في حياة كل إنسان فترات سعادة يعيش على ذكرياتها كلما صادفته محنة، وأيام أخرى حزينة يتمنى لو أن حذفها من ذاكرته، وصرح الفنان نور الشريف، في حوار لصحيفة «أخبار اليوم»، عام 2012، أنه عاش فترة قاسية من حياته يعتبرها الأسوأ، استمرت لمدة 6 شهور.
وأدى نور الشريف بطولة فيلم «ناجي العلي» الذي يحكي قصة اغتيال رسام الكاريكاتير الفلسطيني، ما عرضه لحملة شرسة عام 1992 بسبب مهاجمة الفيلم للأنظمة العربية.
وفي 22 يوليو 1987، أطلق شابٌ مجهول الهوية النار على ناجي العلي، ليقتله، وعُرف الشاب فيما بعد أنه منتسبًا لمنظمة التحرير الفلسطينية لكنه كان موظفًا لدي الموساد الإسرائيلي، واتُهمت عدة جهات باغتيال «العلي» منها، الموساد، منظمة التحرير الفلسطينية، المخابرات العراقية، لكن النتيجة واحدة، أن ناجي العلي، أُغتيل، بسبب ريشته أو كما قال «اللي بدو يكتب لفلسطين، واللي بدو يرسم لفلسطين، بدو يعرف حالو: ميت».
وناجي العلي هو رسام كاريكاتير فلسطيني، وُلد في قرية الشجرة عام 1937، وهاجر مع أهله إلى جنوب لبنان بعد احتلال إسرائيل لفلسطين، وعاش في مخيم عين الحلوة.
مرارة الاحتلال وطفولة المخيمات، ألحّت على ريشته أن ترسم ذلك الواقع الذي رآه، إلى أن نشر له الأديب الفلسطيني غسان كنفاني أولى لوحاته في مجلة الحرية عام 1961، وكان رسم «العلي» لاذعًا مُرًا، بقدر مرارة الواقع الذي رآه، واشتهرت رسوماته بشخصية «حنظلة»، الفتى الفلسطيني ذي الـ10 أعوام الواقف بظهره عاقدًا يديه خلفه، والذي أصبح بمثابة توقيعًا له على كل رسوماته.
وفيلم «ناجي العلي» إنتاج 1992، تأليف بشير الديك، إخراج عاطف الطيب، بطولة ليلى جبر ومحمود الجندي، وتدور قصته بعد واقعة الاغتيال الشهيرة التي تعرض لها الفنان الفلسطيني ناجي العلي في العاصمة البريطانية لندن في عام 1987 ودخوله غرفة العناية المركزة، يعود الفيلم بأحداثه إلى الوراء حيث يسترجع المحطات التي مر بها.
عاش «نور» أسوأ فترة من حياته خلال الهجوم الشرس على فيلم «ناجي العلي» وعلى شخصه تحديدا، حيث اتهمه حتى من لم يشاهدوا الفيلم اتهامات قاسية، واحد من هؤلاء قال إن الفيلم تموله منظمة التحرير الفلسطينية، وأثار الفيلم حفيظة الأنظمة العربية التي لطالما هاجمها «العلي» في رسوماته بضراوة، وبخاصة أن الفيلم لم يتخذ جانبا محايدا في هذه النقطة، بل أبرز صور هذا الهجوم من خلال الحوار، وعلى لسان بطله، ما أدى إلى منع عرض الفيلم في معظم البلاد العربية، وفقا لصحيفة «الأهرام».
وكان أحد المعترضين بشدة على الفيلم، والمهاجمين لبطله ولأسرة عمله، الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، الذي كان «العلي» أحد المعارضين الشرسين له ولجماعته، لدرجة أن أصابع الاتهام وجهت بعد اغتيال «العلي»، بجانب إسرائيل، إلى عرفات، خاصة أن اغتيال «العلي» جاء بعد فترة قصيرة جدا، من نشر اللوحة الشهيرة «رشيدة مهران»، التي تهاجم السيدة التي تحمل الاسم نفسه والتي يعتقد أنها كانت عشيقة عرفات، وفقا للصحيفة نفسها.
