المقدمة:
كانت فكرة هذا البحث تلح على إلحاحاً عجيباً، منذ سنوات طويلة، بيد أني ترددت كثيراً في اقتحام هذه المنطقة ذات المكانة الخاصة والقداسة في وجدان كل دارس للقانون أو مشتغل به، وكل باحث وحالم بالديمقراطية، وكل داعية لحقوق الإنسان مؤمن بها، تحتل ذات المكانة لدى الجميع على حد سواء، إلا قليلاً (1).
وبعد أن حسمت ترددي وبدأت- بمساعدة كريمة من البرنامج العربي لنشطاء حقوق الإنسان- في تنفيذ البحث، فوجئت بسفر قيم، يحمل ذات العنوان الذي ارتضيته ألا وهو "دور المحكمة الدستورية العليا في حماية الحقوق والحريات" للأستاذ الدكتور/ فاروق عبد البر نائب رئيس مجلس الدولة، إصدار 2004، الأمر الذي أعادني لمنطقة التردد مجدداً، وحملني حملاً- بعد جهد جهيد بذلته- على التوقف والعودة إلى نقطة البداية، منطلقاً، وفي نهاية الأمر وإيماناً بدور المحكمة الدستورية العليا كأحد الدعامات الرئيسية وأعلاها هامة، وأوضحها بياناً، وأكثرها جرأة، في مجال حماية حقوق الإنسان في وطننا الحبيب، فقد رأينا أن ننحو بالبحث منحيً أخراً وجديداً، يتلاءم مع قناعاتنا، المنبثقة من علاقتنا بالقانون واشتغالنا به وهمومنا بحقوق الإنسان وانخراطنا في أنشطتها، ويشتمل في الأساس على الحقوق الواردة بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر بقرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة في العاشر من ديسمبر 1948 ومقارنتها بالحقوق النظيرة لها في الدستور المصري الدائم الصادر في الحادي عشر من سبتمبر 1971 ومقابلة هذا وذلك برؤية محكمتنا الدستورية العليا من خلال أحكامها المضيئة في شأن حقوق الإنسان المتعارف عليها عالمياً.
وفي الواقع فإن العنوان الذي اخترناه للبحث وهو "دور المحكمة الدستورية العليا في حماية حقوق الإنسان" يثير عدداً من المفترضات والمحددات الواجب تناولها في إطاره منها:
أولاً: تعريف الدستور ونشأته ومميزاته وعيوبه، وحيث أنه لولا وجود الدستور ما كانت هناك محكمة دستورية عليا.
ثانياً: يتوجب علينا والحال كذلك أن نبحث مسالة الرقابة على دستورية القوانين ونشأتها وفلسفتها وحدودها وأنواعها.
ثالثاً: المحكمة الدستورية العليا وأسباب نشأتها وتطورها وتشكيلها ومميزاتها وولاياتها مع المقارنة بالمحكمة التي أنشأت لذات الغرض، وخلفتها المحكمة الدستورية العليا.
رابعاً: لابد أن نبحث في مفهوم حقوق الإنسان وتطوره ونشأته ومدى الحماية التي تتوافر له دولياً والحماية التي تتوافر له محلياً، سواء كانت حماية قضائية أم تشريعية.
خامساً: نتناول الحقوق الواردة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في ضوء ما قررته المحكمة الدستورية العليا بشأنها والحماية التي أسبغتها عليها والنصوص التي ألغتها- عبر قضائها بعدم دستوريتها- لإقرار الحق والحرية محل البحث، واستعراض المبادئ التي أرستها في شأنها. وجدير بالذكر: أن المحكمة الدستورية العليا ذاتها وفي أحد أحكامها أكدت على انعدام الصفة الإلزامية للإعلان العالمي لحقوق الإنسان وإن أكدت في الحكم ذاته على قيمته- أي الإعلان- الأدبية والمعنوية حال كونه إعلان مبادئ وقيم وتوصيات، ارتضته الأسرة الدولية ليكون صادراً عنها ومعبراً عن إرادتها، ورسالة من شعوبها، أملاً في الحرية وفي التمتع بالحقوق التي حرمت منها البشرية لقرون طويلة.
ومن المنطقي والحال كما أسلفنا: أن يثور تساؤل جدي حول اختيارنا لهذا الإعلان لبحث الحقوق الواردة فيه من خلال أحكام وقضاء الدستورية العليا؟ ولماذا لمن نتخير إحدى الاتفاقيات الملزمة التي صدقت عليها مصر، ونشرتها في الجريدة الرسمية، ومن ثم أصبحت وفقاً لنص المادة 151 من الدستور المصري بمثابة تشريع داخلي يتعين الالتزام به، مثل العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية.
وتأتي الإجابة بسيطة، سلسلة، سلاسة الحقوق الواردة بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان، فالإعلان الصادر عام 1948 يعد الأول من نوعه الذي تكاد تتفق عليه الجماعة الإنسانية- الأسرة الدولية- وذلك في أعقاب الحرب العالمية الثانية وما ألحقته بالعالم من دمار وما سببته من خسائر فادحة في الأرواح والممتلكات.
ومن ثم فهو إعلان يتمتع بالصفة العالمية والدولية، وما سبقه مجرد تجارب محلية، لم يكن بها ما يضمن تمتع المواطنين بما ورد فيها من تنازلات ملكية أو حقوق وحريات منحها الانتصار الثوري على قوى القهر والطغيان مثل: الماجنا كارتا وإعلان الحقوق في إنجلترا، إعلان استقلال الولايات المتحدة الأمريكية، وإعلان الثورة الفرنسية وغيرها.. هذه ناحية، ومن ناحية ثانية فإن الإعلان هو الأب الروحي والشرعي لجميع الاتفاقيات الدولية والمعنية بحقوق الإنسان- ذات الطبيعة الإلزامية- والتي صدرت فيما بعد عن الجمعية العامة للأمم المتحدة مثل العهدين الدوليين الصادرين عنها عام 1966 وأولهما خاص بالحقوق المدنية والسياسية، وثانيهما خاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وكذلك اتفاقية القضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة، واتفاقية حقوق الطفل وغيرها... حيث اتخذت هذه الاتفاقيات من بعض نصوص الإعلان قاعدة انطلقت من خلالها تفصيلاً وتنظيماً وتحديداً للحقوق الواردة بها.
ومن ناحية ثالثة فالإعلان نفسه لحظة صدوره كان من المتوقع أن يصدر في شكل اتفاقية دولية ملزمة تتضمن الحقوق المدنية والسياسية غير أن معارضة شديدة واجهت هذا الاقتراح وآرتأت أن يبقى الإعلان مجرد إعلان ويضم بجانب الحقوق المذكورة، الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
ومن ثم فقد تم الاتفاق على إعداد وثيقتين، أولهما في شكل إعلان يحدد المبادئ والمعايير العامة لحقوق الإنسان، والثانية تتخذ شكل اتفاقية تتضمن حقوقاً محددة (2) والتي تحولت بدورها إلى العهدين الدوليين.
وأخيراً فإن الإعلان العالمي يعد بمثابة الأصل التي نقلت عنه كثير من الدساتير والتشريعات الوطنية بعض من الحقوق الواردة به! ومن بينها الدستور المصري في بابيه الخاصين بالحقوق والحريات وسيادة القانون وبعد فهذا جهد المقل، أرجو أن يتيسر لي من الوقت والإطلاع ما يمكنني من تناول الموضوع بشكل أكثر شمولاً وأدق تحليلاً بما يتلاءم مع قيمة وأهمية المحكمة الدستورية العليا وبحقوق الإنسان جميعاً.
كما ولابد أن أتوجه بالشكر للبرنامج العربي لنشطاء حقوق الإنسان الذي تبنى هذه الفكرة، وقدم لي كثيراً من العون والمراجع والأحكام..
والله ولي التوفيق..
المؤلف
الباب الأول
الفصل الأول
التنظيم الدستوري
يعتبر مصطلح الدستور، إذا قيس من حيث الزمن، مصطلح حديث، في عالم الفكر القانوني، حيث استخدم للمرة الأولى مرتبطاً بالحركات الثورية التحررية التي قامت في الولايات المتحدة الأمريكية بهدف الاستقلال عن الإمبراطورية البريطانية، حيث أن الولايات التي نجحت ثورتها واستطاعت الحصول على استقلالها أصدرت دساتيراً لها بدءً من عام 1776، وهي دساتير "مدونة" تنظم شكل الحكم وسلطاته المختلفة والعلاقة بين هذه السلطات فيما بينها من ناحية، وبينها وبين الشعب من ناحية ثانية، وإقرار الحقوق والحريات الفردية والجماعية من ناحية ثالثة.
وكانت هذه الدساتير متفرقة، تفرق الولايات، لكل ولاية انتصرت ثورتها دستور مستقل يعبر عن توجهاتها وفلسفة القوى الصاعدة فيها، ومع الرغبة في إنشاء اتحاد بين هذه الولايات وتحققها تحت مسمى "الولايات المتحدة الأمريكية" في أعقاب الحرب الأهلية، تم إصدار دستور اتحادي عام 1787 وهو أول دستور مكتوب في العالم وإن لم تكن الحقوق والحريات فيه مكتملة النمو والأركان ومن ثم فقد صدر أول تعديل لهذا الدستور في ديسمبر 1791 بإقرار حق المواطنين في الاجتماع والتجمع السلمي (3).
