والأمثلة في هذا الصدد كثيرة منها: تركيا في دستور 1961، وإيطاليا في دستور 1947 والعراق في دستور 1925 وسوريا في دستور 1950 وإسبانيا في دستور 1931.
مع ملاحظة أن معظم الدول حظرت هذا الحق على الأفراد- وقصرته فقط على بعض الهيئات والسلطات العامة الأمر الذي قد تتحول معه المحكمة الدستورية إلى محكمة لفض المنازعات بين السلطات العامة، ويفرغ الرقابة الدستورية من فحواها وجوهرها المتمثل في حراستها للدستور وحمايتها للحقوق والحريات التي كفلها.
ورغم فعالية هذه الرقابة وحسمها في التصدي لرقابة القوانين وفحص تطابقها من عدمه مع الدساتير القائمة إلا أنها قد قوبلت بنقد كبير تمثل في مأخذين هما:
أولاً: وجود احتمال- شبه مؤكد- في وقوع الصدام بين المحكمة التي تتولى رقابة دستورية القوانين وبين السلطات القائمة على التشريع من جهة وبين السلطة التنفيذية من جهة أخرى، ويتأتى هذا الفرض إذا قام القضاء بمهمته وغالى في فرض رقابته ومن ثم ألغي بعض القوانين التي تعتبر من الأهمية بمكان بالنسبة للسلطتين [التشريعية والتنفيذية] ونجد أن الأمر يؤول إلى محاولة المشرع أو السلطة التنفيذية بما لها من صلاحيات، إلى إزالة هذه القيود من طريقة لتحقق ما تستهدفه من إصلاحات أو تعديلات في التشريعات القائمة، ولابد أن ينتهي الأمر بهما إما إلى تعديل نظم الرقابة القضائية للتخفف من رقابتها أو إلغائها تماماً، وهو ما حدث في مصر عندما أصدر السيد رئيس الجمهورية القرار بقانون رقم 168 لسنة 1998 وفي غيبة مجلس الشعب بتعديل بعض أحكام قانون المحكمة الدستورية العليا بما يقلص من دورها الفعال في رقابة دستورية القوانين وذلك على خلفية عدد من أحكامها مثل:
1- عدم دستورية النص التشريعي الذي أجريت على أساسه انتخابات مجلس الشعب في مصر عام 1987 وذلك في حكمها في الدعوى رقم 37 لسنة 9 ق بجلسة 19/5/1990.
2- الأحكام الصادرة من الدستورية العليا بعدم دستورية بعض القوانين الضريبية الأمر الذي يترتب عليه قيام الدولة برد الضرائب إلى دافعيها(34).
ثانياً: تعد مسألة إعطاء محكمة معينة سلطة إلغاء القوانين غير الدستورية بمثابة منحها قوة هائلة ونفوذاً ضخماً في مواجهة السلطات العامة الأخرى، وهذا قد يؤدي إلى أحد أمرين:
1- إسراف المحكمة في بسط رقابتها إلى كافة أوجه النشاط التشريعي بحجة حماية الدستور وبالتالي الاصطدام مع السلطة التشريعية مما يهدد نظام الدولة ككل.
2- أو قد تتراخى المحكمة في أداء وظيفتها ومهمتها تفادياً للاصطدام بغيرها من السلطات مما يفقد الرقابة على دستورية فعاليتها وجدواها(35).
الفرع الثاني: الرقابة عن طريق الدفع بعدم دستورية القانون:
تعد هذه الطريقة- طريقة الرقابة عن طريق الدفع بعدم دستورية القانون الأمر الذي فسره كثير من الفقهاء الدستوريين على أنه قبول للرقابة على دستورية القوانين- أسبق في الظهور من الطريقة التي فصلناها آنفاً؛ حيث أن القضاء هو الذي ابتدعها دون وجود نص دستوري يقررها، وظهرت هذه الطريقة إلى الوجود عن طريق القضاء الأمريكي حتى قبل أن تصدر المحكمة العليا في الولايات المتحدة الأمريكية حكمها الشهير في قضية مابوري ضد ماديسون عام 1803(36) حيث أن هناك سوابق قضائية مهدت للحكم السالف وقررت حق الرقابة الدستورية للمحاكم حيث قضت محكمة فرجينيا سنة 1766 بأن قانون التمغة غير دستوري، وعشية الاستقلال 1776 وجه قاضٍ من ولاية "ماسا شوست" هيئة المحلفين لتقرير أن قوانين البرلمان تنتهك القانون الأساسي ويجب تجنبها (37). وقد اعتنق القضاء المصري ذات المنهج منذ صدور دستور 1923 حتى صدور دستور 1971 حيث لم يكن هناك نص في أي من الدساتير المتعاقبة- عدا الأخير- يمنع أو يجيز الرقابة على دستورية القوانين ولكن عن طريق الدفع الفرعي.