أما في مصر، فكانت ردود الفعل في غاية العنف، فتعرض نور الشريف لموجة من الاتهامات القاسية بالخيانة والتواطؤ ضد الدولة المصرية، وخرجت الصحف المصرية وقتها لتقول: «نور شريف يقدم فيلما عن الرجل الذي شتم مصر».
ولم يعرض الفيلم سوى لمدة أسبوعين فقط في دور العرض، ليتم سحبه بعدها مباشرة نتيجة الهجوم الذي تعرض له ما أدى لعزوف الجمهور عن مشاهدته من جهة، وخوف أصحاب دور العرض من رد فعل الجمهور من جهة أخرى ليظل ممنوعا من العرض لعقود، بل وليظل اسمه لعنة تطارد «نور» وشركاءه.
وهذه الاتهامات كانت بمثابة ضربة قاصمة لـ«نور» من الناحية الفنية والمادية؛ حيث تأثر الشارع تأثرا كبيرا بها بخاصة أنهم لا يعرفون الكثير عن العلي وقضيته. كذلك تعرض الشريف لحملة مقاطعة من الدول العربية، التي رفضت أن تعرض أفلامه في دور السينما لديها، وفي مصر تعرض لحصار كبير منعه من الإنتاج.
وعن الأزمة التي واجهها «نور» في هذا الفيلم، قال إنه يوجد زملاء يعتبرهم أخوة وأكثر من أصدقاء، انتهزوا فرصة الهجوم عليه وشاركوا في الحملة ضده، ويوجد زملاء لم يكونوا أصدقاء بمعنى الكلمة ولا تربطه بهم سوى الزمالة الفنية، لكنهم ساندوه ووقفوا معه بقوة، منهم الفنان سمير صبري الذي سانده بقوة وكان يتصل به يوميا ويحاول أن يهدئه ويشد من أزره.
ولم ينس «نور» موقف كل من محمود ياسين ويحيى الفخراني، فكلاهما رفض أن ينتهزا الفرصة ويهاجما الفيلم، بل أرسلا إنذارا للصحف بألاّ تنشر أي كلمة ضده على لسانيهما.
وفي هذه الفترة، صدر قرارا بمنع عرض جميع أفلام نور الشريف في الخليج ليس بسبب «ناجي العلي»، وإنما كان ذلك ضمن قائمة من المثقفين والمفكرين المصريين أولها اسم الكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل، وكان نور الشريف من بينهم، وحتى لا يكون وحده ضموا إليه الفنانتين محسنة توفيق ونادية لطفي.
عاش «فتى الشاشة الأول» محنة حقيقية قاسية تعتبر أسوأ 6 أشهر في حياته، وكان يتساءل باستمرار كيف سيعيش هو وأسرته، وهو ليس لديه عمل آخر يتقنه سوى فنه، وهنا قرر الهجرة إلى انجلترا للعمل هناك مذيعا أو أن يكتب في الصحافة العربية الصادرة من لندن حتى يستطيع أن يعيش هو وأسرته.
وشعر «نور» وقتها أنه يعمل في مهنة قاسية وهشة في الوقت نفسه، ولا ينسى أن سعاد حسني راحت ضحية قسوة هذه المهنة، فلم تتحمل فشل فيلمين لها هما «شفيقة ومتولي، والدرجة الثالثة».
وفي هذه الفترة، واجه «نور» كثير من المتاعب كادت أن تقضي عليه كفنان وإنسان، بدأت بحملة صحفية شرسة، ثم قرار بمنع أفلامه في دول الخليج، ويقول «نور» إنه استرجع، على الفور، ما تعرض له الفنان الكبير فؤاد المهندس عندما هاجم العرب في برنامج «كلمتين وبس» تأييدا لموقف الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات عن السلام مع إسرائيل.
لم يتراجع «نور» أمام هذه الاتهامات البشعة وخرج في كل مكان يدافع عن الفيلم، ويؤكد أن الفيلم لا يهاجم مصر على الإطلاق، وأن «العلي» ما كان ليهاجم مصر، لأنه أحد العاشقين لها، إنما هاجم «العلي» الرئيس السادات بعد زيارته للقدس المحتلة، وهو التصرف الذي رفضه جمليع المعارضين للتطبيع مع إسرائيل.