وفي ذات العام قامت الثورة الفرنسية بإصدار دستورها المكتوب عام 1791 بعد قيامها بعامين وعلى اعتبار- فرنسا- في ذلك الوقت- إحدى الدول ذات الأنشطة الاستعمارية والتوسعية، فقد حملت جيوشها المنتشرة في كل مكان، الثقافة الجديدة والأفكار التي أنتجتها ثورتها أو تلك التي أعادت صياغتها من جديد ومن بينها الدستور المكتوب الداعم لفلسفة الحرية وحقوق الإنسان، فظهر إلى الوجود دستور بلجيكا عام 1841 ثم الدستور الإيطالي عام 1848 (4)، وليس بعيد عن ذلك من حيث الفكرة والمبدأ وإن اختلفت الأسباب مشروع إصدار الدستور عام 1879 في مصر فصدور دستور 1882 فلائحة النظام الأساسي عام 1913 ثم أول دستور متكامل عام 1923 الذي يعد انتصاراً للثورة الشعبية المصرية في مواجهة سلطات كلاً من الاحتلال، والملك.
ومن ثم فقد أرتبط المفهوم الناشئ والوليد في علم القانون "الدستور" ارتباطاً لا يقبل التجزئة بفكرة الحرية ذاتها، فالحرية التي قامت الثورات من أجلها أنتجت الدستور الذي يقرها ويبين حدودها في الممارسة في مقابل سلطات الدولة، فالدستور تعبير دقيق عن رغبة الشعوب المقهورة في التمتع بحقوقها وحرياتها في مواجهة السلطات الحاكمة، وعزماً أكيداً على عدم العودة إلى عصور الظلم ثانية، خاصة وأنها عانت الكثير في ظل احتلال غاشم أو حكم فردي ديكتاتوري.
وعلى هذا ينقسم الفصل الأول من بحثنا إلى خمسة مباحث على النحو التالي:
المبحث الأول: مفهوم الدستور.
المبحث الثاني: أنواع الدساتير.
المبحث الثالث: سمو قواعد الدستور.
المبحث الرابع: الدستور المصري.
المبحث الخامس: الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
مفهوم الدستور
إن لفظة "دستور" لفظة غير عربية،فهي كلمة فارسية الأصل تعني: الأساس أو القاعدة ودخلت إلى اللغة العربية بذات المعنى، ومن ثم نجد بعض من الدول العربية تطلق على دستورها مسمى: النظام الأساسي أو القانون الأساسي تأثراً بمعنى ومرادف كلمة الدستور، ونعتقد أن أول ظهور لكلمة دستور في اللغة العربية بمعناها الاصطلاحي في علم القانون، كان في سنة 1923 في المملكة المصرية مع إصدار دستور 1923 ومن ثم فمنذ هذا التاريخ حلت هذه الكلمة محل المصطلحات السابقة مثل: القانون النظامي والقانون الأساسي.
وذات الأمر والمعنى ينطبق على اللغات الأوربية، فكلمة دستور مشتقة من الفعل اللاتيني “Constito”بمعنى يؤسس، فنجدها في الإنجليزية والفرنسية Constitution مع اختلال النطق بمعنى القاعدة أو الأساس.
وهذا هو المعنى اللغوي لكلمة الدستور، أما المعنى الاصطلاحي، فقد أثار فقهاء القانون العام عاصفة من الخلافات حول تعريف الدستور ما بين التعريف الشكلي والتعريف الموضوعي والتعريف السياسي وإن كانت الغالبية قد استقرت على تعريف الدستور وفقاً للمعيار الموضوعي والذي يعني: مجموعة القواعد القانونية التي تنظم مسائل ذات طبيعة دستورية.. فإن هذه الغالبية قد اختلفت حول ماهية المسائل ذات الطبيعة الدستورية وقد عرفها الأستاذ الدكتور عبد الحميد بدوي بأنها: تلك القواعد المتعلقة بنظام الحكم في الدولة وهي المسائل الجوهرية أو الأساسية التي يهدف النظام إلى تقريرها حين يضع دستوراً جديداً للدولة.
ويعرف الدكتور رمزي طه الشاعر الدستور بقوله(5): مجموعة القواعد القانونية الخاصة بنظام الحكم في الدولة (الحكومة) من الناحية السياسية، والتي تنظم التعايش السلمي بين السلطة والحرية.
ويعرفه أستاذنا الدكتور ربيع فتح الباب(6) بقوله: بأنه مجموعة القواعد الأساسية في الدولة المعاصرة، فهو يبين شكل الدولة، ونظام الحكم فيها، وتنظيم السلطات العامة من حيث تكوينها واختصاصاتها وعلاقاتها بعضها ببعض، وبالأفراد والمواطنين، ويقرر حقوق الإنسان وحرياته، ويضع الضمانات الأساسية لحمايتها ويكفل استعمالها وعدم التعدي عليها. كما يعرفه الأستاذ الدكتور الشافعي أبو راس(7) بأنه: مجموعة القواعد القانونية التي على أساسها تقوم السلطة وتعمل وتنتقل.
وإذا قلنا أن أي قانون- حتى ولو كان دستوراً- يأتي معبراً عن الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية السائدة وقت إصداره، فهو كذلك يعبر عن موازين القوى في ذلك الوقت واتفاقها على حد أدنى من القناعات المشتركة أو المصالح التي ستصب فيما بعد هنا أو هناك ومن ثم يمكننا تعريف الدستور في ضوء هذا وفي سياق ظهور الدساتير في أعقاب الثورات الكبرى بأنه:
مجموعة القواعد القانونية الأساسية التي تؤسس لقيام دولة وتقسيم سلطاتها وتنظيمها وعلاقاتها كما تحتوي على هدف أساسي وهو حماية حقوق وحريات المواطنين بالقدر الذي تسمح به توازنات القوى وقت الاتفاق على الوثيقة الدستورية.
ويسهب أستاذنا الدكتور يحيى الجمل في تعريف الدستور(8) فيقول:
والدستور يتعلق بتنظيم الدولة باعتبارها مؤسسة المؤسسات السياسية أو المؤسسة الأم لكل المؤسسات داخلها، وهو- أي الدستور- بهذا المعنى يتعلق بتنظيم السلطات العامة في الدولة من حيث كيفية تكوينها واختصاصاتها وكيفية مباشرتها لهذه الاختصاصات وحدودها وضوابطها، كذلك علاقة سلطات الدولة ببعضها وعلاقتها بالمواطنين، كما ولابد أن يعني للدستور بحقوق المواطنين في مواجهة السلطات العامة وكيفية حماية هذه الحقوق.
وإذ كنا قد قدمنا تعريفات متعددة للدستور وفقاً للمعيار الموضوعي، فجميعها مع اختلاف في الصياغة تكاد تقترب من بعضها البعض ولا تشكل الخلافات عائقاً أمام التوفيق بينها جميعاً ويهمنا قبل أن نفرغ أن نعرض لتعريف الدستور وفقاً للمعيار الشكلي حيث أن موضوع الدراسة يرتبط به ارتباطاً وثيقاً.
يقتصر تعريف الدستور أو القانون الدستوري وفقاً للمعيار الشكلي، على: تلك القواعد والنصوص الموجودة في الوثيقة الدستورية والتي توضع أو تعدل طبقاً لإجراءات خاصة، تختلف عن الإجراءات والخطوات التي تتخذ في وضع القوانين العادية (9).
وطبقاً لهذا المعيار فالدستور هو: مجموعة القواعد الثابتة في الوثيقة الدستورية التي يجري تطبيقها في بلد معين وفي زمن معين.
ومن ثم فإن الدستور محدود بهذه النصوص لا يتعداها، أو بمعنى آخر فإن القواعد الدستورية لا توجد إلا في الوثيقة المسماة بالدستور ولا تخرج عنها أبداً.
وقد انتشر تعريف الدستور وفقاً للمعيار الشكلي نظراً لانتشار حركة تدوين الدساتير والتي حتمتها ظروف معينة ارتبطت بشكل كبير بالحركات التحررية والثورية، وفي هذا الموضوع يقول أستاذنا الدكتور رمزي طه الشاعر(10) ولقد كانت الفترة اللاحقة على صدور الدستور الفرنسي عام 1789 فترة غنية بالحركات والثورات ولقد ساهمت الثورة الصناعية في تغيير الخريطة الاجتماعية في معظم المجتمعات التقليدية، ومع قيام الثورات والحركات العنيفة لم يكن أمام السلطات العليا- حفاظاً على التماسك- إلا أن تصدر دساتير مكتوبة، وكانت تلك الثورات والحركات التحررية والانفصالية من الكثرة والانتشار بحيث يمكن القول أنها شكلت اتجاهاً عالمياً كانت له السيادة! الأمر الذي ساعد وبلا شك على انتشار تعريف القانون الدستوري بالمعيار الشكلي.
عيوب المعيار الشكلي:
مما لا شك فيه أن الأخذ بالمعيار الشكلي في تعريف القانون الدستوري يحصر القواعد الدستورية أو تلك ذات الطابع الدستوري في نطاق ضيق للغاية محدود بأحكام ونصـوص القواعد القانونية الموجودة في الوثيقة الدستورية، ويقول الدكتور الشافعي أبو راس(11):
وأول ما يعاب على التعريف بالمعيار الشكلي أنه يحد مجال أعماله في الدساتير المكتوبة، فإنه يترتب على اعتناقه إنكار وجود قانون دستوري في بلاد الدساتير غير المدونة، وهو أمر يجافي الواقع، ولا يتفق مع المستقر في الفقه الدستوري من وجود دساتير عرفية، مثل دستور المملكة المتحدة مثلاً، وهكذا يكون المعيار غير جامع بسبب خروج الدساتير العرفية من دائرته.
كما أن المعيار لا يعد جامعاً مانعاً كذلك من زاوية أخرى، فهو- أي القانون الدستوري- بهذا المعيار: مجموعة القواعد الثابتة في وثيقة الدستور، ومفاد ذلك أنه لا يدخل في مضمون الدستور أية قواعد تنظم أموراً تعد بطبيعتها دستورية، ما لم تكن مدونة في وثيقة الدستور، وذلك أمر يتنافى مع ما هو ثابت بالاستقراء، من وجود قواعد دستورية، في قوانين عادية، تقع خارج تلك الوثيقة.
