والمتفرد بها .. ولهذا المسلك شاهدان ..
الشاهد الاول : ـ بالاضافة الى الصفات التي ملئت نهج البلاغة ــ قوله في آخر نفس الخطبة " لا يجرون اليه صفات المصنوعين ... "
الشاهد الثاني : ما ورد عنه " ..جلّ ان تحله الصفات لشهادة العقول ان كل من حلته الصفات مصنوع .." كما نقله ابن ميثم البحراني في شرحه عن الشيخ المفيد في الارشاد ..
المسلك الثاني : ان الصفات مطلقا " الثبوتية والسلبية " التي يوصف بها الله تعالى ليست صفات حقيقية بل هي للتقريب الى اذهاننا نحصل عليها عند مقارنة ومقايسة ذاته سبحانه بغيره .. والنصوص الشرعية انما جائت بهذا النوع من التعرف عليه ووصفه تعالى بتلك الصفات التي اخبرت بها عنه لغرض تعميم وشمول المعرفة التوحيدية كل البشر .. وقد ذكر كلا المسلكين البحراني في شرحه بعد ان ذكر الاشكال ..

بيان ابن ميثم للإشكال ودفعه

وللتدليل على ما قلناه واثبات صحة ما نسبناه ونقلناه ننقل كلام ابن ميثم البحراني في هذا الموضوع فاننا منه استفدناه فيقول ماهذا نصه في ص 81 من شرحه :
فإن قلت: هذا يشكل من وجهين
أحدهما أنّ الكتب الإلهيّة و السنن النبويّة مشحونة بوصفه تعالى بالأوصاف المشهورة كالعلم و القدرة و الحياة و السمع و البصر و غيرها و على ما قلتم يلزم أن لا يوصف سبحانه بشي‏ء منها،
الثاني أنّه عليه السّلام صرّح بإثبات الصفة له في قوله ليس لصفته حدّ محدود و لو كان مقصوده بنفي الصفات ما ذكرتم لزم التناقض في كلامه عليه السّلام
فالأولى إذن أن يخصّ قوله نفى الصفات عنه بنفي المعاني كما ذهب إليه الأشعري، و نفي الأحوال كما ذهب إليه المثبتون من المعتزلة و بعض الأشعريّة ليبقى للصفات المشهورة الجاريه عليه تعالى و لإثباته عليه السّلام الصفة للّه في موضع آخر محمل، أو يختصّ بنفي صفات المخلوقين كما أشار عليه السّلام في آخر الخطبة لا يجرون إليه صفات المصنوعين، و كما ذكره الشيخ المفيد من الشيعة في كتاب الإرشاد عنه جلّ أن تحلّه الصفات لشهادة العقول أنّ كلّ من حلّته الصفات مصنوع.
قلت: قد سبق منّا بيان أنّ كلّ ما يوصف به تعالى من‏الصفات الحقيقيّة و السلبيّة و الإضافيّة اعتبارات تحدّثها عقولنا عند مقائسة ذاته سبحانه إلى غيرها، و لا يلزم تركيب في ذاته و لا كثرة فيكون وصفه تعالى بها أمرا معلوما من الدين ليعمّ التوحيد و التنزيه كلّ طبقة من الناس، و لمّا كانت عقول الخلق على مراتب من التفاوت كان الإخلاص الّذي ذكره عليه السّلام أقصى ما تنتهي إليه القوى البشريّة عند غرقها في أنوار كبرياء اللّه و هو أن تعتبره فقط من غير ملاحظة شي‏ء آخر، و كان إثباته عليه السّلام الصفة في موضع آخر و وصفه في الكتاب العزيز و سنن النبويّة إشارة إلى الاعتبارات الّتي ذكرناها إذ كان من هو دون درجة الإخلاص لا يمكن أن يعرف اللّه سبحانه بدونها و باللّه التوفيق. " إهــ
والحمد لله رب العالمين
منقول للفائدة