وفي مقال له عن الفيلم بعنوان «ناجي العلي.. فيلم للوطن والحرية»، قال «نور»، وفقا لـ«الأهرام»: «صورنا الهجوم، نحن فريق الفيلم، كما لو كنا مجموعة من الخونة صنعوا فيلماً خصيصاً ضد مصر، حتى أنهم كتبوا وقالوا نور الشريف يقوم ببطولة فيلم الرجل الذي (شتم) مصر في رسوماته، والحقيقة أن هذا الاتهام باطل، فناجي العلي كان يعشق مصر لأبعد الحدود، وهذا ما توضحه رسوماته، ولكنه هاجم السادات عند زيارته للقدس، وهاجم اتفاقية كامب ديفيد».
وأوضح «نور» أنه تلقى مفاجأة خلال هذه الفترة العصيبة عندما اتصل به صفوت الشريف، وزير الإعلام المصري في ذلك الوقت، وطلب منه القيام ببطولة مسلسل «الثعلب»، وكان التلفزيون أرسل له سيناريو المسلسل وتردد في قبوله من رفضه، لكن وزير الإعلام أكد له بوضوح أن «الثعلب» مسلسل مخابرات، وأنه سوف يؤدي شخصية الضابط المصري، وهذا المسلسل سيكون من إنتاج التلفزيون المصري، وهذا كله يؤكد أن الدولة ليست ضده، وأمام هذا الموقف من الدولة، وافق نور الشريف على العمل.
وظل الفيلم ممنوعا لما يقرب من 22 سنة، ليعرض للمرة الأولى على التليفزيون المصري في 2014، ليعلن انتصار نور الشريف وفريق الفيلم في المعركة التي حاربهم فيها الجميع، والتي شرعت في وجوههم كل الأسلحة المشروعة وغير المشروعة، وليعلن أن لا أحد يستطيع منع الكلمة من أن تنتشر وتحلق وتدوي.
وتحدث «نور» عن هذا الأمر في مقابلة مع الاعلامية هالة سرحان قائلاً: «كنت بتشتم يومياً على الاقل 6 صفحات في صحيفتين، واتهمت بالخيانة الوطنية»، وأضاف: «هذه التجربة كشفت لي الكثير من الزملاء والاصدقاء».
وتابع النجم الراحل باكيا: «لم أنس أبدا موقف سمير صبري، فكان الفنان الوحيد الذي اتصل بي يوميا في تلك الأزمة، رفض قرار مقاطعتي، والأمر نفسه بالنسبة لمحمود ياسين ويحيى الفخراني، فكلاهما رفض أن يهاجم الفيلم، وأرسلا إنذارا للصحف بمنع نشر أي كلمة على لسانيهما ضدي».
وفى حوار له مع عمرو الليثي في حوار تلفزيوني، قال «نور»: «أنا كنت صديق للرئيس الراحل ياسر عرفات، لكننا اختلفنا بسبب فيلم (ناجى العلى) وزعل ياسر عرفات لأن تم إبلاغه أننا نتهم المنظمة فى أحداث الفيلم باعتيال ناجي العلي، وأن (أبو عمار) هو المسئول».
وأضاف «نور»: «وهذا غير صحيح وللتاريخ ولأول مرة جاء (أبو عمار) القاهرة ليمنع عرض فيلم (ناجى العلى) فى افتتاح مهرجان القاهرة السينمائي، وقال له أسامة الباز، الرئيس الأسبق مبارك، شاهد الفيلم وهو فلسطيني أكثر منكم، وسأل مبارك مستشاره (الباز): (هل هناك أي إساءة للمنظمة الفلسطينية؟)، فقال: (لا)، فأمره بعرض الفيلم».
وتابع «نور»: «وبعدها بشهور تصالحت مع (أبو عمار) فى وجود (الباز)، وكنت دائما التقي به فى القاهرة، وأنا أول من قال إن إسرائيل ستتصالح مع الفلسطيين وهذا حدث، ولم يكن أحد يتخيل أن يدخل (أبو عمار) فلسطين مع أنصاره من الفلسطينين، وأرى حاليا أن الانقسام بين الفلسطينين أكبر خطر عليهم».
منقول