فهناك قواعد قانونية لا شبهة في أنها قواعد أساسية تتصل بالتنظيم السياسي للسلطات العامة ومع ذلك ترد هذه القواعد في قوانين عادية مثل: القوانين المتعلقة بمباشرة الحقوق السياسية وقوانين تنظيم مجلس الشعب وقانون تنظيم الأحزاب السياسية وقوانين السلطة القضائية وبالأخص قانون المحكمة الدستورية العليا. هذه القواعد جميعها من صميم الموضوعات الدستورية حتى وإن لم ترد في الوثيقة الدستورية ومن ثم يتوجب دراستها عندما ندرس القانون الدستوري رغم خروجها عنه في الأخذ بالمعيار الشكلي (12).
ومـن ناحية أخرى هناك نصوص ترد في الوثيقة الدستورية- ومن ثم تعتبر قاعدة دستورية بالمعنـى الشكلي للدستور- رغم كونها تتحدث عن موضوعات غير دستورية مثل: نص الدستـور الفرنسي على إلغاء عقوبة الإعدام، وكذلك التعديل الذي أدخلته الولايات المتحدة على دستورها عام 1920 بالنص على تجريم الخمر والعقاب على الاتجار فيها أو النص في بعض الدساتير على كون الأسرة هي أساس التنظيم الاجتماعي وغير ذلك، فهذه نصوص لا صلة لها بالمعنى الموضوعي للدستور- رغم ورودها في الوثيقة الدستورية(13).
وفي النهاية نرى أنه لا معنى لهذا الخلاف في الوقت الحالي بين أنصار المذهب الموضوعي وأنصار المذهب الشكلي حيث أن الدساتير المكتوبة تكاد تكون هي السمة ذات الأغلبية الكاسحة عالمياً- باستثناء بعض نصوص الدستور الإنجليزي- ومن ثم فقط حسم المشرع الدستوري أمره في اعتبار القانون الدستوري هو الأحكام المتواجدة في الوثيقة الدستورية، والقواعد الدستورية، والقواعد الدستورية التي لا توجد في هذه الوثيقة فهي- مع أهميتها- ارتأى المشرع أن يمنحها قدر من المرونة حتى يتسنى تعديلها بيسر إذا دعت الضرورة إلى ذلك.
المبحث الثاني
أنواع الدساتير
ربما تأخر تدوين الدساتير كثيراً في الظهور إلى ما بعد العديد من القوانين وذلك لأن قواعد الدستور تمثل دائماً قيد على حرية الحاكم، وهو أمر لا يرتضيه الحاكم- أي كان- عادة طواعية ولا في يسر أو بسهولة.
وكما لاحظنا في مسألة تعريف الدستور أن هناك دساتير عرفية أو بعضها عرفي مثل دستور المملكة المتحدة، وعرفي بمعنى أنه غير مدون أستمد من العرف والعرف القضائي، والعرف نفسه أنواع، فهناك عرف مكمل وهناك عرف مفسر.
وعلى الجانب الأخر تقف أغلبية الدساتير مدونة ومكتوبة ثابتة- ليست عصية على التعديل أو التبديل ولكن ذلك يتطلب عادة إجراءات صارمة واستثنائية حفظاً لنظام الدولة وكيانها واستقرارها.
إذن وبالنظر إلى مسألة تدوين الدستور فهناك نوعين منها:
1- الدساتير العرفية:
إن لفظ الدساتير العرفية يطلق على الدستور في أية دولة إذا توافر شرطان:
أولهما: أن يكون العرف هو المصدر الرئيسي للقواعد الدستورية، وثانيهما: أن تكون غالبية القواعد الدستورية قواعد عرفية. بمعنى إذا قلنا أن الدستور الإنجليزي دستور عرفي، فهذا لا يعني أنه غير مكتوب وغير مدون- فهو دستور معظمه مدون إلا قليلاً- وإنما يعني أنه دستور مصدره الرئيسي العرف وبدأت قواعده عبر العرف وفي الواقع فعلى امتداد العالم- في اللحظة الحالية- لا يوجد دستور عرف إلا في إنجلترا وإسرائيل).
ورغم عدم وجود وثيقة دستورية في إنجلترا إلا أن هناك العديد من القوانين الأساسية التي تنظم موضوعات دستورية.
2- الدساتير المكتوبة:
أما الدساتير المكتوبة أو المدونة فهي كل القواعد الدستورية المدونة في وثيقة صادرة عن سلطة لها ولاية إصدارها، بمعنى آخر وبمفهوم المخالفة للدساتير العرفية، فالدساتير المدونة هي الدساتير التي يكون التشريع هو مصدرها الرئيسي والرسمي، إذ يعني التشريع في هذه الحالة المصدر الرسمي لجميع القواعد القانونية.
والحاجة إلى دستور مكتوب تجد مردها في أربعة أشياء هي:
أولاً:نشوء دولة حديثة لم يكن لها وجود من قبل أو تكون حديثة الاستقلال أو منفصلة عن دولة أخرى، ففي هذه الحالة تحتاج إلى دستور مكتوب يؤكد وجودها ويرسم حدودها ويحدد نظمها وسياساتها وذلك مثل دستور الولايات المتحدة الأمريكية الصادر عام 1776.
ثانياً:قيام دولة على نظام حكم جديد يقطع تطور النظم السابقة للحكم مثل قيام الثورات بغية تأسيس النظام الجمهوري بديلاً عن نظيره الملكي بسبب استبداد النظام الأخير واحتكاره وذلك مثل دستور الثورة الفرنسية والإعلانات الدستورية لثورة يوليو 1952 في مصر.
ثالثاً:وإذا كانت الدولة يتكون سكانها من أجناس وقوميات متعددة ولغات مختلفة وعقائد متنوعة وأعداد غفيرة من البشر، فهي تحتاج إلى دستور مكتوب كضرورة ملحة لتحديد الروابط وتنظيم العلاقات وإيضاح الحقوق والحريات لضمان انسجام الشعب لصالح الدولة والعكس صحيح، ومثل هذه الحالة توافرت في الهند- ويوغوسلافيا (السابقة).
رابعاً:في حالة اتحاد عدة دول وتكوين دولة اتحادية توجد ضرورة لوجود دستور يحدد نظم الحكم الاتحادية وسلطة كل دولة مشاركة وحدودها وطرق انتخاب الحاكم وغير ذلك من الأمور الهامة لنمو الدولة الاتحادية والمحافظة على استقرارها واستمرارها، وتتوفر هذه الحالة في الاتحاد السوفياتي السابق- دولة الإمارات العربية المتحدة.
أما إذا نظرنا إلى القواعد الدستورية من حيث طرق تعديلها وتبديلها أو إلغائها فسنجد أننا أمام نوعين من الدساتير أيضاً:
1- الدساتير المرنة:
إذا أطلق مصطلح الدستور المرن فإنه يعني أن الدستور قابل لتعديل أحكامه عن طريق السلطة التشريعية بذات القواعد والإجراءات المتبعة التي تعدل بها القوانين والتشريعات العادية، بمعنى آخر فمرونة الدستور تعني أن إجراءات وطرق تعديله لا تختلف عن إجراءات تعديل القوانين والتشريعات العادية، فالمرونة تعني سهولة التعديل وبساطته والمثل النموذجي لهذا النوع من الدساتير هو الدستور الإنجليزي.
وهذا النوع من الدساتير لا يثير أية مشاكل فيما يتعلق بموضوع دستورية القوانين العادية وذلك بسبب سهولة تعديله، فهو دستور متجدد ومتطور بتطور الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية السائدة في كل عصر.
2- الدساتير الجامدة:
المقصود بالدستور الجامد، أنه الدستور الذي لا يمكن تعديل أحكامه وقواعده إلا بإجراءات وطرق تختلف عن تلك التي يتطلبها تعديل أحكام القوانين العادية، والاختلاف هنا اختلاف في درجة الصعوبة والتعقيد وليس مجرد الاختلاف.
ولا يعني وصف الدستور بالجامد، ثباته واستعصاء قواعده ونصوصه على التعديل والإلغاء وإنما يعني اشتراط إجراءات معينة وأغلبية معينة (كبيرة) لتعديل نص فيه أو أحد أحكامه. والجمود بهذا المعنى يحقق للدستور سمواً شكلياً فوق مرتبة القوانين العادية.
وفي تعقيبه على ذلك يقول أستاذنا الدكتور يحيى الجمل (14): "والحقيقة أن الدساتير المرنة تمثل الوضع النادر، ذلك أن الغالبية العظمى من دساتير دول العالم هي الآن دساتير جامدة بمعنى أن تعديل نصوص هذه الدساتير تقتضي إجراءات خاصة ينص عليها الدستور نفسه وهي إجراءات تختلف عن إجراءات تعديل القوانين العادية وتمتاز عنها بالصعوبة والشدة.
وهذا أمر مفهوم، ذلك أن الدساتير يفترض فيها أن تكون أكثر ثباتاً واستقرار من القوانين العادية، حيث أن الدستور هو الذي يحدد أسس النظام السياسي والاقتصادي ويصنع الفلسفة الأساسية التي يقوم عليها النظام، حقاً لم يقل أحد أن أحكام الدستور يجب أن تظل خالدة دائمة، فلا شيء في الدنيا وفي عالم السياسة والنظم السياسية يمكن أن يظل خالداً أو دائماً، ولكن هذا شيء وسرعة التغيير وتلاحقه شيء آخر.ومن هنا يمكن أن نقول أن استقرار النظام السياسي- ولو لفترة معينة- يقتضي قدراً من الاستقرار والاستمرار في النظام الدستوري وهذا بدوره يستلزم نوعاً من الثبات في القواعد الدستورية".
المبحث الثالث
سمو قواعد الدستور
السمو يعني العلو، وسمو قواعد الدستور يعني علوها على باقي القواعد القانونية على تدرجها من تشريعات وقوانين ولوائح وقرارات إدارية، بمعنى آخر إذا انتظمت التشريعات في شكل هرمي فإن القواعد الدستورية تعتلي قمة هذا الهرم وتهيمن على كافة التشريعات والقواعد الأخرى التي يتكون منها هذا الهرم.
فالدستور كما أسلفنا هو الذي يحدد سلطات الدولة ويوزع اختصاصاتها ومن ثم فإن القواعد الدستورية تسمو بطبيعتها على مضمون القواعد القانونية الأخرى التي تصدر عن السلطات التي أنشأها الدستور.
وفي هذا تقول المحكمة الدستورية العليا في حكمها في القضية رقم 38 لسنة 11 قضائية: "وحيث أن الدستور هو القانون الأساسي الأعلى الذي يرسي القواعد والأصول التي يقوم عليها نظام الحكم ويحدد السلطات العامة ويرسم لها وظائفها ويصنع الحدود والقيود الضابطة لنشاطها، ويقرر الحريات والحقوق العامة ويرتب الضمانات الأساسية لحمايتها، ومن ثم فقد تميز الدستور بطبيعة خاصة تضفي عليه صفة السيادة والسمو بحسبانه كفيل الحريات وموئلها وعماد الحياة الدستورية وأساس نظامها! وحق لقواعده أن تستوي على القمة من البناء القانوني للدولة وتتبوأ الصدارة بين قواعد النظام العام باعتبارها أسمى القواعد الآمرة التي يتعين على الدولة التزامها في تشريعها وقضائها وما تمارسه من سلطات تنفيذية؛ ودون أي تفرقه أو تمييز- في مجال الالتزام بها- بين السلطات العامة الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية، ذلك أن هذه السلطات كلها سلطات مؤسسة أنشأها الدستور، تستمد منه وجودها وكيانها، وهو المرجع في تحديد وظائفها".
وسمو الدستور بالمعنى السابق هو "السمو الموضوعي" فالسمو مستمد من الموضوعات التي يتضمنها الدستور وكونه المؤسس لكافة سلطات الدولة على أن الدستور لا يستمد سموه من جوهر موضوعاته فقط، وإنما يستمد كذلك من طريقة وضعه، وطريقة تعديل أحكامه، ذلك أن الغالب أن الدستور يكون من وضع هيئة تختلف في تشكيلها وإجراءاتها عن الهيئة التشريعية العادية، كما أن تعديل أحكام الدستور تكون كذلك بإجراءات مغايرة تتسم بالصعوبة والتعقيد (15)، وهذا هو السمو الشكلي للدستور، السمو الذي يستمد من طريقة تعديل الدستور.
ومن الملاحظ أن السمو الموضوعي لقواعد الدستور يتوفر في كافة أنواع الدساتير مرنة أو جامدة، عرفية أو مدونة، فإذا كان الدستور البريطاني دستوراً مرناً وعرفياً- كما مر بنا- وللبرلمان هناك سلطة غير محدودة في تعديل القواعد الدستورية حتى أن فقيهاً إنجليزياً معاصراً- سيراينفور جنجز يقول بأن البرلمان الإنجليزي يستطيع أن يفعل كل شيء حتى بأن يجعل المرأة رجلاً والعكس صحيح، ومع ذلك فإن البرلمان يعجز عن حرمان الكاثوليك مثلاً من حق الانتخاب، أو أن يحرم إنشاء النقابات العامة ولا تفسير لذلك إلا في ضوء السمو الموضوعي للقواعد الدستورية (16).
أما السمو الشكلي لقواعد الدستور فهو سمو لا يتوفر إلا في الدساتير المدونة الجامدة التي يستلزم تعديلها إجراءات وأغلبية تختلف عن تلك المتطلبة في تعديل أحكام القوانين العادية وتتميز عنها في الصعوبة ودرجة التعقيد.
وتقول المحكمة الدستورية العليا (17): "وحيث أن سيادة الدستور بمعنى تصدره القواعد القانونية جميعها، ليس مناطها عناصر مادية قوامها مضمون الأحكام التي احتواها والتي تنظم بوجه خاص تبادل السلطة وتوزيعها والرقابة عليها، بما في ذلك العلائق بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، وكيفية مباشرتهما لوظائفهما، ونطاق الحقوق التي يمارسها المواطنون، وكذلك الحريات التي يتمتعون بها، ذلك أن الدستور- محدداً بالمعنى السابق على ضوء القواعد التي انتظمها- هو الدستور منظوراً إليه من زاوية مادية بحتة، وهي زاوية لا شأن لها بعلو القواعد الدستورية وإخضاع غيرها من القواعد القانونية لمقتضاها، وإنما تكون السيادة للدستور، حين تهيمن قواعده على التنظيم القانوني في الدولة لتحتل ذراه، ولا يكون ذلك إلا إذا نظرنا إليه من زاوية شكلية لا تتقيد بمضمون القواعد التي فصلها، وإنما يكون الاعتبار الأول فيها عائداً أولاً إلى تدوينها وثانياً إلى صدورها عن الجهة التي انعقد لها زمام تأسيسها والتي تعلو بحكم موقعها من السلطتين التشريعية والتنفيذية- عليهما معاً، إذ هما من خلقها وينبثقان بالتالي عنها، يلتزمان دوماً بالقيود التي فرضتها، وبمراعاة أن القواعد التي صاغتها هذه الجهة- وأفرغتها في الوثيقة الدستورية- لا يجوز تعديلها أو إلغاؤها إلا وفق الأشكال والأنماط الإجرائية التي حددتها، بشرط أن تكون في مجموعها أكثر تعقيداً من تلك التي تنزل عليها السلطة التشريعية، إذا عن لها تعديل أو إلغاء القوانين التي أقرتها، ودون ذلك تفقد الوثيقة الدستورية أولوياتها التي تمنحها على الإطلاق الموقع الأسمى والتي لا تنفصم الشرعية الدستورية عنها في مختلف تطبيقاتها باعتبار أن التدرج في القواعد القانونية يعكس لزوماً ترتيباً تصاعدياً فيما بين الهيئات التي أقرتها أو أصدرتها".
المبحث الرابع
الدستور المصري
إذا كان القانون الدستوري هو القانون الأساسي للدولة والمنوط به تحديد شكل الدولة ونظام الحكم فيها وتقسيم السلطات وتحديد وظائفها وتقرير حقوق الأفراد وحرياتهم في مواجهة السلطات العامة، ومن ثم فإنه يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالبيئة التي يوجد فيها معبراً عن ظروفها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتاريخية كما أنه يعبر عن توازن القوى المهيمنة والبارزة على الساحة في دولة ما وقت إقراره- أياً كانت طريقة وضعه أو الهيئة التي وضعته- فالدستور هو مرآه عاكسة لتوجهات النظام الحاكم وأيدلوجيات وطموحات القوى المتواجدة بجانبه.
ولعل التاريخ الدستوري المصري يوضح ذلك أيما توضيح، فكل مرحلة من مراحله تعبر عن الظروف السائدة والتي مرت بها مصر في ظل أجواء سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافة متقلبة ومتغيرة أشد التغير.
المطلب الأول
التطور التاريخي للنظام الدستوري (18)
عندما تولى محمد علي حكم مصر عام 1805 أرسى قواعد الدستور الفردي المطلق وتنكر للوعود التي قطعها على نفسه تجاه من قاموا بتأييده من طوائف الشعب، فقام بالقضاء على الزعامة الشعبية الدينية المتمثلة في رجال الأزهر حيث نفي السيد/ عمر مكرم وقضى على المماليك في مذبحة القلعة الشهيرة عام 1811 ومن ثم أنفرد بالسلطة وجمع في يديه كافة السلطات العامة، التنفيذية والتشريعية والقضائية وأصبح صورة مجسمة ومجسدة في الواقع لنظام الحكم المطلق.
واستمر الوضع كذلك في عهد خلفائه عباس الأول ومن بعده سعيد باشا وصدراً في عهد الخديوي إسماعيل. بيد أن الأمور سارت في غير الاتجاه الذي يشتهيه فمع السياسة الاقتصادية التي انتهجها والبذخ الشديد في الأنفاق والاتجاه صوب الاستدانة من الخارج فقد ساءت أحوال البلاد الاقتصادية وازدادت ديون البلاد مما أدى إلى التدخل الأجنبي في الشئون الداخلية عبر تعيين وزيرين أجنبيين في الحكومة المصرية إحداهما بريطاني والآخر فرنسي، الأمر الذي أدى إلى سخط الشعب وازدياد نشاط المعارضة، التي تكونت في غالبيتها ممن تعلموا وانتشرت بينهم المبادئ الديمقراطية التي سادت في أوروبا في أعقاب الثورة الفرنسية والمنقولة إليهم عبر البعثات العلمية المصرية إلى هناك، بجانب كتابات جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده، وبالتالي بدأت المعارضة الوطنية تطالب بضمانات دستورية ودستور، فتم إنشاء مجلس شورى النواب عام 1866 ووضع مشروع دستور عام 1879، حال دون صدوره خلع الخديوي إسماعيل وتعيين ابنه الخديوي توفيق بدلاً منه، ورغم محاولات توفيق القضاء على هذه الحركة الوطنية إلا أنها تصاعدت بمساعدة الجيش تحت زعامة عرابي باشا وتم إصدار دستور 1882.
ولم يكتب لهذا الدستور أن يعمر طويلاً ولا أن يستمر التطور الدستوري في نموه الطبيعي حيث تم احتلال البلاد في ذات العام والقضاء على الثورة الوطنية وإلغاء الدستور وإصدار القانون النظامي لعام 1883 الذي كرس للحكم الفردي المطلق؛ ولما لا وهو من وحي دولة احتلال وصدر بأوامرها.
ومع استمرار الكفاح وتواصل الحركة الوطنية بقيادات وزعامات جديدة اضطرت إنجلترا في سبيل تهدئة الحركة الوطنية إلى إصدار القانون النظامي لعام 1913 والذي تضمن إنشاء ما يعرف بالجمعية التشريعية التي برز من بين أعضائها الزعيم/ سعد زغلول، وكانت الجمعية التشريعية تتكون من 83 عضواً ينقسمون إلى ثلاث طوائف، طائفة منتخبة، طائفة معينة، وطائفة بحكم القانون، فالمنتخبون عددهم 66 عضواً، والمعينون عددهم 17 عضواً ممثلين على أساس الطائفة والمهنة والإقليم وهم طبقاً للمادة (3) من القانون النظامي: أربعة من الأقباط وثلاثة من العرب البدو وأثنين من التجار وأثنين من الأطباء وأثنين من رجال التربية والتعليم وواحد من المهندسين وواحد من المجالس البلدية، وأخيراً يعتبر عضواً في الجمعية كل من يتولى منصب الوزارة.
ومع قيام الثورة المصرية تحت زعامة/ سعد زغلول ثم الاعتراف باستقلال مصر طبقاً لتصريح 28 فبراير 1922 ثم صدور دستور 1923 طبقاً للمبادئ الديمقراطية السائدة في ذلك الوقت ومع التطبيق الفعلي لهذا الدستور فقد حدثت خلافات كثيرة بين الملك وبين بعض الوزارات مما أدى إلى صدامات كثيرة الأمر الذي أدى إلى إصدار أمر ملكي بإلغاء هذا الدستور وإصدار دستور 1930 الذي يقوي سلطة الملك ويوسع اختصاصاته على حساب السلطة التشريعية.
ومع قيام ثورة يوليو 1952، عمل قادتها على وضع القواعد الدستورية التي تلائم التغيرات الجديدة واللازمة لنظام الحكم الجديد فتم إصدار الإعلان الدستوري عام 1953 وتلاه صدور دستور 1956، ومع فكرة القومية العربية التي نص عليها هذا الدستور وقعت اتفاقية الوحدة مع الجمهورية السورية سنة 1958 الأمر الذي استلزم إصدار دستور جديد عام 1958 ليبين نظام الحكم في الدولة الجديدة، وبعد الانفصال بين الدولتين في مطلع الستينيات وإزاء الفراغ الدستوري الناشئ عن هذا الوضع صدر الإعلان الدستوري لعام 1962 بشأن التنظيم السياسي للسلطات العليا في الدولة ثم أصدر الدستور المؤقت لعام 1964 وأخيراً وفي الحادي عشر من سبتمبر 1971 صدر الدستور الدائم، المطبق حالياً.
المطلب الثاني
الدستور المصري الدائم
نتيجة لعدد من العوامل والظروف السياسية المحلية والدولية تأجل إصدار الدستور المصري الدائم الذي كان على وشك الانتهاء، بعد ما وضعت مسودته عن طريق لجنة مشكلة من بين أعضاء مجلس الأمة وذلك في مايو 1967، تنفيذاً لما ورد بديباجة الدستور المؤقت الصادر عام 1964، والتي نصت على كونه دستوراً مؤقتاً حتى يتم مجلس الأمة مهمته في موضوع الدستور الدائم للجمهورية، وحالت ظروف الحرب مع إسرائيل ودون إتمام هذا المشروع أو عرضه على الشعب للاستفتاء عليه.
وفي ضوء الظروف التي أحاطت بالبلاد وحالة الغليان التي شهدتها في أعقاب هزيمة يونيو 1967 فقد صدر بيان 30 مارس 1968 وتم طرحه للاستفتاء الشعبي في مايو من ذات العام، وتضمن البيان النص على ضرورة إتمام الدستور الدائم حتى يتم إصداره فور إنهاءه وإزالة كافة أثار العدوان ويتلو إصداره انتخابات على منصب رئيس الجمهورية.
وبعد وفاة الرئيس عبد الناصر، سارع الرئيس الجديد (السادات) وطلب من مجلس الأمة في 20 مايو 1971 أن يباشر مهمته في وضع الدستور الدائم، على أن يكون الدستور المزمع إصداره متضمناً ما يلي من الأحكام:
1- أن يكون الدستور مستمداً من تراثنا، وأن يؤكد الانتماء المصري إلى الأمة العربية.
2- أن ينص الدستور على حماية المكتسبات الاشتراكية وتدعيمها.
3- تأكيد الصلة الوثيقة بين الحرية الاجتماعية والحرية السياسية لأن الإنسان غير الآمن على رغيف الخبز لا تكن عنده حرية سياسية.
4- وجوب التأكيد على أن الشرعية الاشتراكية هي أساس كل العلاقات في المجتمع وفي الدولة، وأن الدولة تخضع للقانون كما يخضع الأفراد له.
5- يجب ألا يكون هناك قرار أو إجراء مهما كانت السلطة المصدرة له، بمنأى عن رقابة القضاء، وأن القانون يكفل الحق لكل فرد في اللجوء إلى القضاء.
6- ضرورة أن يكفل الدستور لمجلس الشعب جميع الضمانات بما فيها عدم حله خلال مدته الدستورية إلا في حالة الضرورة، ولا يحل في هذه الحالة إلا عبر استفتاء شعبي.
7- أن يؤكد الدستور على ارتباط السلطة بالمسئولية وأن تحدد المسئولية تحديداً واضحاً وصريحاً.
8- وجوب تحديد مدى زمني لتولي الوظائف السياسية والتنفيذية.
9- تأكيد دور القطاع العام، والقطاع التعاوني، وتوفير الضماناتالمناسبة للقطاع الخاص للمشاركة في إطار خطة الدولة، وضمان الحماية للقطاعات الثلاثة.
وتنفيذاً للطلب الرئاسي قام مجلس الأمة بتشكيل لجنة تحضيرية للقيام بهذه المهمة وقد ضمت اللجنة التي شكلها المجلس نحو 80 شخصية من بين أعضائه وذلك في جلسة 25 مايو 1971 وقد استعانت اللجنة بعدد كبير من رجال القانون والدين والفكر والشخصيات العامة لتنفيذ هذه المهمة.
وتم تقسيم اللجنة التحضيرية إلى أربع لجان أساسية هي:
اللجنة الأولى:وأنيط بها دراسة المقومات الأساسية للمجتمع والحريات العامة والفردية والأخلاق العامة التي يجب أن تسود المجتمع.
اللجنة الثانية:وتختص بدراسة نظام الحكم المناسب للحالة المصرية.
اللجنة الثالثة:وكلفت هذه اللجنة بدراسة نظام الإدارة المحلية والقوانين الأساسية.
أما اللجنة الرابعة:فيمكن اعتبارها لجنة جماهيرية، حيث كلفت بتلقي مقترحات الجماهير والقيام بتلخيصها وإيجازها ثم تبويبها وتوزيعها على اللجان السابق كل فيما يخص عمله.
وقد انقسمت اللجان الرئيسية السابقة إلى لجان فرعية(19)، حيث انقسمت اللجنة الأولى لخمس لجان فرعية تختص كل واحدة بنوع من المقومات الأساسية وهي: الاجتماعية والخلقية والسياسية والاقتصادية، أما اللجنة الخامسة فتختص بدارسة الحريات العامة.
وانقسمت اللجنة الثانية وهي لجنة نظام الحكم إلى ثمان لجان فرعية هي لجان: الاتحاد الاشتراكي، طبيعة نظام الحكم، مجلس الشعب، الرقابة الشعبية، رئيس الدولة ونوابه والوزراء، المجالس القومية المتخصصة، الهيئات الرقابية في الدولة، المنظمات الجماهيرية، القضاء، وكذا انقسمت اللجنتين الثالثة و الرابعة.
وبعد انتهاء اللجان الفرعية من أعمالها عقدت اللجان الرئيسية أربعة اجتماعات وضع خلالها المبادئ الأساسية لمشروع الدستور ثم قامت بعرضه على مجلس الأمة الذي وافق عليه فيما يشبه الإجماع بجلسة 22 يوليو 1971 (20).
وأخيـراً عرض المشروع على اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي فوافقت على الدستور بعـد تعديل أربعة من موارده هي المواد (41) الخاصة بالحريات الشخصية، والمادة (87) الخاصة بمجلس الشعب، والمادة (118) بشأن الحساب الختامي للدولة، والمادة (156) الخاصة باختصاصات مجلس الوزراء.
ومن ثم فقد تم عرض الدستور مع وثيقة إعلانه على الشعب للاستفتاء عليه يوم 11 سبتمبر 1971 وقد وافق الشعب عليه وبالتالي فقد أصدره رئيس الجمهورية وتم نشره بالجريدة الرسمية يوم 12 سبتمبر 1971.
وجماع ما تقدم، فإن الدستور المصري الدائم الصادر عام 1971 قد صدر وفقاً للأساليب الديمقراطية في وضع الدساتير ويتميز بأنه دستور مدون وجامد، حيث أن إجراءات تعديله تختلف عن إجراءات تعديل القوانين العادية وتستلزم شروطاً وأوضاعاً تتسم بالتعقيد والخصوصية وقد حددت هذه الأوضاع والشروط وكيفية التعديل المادة 189 من الدستور بقولها:
"لكل من رئيس الجمهورية ومجلس الشعب طلب تعديل مادة أو أكثر من مواد الدستور، ويجب أن يذكر في طلب التعديل المواد المطلوب تعديلها والأسباب الداعية إلى هذا التعديل.
فإذا كان الطلب صادراً من مجلس الشعب وجب أن يكون موقعاً من ثلث أعضاء المجلس على الأقل.
وفي جميع الأحوال يناقش المجلس مبدأ التعديل ويصدر قراره في شأنه بأغلبية أعضائه فإذا رفض الطلب لا يجوز إعادة طلب تعديل المواد ذاتها قبل مضي سنة على هذا الرفض.
وإذا وافق مجلس الشعب على مبدأ التعديل يناقش بعد شهرين من تاريخ هذه الموافقة المواد المطلوب تعديلها، فإذا وافق على التعديل ثلثي عدد أعضاء المجلس عرض على الشعب لاستفتائه في شأنه
فإذا ووفق على التعديل اعتبر نافذاً من تاريخ إعلان نتيجة الاستفتاء".
وما يهمنا هنا في هذا الصدد أن الدستور الدائم صدر محتوياً على تنظيم متكامل للحقوق والحريات على مختلف أنواعها على النحو الآتي:
الفصل الأول والثاني من الباب الثاني تحت عنواني: المقومات الاجتماعية والخلقية، والمقومات الاقتصادية، واشتمل هذان الفصلان على معظم الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
كما أشتمل الباب الثالث "الحريات والحقوق والواجبات العامة " والباب الرابع "سيادة القانون على الحقوق السياسية والمدنية".
بمعنى أخر فإن ثلث مواد الدستور البالغ عددها 211 مادة تتضمن أحكاماً خاصة بإقرار الحقوق والحريات العامة المتعارف عليها دولياً وعالمياً.
وختاماً لهذا المبحث ودون الدخول في أية جزئيات تحيد بنا عن المقصود والغاية من هذا البحث فإن الدستور- محل البحث- قرر ضمانيتين كافلتين لما ورد به من حقوق وحريات وهما: أولاً مبدأ المساواة الوارد بالمادة 41 من الدستور وثانياً مبدأ سيادة القانون (الوارد في الباب الرابع من الدستور) وهو باب حديث في الدساتير المصرية ويعني خضوع الجميع بما فيهم الدولة لحكم القانون بل واعتبرت سيادة القانون أساس الحكم في الدولة.
المبحث الخامس
حقوق الإنسان
ارتبط مفهوم حقوق الإنسان- تاريخياً- بحركات التحرر والمقاومة والثورات في أنحاء العالم كافة، مثله مثل حركة تدوين الدساتير، التي دونت في المقام الأول لتنظيم وإقرار حقوق الإنسان وحرياته الأساسية في مقابل الاستعمار والاحتلال أو الحكم الفردي المطلق والديكتاتورية، ففي كل حركة تحرر أو مقاومة ووراء كل ثورة كان الظلم وإهدار الحقوق الأساسية، المحرك الرئيسي للشعوب لرفعه، وتحقيق العدالة وإقرار الكرامة لبني البشر.
وكما ارتبطت حركة تدوين الدساتير بالدستورين الأمريكي والفرنسي فكذلك ارتبط مفهوم حقوق الإنسان بإعلان استقلال الولايات المتحدة الأمريكية 1776 وإعلان الثورة الفرنسية 1789 ودستور الولايات المتحدة السابق هو ذاته المطبق حتى اليوم مع التعديلات التي أدخلت عليه مع تغير الظروف السياسية والاقتصادية بتغير الزمان، وقد أدخل أول تعديل على هذا الدستور في عام 1791 لإدخال النص على حق الأفراد في التجمع السلمي وتكوين الجمعيات وفي ذات العام صدر الدستور الفرنسي متضمناً العديد من الحقوق والحريات.
على أن حقوق الإنسان تلك المنظومة شبه المتكاملة من ناحية النصوص الدولية أو الإقليمية أو حتى المحلية المدمجة في الدساتير والوثائق الدستورية، كانت نتيجة كفاح ونضال طويلين استمرا طوال عمر البشرية ذاتها، ونتيجة لسلسلة من الحروب التي خلفت ورائها ملايين القتلى والجرحى والكثير جداً من الدمار والخراب، الأمر الذي حدا بالمجتمع الدولي إلى تأسيس عصبة الأمم المتحدة في أعقاب الحرب العالمية الأولى، ثم هيئة الأمم المتحدة في إثر أعقاب الحرب العالمية الثانية.
مع ملاحظة أن عهد عصبة الأمم أنصرف إلى تنظيم العلاقات بين الدول على أساس من القول بأن تنظيم هذه العلاقات هو الحل الأمثل لتلافي حدوث أية حروب أخرى عقب الحرب العالمية الأولى ومع فشل هذا المفهوم وقيام الحرب العالمية الثانية فقد تبنى ميثاق الأمم المتحدة وأكد على العلاقة الوثيقة بين السلام والأمن الدوليين من ناحية والظروف الملائمة للرفاهية الاقتصادية والاجتماعية واحترام الإنسان وحرياته الأساسية من ناحية أخرى! فالفلسفة تغيرت إلى اعتبار حقوق الإنسان هي الأساس لتحقيق الأمن والسلم الدوليين وإقرار الحريات الأساسية وتجنب ويلات الحروب.
وبعد إنشاء هيئة الأمم المتحدة وإعلان ميثاقها المؤكد على قيم ومبادئ حقوق الإنسان صدر عن الجمعية العمومية للأمم المتحدة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي يعتبر درة التاج في هذا الموضوع وتتويجاً لجهود البشرية كلها في إقرار حقوقها وحرياتها والأصل الذي اشتقت منه جميع المواثيق الدولية والإقليمية الصادرة بعده، بل وامتد تأثيره إلى تكرار نصوصه وأحكامه في صلب مواد الكثير من الدساتير الوطنية لدول عديدة؛ وقد عرفت الأمم المتحدة حقوق الإنسان بقولها: هي الحقوق المتأصلة في طبيعتهن والتي بدونها يستحيل علينا أن نحيا كبشر(21)، أما الحرية فهي: أن يتصرف الفرد بلا قيود، وأن يختار بمحض إرادته، ما يتفق مع رغباته وأفكاره بشرط أن لا يمس ذلك بحرية غيره(22).
المطلب الأول: فكرة الإعلان واعتمادها:
كانت فكرة صياغة وثيقة بشأن حقوق الإنسان حقوق الإنسان قائمة ومحل نقاش أثناء إعداد مشروع ميثاق الأمم المتحدة، بما قدم من اقتراحات تهدف إلى إعداد وثيقة دولية تضم هذه الحقوق وإلحاقها بالميثاق واعتبارها جزء لا يتجزأ منه، بيد أن الأمر كان يتطلب مزيداً من التفاصيل والدراسة فلم تتح الفرصة لإعدادها والتصديق عليها إبان اعتماد الميثاق في سان فرانسيسكو سنة 1945، وبناء على إلحاح الفكرة وأهميتها أوصت اللجنة التحضيرية للأمم المتحدة التي اجتمعت فور انتهاء الجلسة الختامية للمؤتمر سالف الذكر بأن ينشئ المجلس الاقتصادي والاجتماعي في دورته الأولى لجنة لتعزيز حقوق الإنسان، والتي أنشأت بالفعل في بداية عام 1946.
وقد بدأت لجنة حقوق الإنسان منذ دورتها الأولى في بحث مسألة وضع مشروع ميثاق دولي لحقوق الإنسان، فكان أن اختلفت الدول حول طبيعة هذا الميثاق من حيث مدى إلزامه من الناحية القانونية، ومقررات ونوعية الحقوق التي قد يتضمنها وطبيعة الإجراءات الدولية اللازمة لتطبيقه. حيث اقترحت الدول الغربية الرأسمالية أن يكون الميثاق المزمع وضعه وإصداره في شكل معاهدة دولية ملزمة تتضمن الحقوق المدنية والسياسية فحسب، وأن تنشئ أجهزة دولية ذات صلاحيات واسعة للإشراف على تطبيقه. إلا أن الدول الاشتراكية قد اتخذت موقفاً مغايراً وأبدت رغبتها أن تكون الوثيقة في شكل إعلان وليس معاهدة وأن يتضمن الإعلان الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية جنباً إلى جنب مع الحقوق المدنية والسياسية، مع اعتراضها على مسألة إنشاء أجهزة دولية مستقلة للإشراف على تطبيق حقوق الإنسان، ولعل السبب في ذلك الاختلاف يعود إلى أن الدول الاشتراكية كانت أقلية في الأمم المتحدة وبالتالي خشيت أن ينجح الغرب في فرض مفاهيم لحقوق الإنسان لا تتفق مع القيم الاشتراكية التي تؤمن بها وتعتنقها ومن ثم كان الإصرار على إدراج الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتي تتفق مع هذه النظرة(23).
ومع هذه الخلافات بين المعسكرين فقد قررت لجنة الصياغة إعداد وثيقتين، تأخذ أولهما شكل الإعلان وتتضمن تحديد المبادئ والمعايير العامة لحقوق الإنسان بشكل عام، أما الثانية فتأخذ شكل الاتفاقية وتتضمن حقوقاً محددة وكان أن تم صياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وإصداره من الجمعية العامة للأمم المتحدة في العاشر من ديسمبر 1948 وتأخر إصدار الوثيقة الثانية إلى العام 1966 مع تحولها إلى اتفاقيتين، نجح كل معسكر في إقرار واحدة منهما الأولى هي العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية والثانية هي العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
المطلب الثاني: مضمون الإعلان والحقوق الواردة فيه:
كما أسلفنا يعد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أهم المراجع الدولية في هذا الصدد وأبعدها أثراً فيما تلاه وأكثرها قيمة على اعتبار أنه نقل الفلسفة الخاصة بحقوق الإنسان من مجال النظريات والأمنيات والأحلام إلى واقع ملموس يعيشه المواطن الإنسان في أية دولة على وجه الأرض، فكان بحق حداً فاصلاً بين عهدين وعلامة مميزة على العهد الجديد، الذي يمكن وبحق أن نطلق عليه عهد حقوق الإنسان.
وإذا كان مفهوم الحق أسبق في الظهور من مفهوم القانون حيث يلازم الحق كصفة الإنسان أينما كان وأينما وجد، بل إن الحاجة إلى القانون تجد أساسها في ضمان حماية الحقوق وإقرارها وتنظيمها، فإن الإعلان العالمي. رغم الاختلاف حول قيمته القانونية ومدى إلزامه للدول الأعضاء- قد قرر معظم الحقوق والحريات مورداً لها قواعدها العمومية تاركاً لما تلاه مهمة التفصيل والتحديد؛ ومن ثم يمكن القول أن الإعلان وإن لم تكن له قوة ملزمة للدول الأعضاء في هيئة الأمم المتحدة إلا أن الحقوق الواردة به تعتبر ملزمة لا يمكن التخلص منها أو التحايل عليها باعتبارها وردت فيما بعد في اتفاقيات ملزمة دخلت حيز النفاذ.
وعلى كل فإن الإعلان العالمي يتكون من ديباجة وثلاثون مادة تنقسم على النحو التالي:
أولاً: مبادئ عامة: وتضمنتها المواد من 1 : 3 من الإعلان.
ثانياً: الحقوق المدنية: وتضمنتها المواد من 4 : 18 من الإعلان.
ثالثاً: الحقوق السياسية: وتضمنتها المواد من 19 : 21 من الإعلان.
رابعاً:الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية: وتضمنتها المواد من 22 : 27 من الإعلان.
خامساً: واجبات عامة: وتضمنتها المواد 28 : 30 من الإعلان.
أما تفصيل أحكام الإعلان فإن المادة الأولى تحدد الفلسفة التي يقوم عليها الإعلان العالمي وهي الحرية والمساواة في الكرامة والحقوق، وتحظر المادة الثانية التمييز أياً كان نوعه خاصة التمييز بسبب العنصر أو اللون أو ***** أو اللغة أو الدين أو الرأي.. وقررت المادة الثالثة لكل إنسان الحق في الحياة والحق في الحرية والأمان الشخصيين، والمواد من 4 – 21 فقد تناولت الحقوق المدنية والسياسية حيث حظرت الرق، والتعذيب والمعاملة المهينة والعقوبة القاسية، وكفلت الحق في التمتع بالشخصية القانونية، والحق في محاكمة عادلة، وحظر القبض والاعتقال والنفي التعسفي، وحظر سريان القوانين والعقوبات بأثر رجعي، وكفلت الحق في حماية الخصوصية وحماية الملكية الخاصة وضمان حرية الرأي والتعبير، والديانة، والاجتماع وتكوين الجمعيات، والحق في التنقل والإقامة، والحق في اللجوء السياسي والحق في الجنسية، والحق في الزواج وتكوين أسرة، والحق في المشاركة في الحكم والحق في تقلد المناصب العامة بالتساوي مع الآخرين.
والمواد من 22 – 27 نصت على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية كالحق في الضمان الاجتماعي والحق في العمل والمساواة في الأجر والحق في الراحة والإجازات، والحق في مستوى معيشي كافٍِ وملائم والحق في التعليم والحق في المشاركة في الحياة الثقافية في المجتمع.
الفصل الثاني
الرقابة على دستورية القوانين
إن موضوع الرقابة على دستورية القوانين هو موضوع عظيم الشأن بحسبان أنه الوسيلة اللازمة لرد طغيان السلطة التشريعية وإرجاعها إلى حدودها الدستورية، ومن ثم فهو الوسيلة الأساسية لضمان نفاذ القاعدة الدستورية، وبغيره تغدو تلك القاعدة خلواً من جزاء موضوعي علىمخالفتها، ولهذا فإن الدول ذات الدساتير الجامدة ما فتئت تهتم بهذا الموضوع صوناً لدستورها ومحافظة على سموه(24).
وبمعنى آخر فلأن القواعد الدستورية تمثل المكانة العليا في سلم التدرج الهرمي للنظام القانوني في الدولة، فهي تسمو على ما عداها من قوانين وإجراءات تتخذها السلطات العامة بما فيها السلطة التشريعية إذ هو- أي الدستور- الذي ينشؤها، ويحدد لها اختصاصاتها ويضع القيود وينظم الإجراءات التي تمارس بها هذه الاختصاصات، فإذا خالفت الهيئة التشريعية الدستور أو خرجت عن حدود الاختصاصات التي رسمها لها أو تحللت من القيود التي وضعها، تكون قد جاوزت سلطاتها ويبطل كل إجراء تتخذه في هذا الشأن(25).
ومن ثم فإننا نستطيع أن نقرر أن الرقابة على دستورية القوانين هي الضمانة الأساسية لسمو الدستور ويتطلب إعمال هذه الضمانة دستوراً مدوناً وجامداً بالمعنى الذي فصلناه كما أسلفنا، والجمود هنا هو الجمود النسبي الذي يضع في اعتباره تغير الظروف المحيطة بالدولة في وقت ما، فيتعين عليها تعديل دستورها وفي ذات الوقت فهو يحمي استقرار القواعد الدستورية.
وقد يثور تساؤل منطقي: لماذا الرقابة على دستورية القوانين؟
ونستطيع أن نؤكد أن السلطات تتخذ من القوانين وسيلة أساسية- في المجتمعات الإنسانية- لرسم وتنظيم ملامح الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية ومن ثم يتوجب أن تتفق هذه الوسيلة مع أحكام الدستور الذي أسس وأنشأ السلطات وحدد صلاحياتها وتخومها التي يجب ألا تتخطاها هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فالسلطة التنفيذية مسئولة أمام السلطة التشريعية والأخيرة تتعرض أعمالها- المتصلة بالتشريع للرقابة على مدى التزامها بأحكام الدستور.. فهي رقابة متبادلة في ضوء ما قررته الأحكام الدستورية العامة.
مع ملاحظة أن الرقابة على دستورية القوانين ليست نوعاً واحداً فهي أنواع كالتالي:
أولاً: الرقابة السابقة:
وتسمى أحياناً رقابة وقائية، ويفهم من أسمها أنها رقابة سابقة على صدور القانون وأنها تمنع إصدار قانون معيب دستورياً، وغالباً ما تتولى هذه المهمة هيئة سياسية، ومن ثم فإن الاسم الغالب على هذه الرقابة هي: الرقابة السياسية.
ثانياً: الرقابة اللاحقة:
وهذا النوع يبدأ بعد صدور القانون وسريانه ويقوم بمعالجة العوار الذي يلحق بالنظام القانوني من قوانين غير دستورية ومن ثم يطلق عليها رقابة علاجية ولما كان الغالب أن تعهد هذه الرقابة إلى هيئات قضائية فيطلق عليها الرقابة القضائية.
وبعد الحديث عن الرقابة الدستورية بأنواعها المختلفة والمتعددة يتعين علينا بحث الرقابة على دستورية القوانين في مصر، ومن ثم ينقسم هذا الفصل إلى: المباحث التالية:
المبحث الأول: أنواع الرقابة على دستورية القوانين.
المبحث الثاني: الرقابة على دستورية القوانين في مصر.
المبحث الثالث: الرقابة الدستورية المتخصصة.
المبحث الأول
أنواع الرقابة على دستورية القوانين
كما بينا سابقاً توجد رقابة سياسية ورقابة قضائية أو بمعنى آخر إذا نظرنا إلى زمن الرقابة فإنها تنقسم إلى رقابة سابقة ورقابة لاحقة.
وهذا هما نوعي الرقابة المقررين قانوناً في معظم دول العالم إلا أنه وفي بعض الظروف قد لا تحترم أحكام الدستور ولا تجدي أية وسائل رقابية في إعادة السلطات العامة إلى حدودها التي رسمها الدستور وفي هذا الفرض نجد أنفسنا أمام نوع ثالث من الرقابة يمكن أن نطلق عليها: الرقابة الشعبية وهي قد تستخدم وسائل سلمية مثل الرأي العام وضغطه في إطار قضية معينة لتحقيق هدف معين، ويعرف الدكتور أحمد سويلم الرأي العام بقوله: "الرأي العام هو الظاهرة الفكرية الناجمة عن الحشد الذهني للجماعات بحيث نجد فكرة معينة قد اختمرت في نفوسهم كجماعة(26)" والرأي العام وسيلة في المجتمعات الديمقراطية للرقابة على السلطات العامة ككل للحفاظ على الصالح العام. وأحياناً يلجأ الشعب إلى وسائل غير سلمية مثل مقاومة الطغيان والعصيان المدني والثورات وهي وسائل قد يختلف الفقهاء حولها هل هي وسائل قانونية أم سياسية ولكنها في كل الأحوال وسيلة شعبية لتحقيق ما تتوافق عليه الجماهير على أنه العدل والديمقراطية وحقوق الإنسان ولأن جميع الدساتير المدونة لم تعترف بهذه الرقابة فسنقصر على المعترف به من أنواع الرقابة.
المطلب الأول: الرقابة السياسية:
لقد كانت فرنسا هي مهد الرقابة السياسية على دستورية القوانين، حيث اعتنقت الثورة الفرنسية هذا النوع من الرقابة لتخوفها من أسلوب الرقابة القضائية ومن ثم نجد دستور فرنسا الصادر عام 1958 متبنياً ذات الاتجاه وأطلق على الهيئة التي تتشكل لتقوم بهذه المهمة مسمى "المجلس الدستوري" ونصت المادة 56 من هذا الدستور على أن المجلس يضم طائفتين من الأعضاء، الأولى تستمر عضويتهم تسع سنوات غير قابلة للتجديد، أما الطائفة الثانية فتستمر عضويتهم مدى الحياة، ويتكون المجلس من جميع رؤساء الجمهورية السابقين بحكم القانون ولمدى الحياة بالإضافة إلى تسعة أعضاء تستمر عضويتهم لمدة تسع سنوات يتم اختيارهم كالتالي:
أولاً: رئيس الجمهورية الحالي: يحق له اختيار ثلاثة أعضاء من هؤلاء التسعة، تستمر عضوية أحدهم لمدة ثلاث سنوات والثاني عضويته ستة سنوات والثالث تستمر عضويته مدة المجلس.
ثانياً: رئيس مجلس الشيوخ: يختار ثلاثة بذات التقسيم السابق.
ثالثاً: رئيس الجمعية الوطنية: يختار الثلاثة الباقين.
وبهذا التقسيم فإنه يمكن تجديد ثلث أعضاء المجلس الدستوري كل ثلاث سنوات.
ووفقاً للدستور فالمجلس يختص بالآتي: فحص دستورية القوانين الأساسية والمعاهدات ولوائح المجالس البرلمانية والنظر في المنازعات الخاصة بالانتخابات البرلمانية وبانتخابات رئيس الجمهورية وكذلك الاستفتاءات الشعبية، وهذا الدور إجباري يقوم به المجلس.
وله دور اختياري أو جوازي يختص بفحص القوانين العادية والمعاهدات الدولية، فهو ينظر فيها ويفحصها إذا طلب منه ذلك بواسطة رئيس الجمهورية أو الوزير الأول أو رئيس مجلس الشيوخ أو رئيس الجمعية الوطنية وفي كل الأحوال ليس من حق الأفراد اللجوء إلى المجلس الدستوري للطعن في دستورية القوانين.
وفي هذا الصدد تنص المادة 61 من الدستور الفرنسي على أن: يجب أن تعرض على المجلس الدستوري القوانين العضوية قبل إصدارها ولوائح المجالس البرلمانية قبل تطبيقها ليقرر مدى مطابقتها للدستور.
ويجوز أن يعرض رئيس الجمهورية أو الوزير الأول أو رئيس أي من المجلسين البرلمانيين القوانين قبل إصدارها على المجلس الدستوري لنفس الغرض.
وفي الحالتين المذكورتين في الفقرتين السابقتين يجب أن يبدي المجلس الدستوري رأيه في مدى شهر، ومع ذلك فللحكومة في حالة الاستعجال تقصير هذه المادة إلى ثمانية أيام.
وتنص المادة 62 من هذا الدستور- على أن "النص الذي يعلن المجلس الدستوري عدم دستوريته لا يجوز إصداره أو تطبيقه.
وقرارات المجلس الدستوري لا تقبل الطعن فيها بأي وجه من أوجه الطعن، وهي ملزمة للسلطات العامة ولجميع السلطات الإدارية والقضائية.
وبالقطع يمكن فهم ذلك النص في ضوء سمو القواعد الدستورية والحفاظ على استقرارها ضماناً لاستقرار المؤسسات في ممارسة سلطاتها واختصاصاتها الأساسية.
بناء على ما سبق فالرقابة السياسية تعد رقابة سابقة على صدور القانون يعهد بها إلى هيئة سياسية لفحص القوانين قبل إصدارها والتأكد من مدى مطابقتها للدستور، ولا يحق للأفراد أن يطعنوا أمام المجلس بعدم دستورية أي قانون- على فرض عدم دستوريته- وهي مقررة بنص الدستور ذاته، ومع ذلك فقد تعرضت الرقابة السياسية لانتقادات عنيفة تتمثل في:
أولاً: إن مسالة فحص قانون أو نص قانوني لبيان مدى مطابقته لأحكام ونصوص الدستور هي في جوهرها ومضمونها، بحث قانوني من الدرجة الأولى، وأنه من الأمور التي لا يستطيعها ولا يتقنها إلا الخبراء في القانون والمتخصصون في دراساته، ومن هنا فإنه يبدو من غير المنطقي أن يعهد بهذه المهمة الفنية الدقيقة إلى هيئة سياسية، قد يفتقد أعضاؤها القدرة على مثل هذا العمل القانوني (27).
ثانياً: تشكيل الهيئة في ذاته وطريقة اختيار أعضائها يعتبر من المسائل التي تعرض هذه الوسيلة الرقابية لكثير من النقد(28)، فلوسيلة تكوين هيئة الرقابة أثر كبير في استقلالها من عدمه، وفي مدى قوتها بين السلطات العامة، فمثلاً إذا عهد الدستور إلى البرلمان أمر تشكيل هذه اللجنة فهي تقع تحت سيطرة البرلمان وتعد تابع له ومن ثم لا تتمكن من ممارسة اختصاصاتها الأصيلة في الرقابة على ما يصدره البرلمان من تشريعات وكذلك الحال إذا كانت السلطة التنفيذية هي التي تتولى تشكيل هذه الهيئة(29).
أما إذا جعلنا تشكيل هذه الهيئة عن طريق الانتخاب الشعبي- فهذه الطريقة وإن اتفقت مع المبادئ الديمقراطية- إلا أنه يترتب عليها عواقب خطرة جداً، إذ ستحسب اللجنة نفسها ممثلة للشعب وتتنازع السلطة والنفوذ مع غيرها من الهيئات العامة وتحاول أن تخضعها جميعاً لإرادتها(30).
ثالثاً: فإن الأخذ بنظام الرقابة السياسية يشكل خطراً كبيراً، لأن المقصود بتقرير الرقابة على دستورية القوانين هو وضع حد لنزوات السياسة والحيلولة دون طغيان إحدى الهيئات السياسية على غيرها من الهيئات إذا تركت وشأنها دون رقابة، ولا شك أن وضع هذه الرقابة في أيدي هيئة سياسية سيؤدي إلى عكس النتيجة المرجوة، فهذه الهيئة السياسية الرقابية ليست بمنجىً من الخضوع للنزوات السياسية والتأثر بها (31).
المطلب الثاني: الرقابة الفضائية:
إن الرقابة اللاحقة أو البعدية أو العلاجية على دستورية القوانين أو كما يطلق عليها بحق الرقابة القضائية تعني أن تتولى المحاكم مهمة البحث في مدى مطابقة القوانين العادية لأحكام الدستور وإصدار حكم إما باتساقها أو بخروجها عليه، وهي رقابة فعالة وموجودة سواء نص عليها الدستور أم لم ينص عليها؛ على أنه يمتنع على المحاكم النظر في فحص القوانين إذ نص الدستور على ذلك صراحة.
ولهذه الوسيلة الرقابية عدة مميزات تتميز بها عن الرقابة السياسية:
1- تمتاز الرقابة القضائية بكونها رقابة محايدة ومستقلة بحكم أنها تمارس بواسطة سلطة قضائية محايدة ومستقلة دستوريا؛ ومن ثم فهي رقابة فعالة ومنتجة.
2- بما أن الرقابة على دستورية القوانين- كما أسلفنا- رقابة تستلزم مهارات فنية وقانونية فإن القضاة هم المؤهلون لهذه المهمة بحكم تكوينهم القانوني.
والرقابة القضائية ليست نمطاً واحداً، فالدول التي اعتنقت نظام الرقابة القضائية لدستورية القوانين اختلفت أساليبها في تطبيقه سواء من حيث الشكل أو الآثار أو الإجراءات المتبعة.
ويمكن حصر الرقابة القضائية في نوعين:
أ/ الرقابة عن طريق الدعوى الأصلية.
ب/ الرقابة عن طريق الدفع الفرعي بعدم الدستورية.
الفرع الأول: الرقابة عن طريق الدعوى الأصلية:
تتلخص الرقابة القضائية بواسطة الدعوى الأصلية في حق كل من له الحق في تحريك دعوى أصلية بطلب الحكم بعدم دستورية قانون أو لائحة؛ ونظراً لخطورة هذه الطريقة على الاستقرار القانوني في دولة ما فقد يرى المشرع الدستوري تتقيد هذا الحق وقصره على هيئات محددة يكون لها هذا الحق ويمنع الأفراد من ممارستها، والمحكمة المختصة هنا تستطيع أن تلغي القانون إذا رأت فيه مخالفة للدستور، ومن ثم يطلق عليها- أي الرقابة- رقابة الإلغاء.
ونظراً لخطورة النتائج التي تترتب على الأخذ بهذه الطريقة فإنه من المنطقي أن تتولى هذا النوع من الرقابة محكمة واحدة "مركزية الرقابة"؛ ومركزية الرقابة لها صورتين:
الصورة الأولى: يكون الاختصاص للمحكمة العليا في النظام القضائي العادي:
بمعنى أن نظر دعوى دستورية القوانين ينعقد للمحكمة العليا في النظام القضائي العادي للدولة (محكمة) النقض مثلاً ومن ثم فهي تتولى هذه المهمة ألا وهي رقابة دستورية القوانين عن طريق الدعوى الأصلية بجوار اختصاصاتها القضائية (أي القضايا المدنية والتجارية والجنائية...... الخ)(32).
ومن بين الدول التي جعلت الاختصاص الرقابي للمحكمة العليا: كولومبيا في دستور 1886 وهايتي في دستور 1928 وكوبا في دستور 1934 وسويسرا في دستورها الحالي مع ملاحظة أن سويسرا فتحت طريق الطعن أمام كل فرد له مصلحة مشروعة في إلغاء القانون، بمعنى حق كل فرد في اللجوء إلى المحكمة الاتحادية العليا بطلب إلغاء القانون غير الدستوري متى أثبت أن له مصلحة في هذا الإلغاء سواء كانت تلك المصلحة حالة أم مستقبلية؛ غير أن اختصاص المحكمة العليا لا يمتد إلى القوانين الاتحادية وإنما يقتصر على القوانين الصادرة من مجالس الولايات دون تلك التي يسنها المجلس الاتحادي(33).
الصورة الثانية: يكون الاختصاص لمحكمة دستورية متخصصة:
وهي الصورة الغالبة لدى الدول التي تأخذ بنظام الرقابة القضائية عن طريق الدعوى الأصلية بمعنى أن الدول تجعل هذه الرقابة من اختصاص محكمة خاصة تنشأ لها الغرض؛