ومقتضى هذه الطريقة الرقابية يفترض أن الشخص الذي يقرر أن قانوناً معيناً قد شابه عيب مخالفة الدستور، وأن له مصلحة مشروعة في منع تطبيقه، لا يبادر إلى الطعن فيه أو طلب إلغائه، وإنما يتريث إلى أن يراد تطبيقه عليه في دعوى معينة يكون طرفاً فيها، وإنما يترتب إلى أن يراد تطبيقه عليه في دعوى معينة يكون طرفاً فيها وعندئذ فقط يستطيع أن يطلب من القاضي عدم تطبيق هذا القانون عليه في الدعوى المنظورة أمامه بحجة أنه- أي القانون- يتضمن مخالفة لأحكام الدستور(38).
أي أن هذه الطريقة تستلزم الآتي:
أ/ أن تكون له مصلحة وصفة مباشرة في هذا الطعن.
ب/ أن تكون هناك منازعة موضوعية (دعوى قضائية) يكون أحد أطرافها.
3- تستطيع أي محكمة أن تتصدى لفحص وبيان مدى مطابقة نص قانوني لأحكام الدستور شريطة أن يكون ذلك بعد دفع يرفع أمامها بسبب دعوى منظورة لديها.
وإذا وصلنا إلى هذه النقطة فإن القضاء قد اتخذ موقفاً من اثنين إزاء مثل هذا الدفع:
الموقف الأول: رفض مثل هذا الدفع على أساس أن القضاء مخاطب بما تسنه السلطة التشريعية ولا يملك التعقيب على إرادة هذه السلطة، وكل الذي يملكه هو تطبيق تلك الإرادة. أما عن الدستور فإن على السلطة التشريعية أن تراعي أحكامه وهي المسئولة عن ذلك، ومهمة القضاء هي تطبيق التشريعات الصادرة عن سلطة التشريع- كذلكفإن هذا الاتجاه القضائي أخذ بتفسير لنظرية ومبدأ الفصل بين السلطات مقتضاه أن لا تتدخل السلطات القضائية في عمل السلطة التشريعية ولا يجوز لها أن تراقبها حيث يعد ذلك إخلالاً بمبدأ الفصل بين السلطات، وجل ما تملكه السلطة القضائية في هذا الشأن هو أن تفسر القوانين الصادرة من السلطة التشريعية وتطبقها على المنازعات المطروحة أمامها. وقد أخذ القضاء الفرنسي بهذه الوجهة وذلك الرأي فامتنع دائماً عن ممارسة الرقابة على دستورية القوانين(39).
الموقف الثاني: وتصدي لهذا الدفع على اعتبار أن وظيفة القضاء هي تطبيق القوانين، ولما كان الدستور هو قانون القوانين وأعلى القوانين درجة. فلا يجوز للقانون الأدنى مخالفة القانون الأعلى طبقاً للتدرج الهرمي للتشريعات، وكان القضاء عند تطبيقه للقانون إذا تبين له أن ثمة تعارض بين قاعدتين قانونيتين فإن عليه أن يحل هذا التعارض ويطبق إحدى القاعدتين وهي بطبيعة الحال القاعدة الأعلى في الدرجة ومن ثم يأخذ بحكم القاعدة الدستورية ويغفل القاعدة القانونية وهذه ما فعله القضاء الأمريكي وكذلك القضاء المصري قبل صدور دستور 1971.
مع ملاحظة انه إذا انتهت المحكمة إلى سلامة الدفع المثار أمامها وتبين لها أن القانون المطعون فيه غير دستوري، فإنها لا تقضي بإلغائه، وإنما يقف دورها عند حد الامتناع عن تطبيق هذا القانون، ولهذا سماها البعض من الفقهاء "رقابة الامتناع(40)"، ومن ثم يبقى القانون قائماً وساري المفعول تستطيع ذات المحكمة تطبيقه على نزاع آخر يعرض عليها ويؤدي ذلك إلى اضطراب المعاملات القانونية وعدم استقرارها.
المبحث الثاني
الرقابة على دستورية القوانين في مصر
باستثناء الدستور المصري الدائم الصادر عام 1971 جاءت الدساتير المصرية المتعاقبة بدءً من دستور 1882، ولائحة النظام الأساسي عام 1883 والقانون النظامي عام 1913 ودستور 1923 فدستور 1930 ثم العمل بدستور 1923 مرة أخرى ثم دستور مصر الصادر عام 1956 فدستور الوحدة الصادر عام 1958 ثم الدستور المؤقت الصادر عام 1964 بالإضافة إلى عدد من الإعلانات الدستورية الصادر فيما بعد عام 1952، جاءت جميعها خالية من أي نص ينظم الرقابة على دستورية القوانين، وفي المقابل أيضاً لم تتضمن أي نص يحظر على المحاكم مباشرة هذه الرقابة، وإزاء هذا الصمت الدستوري فقد نشط الفقه ونشطت المحاكم في تقديرها لهذه المسألة ما بين مؤيد ومعارض حتى صدر القانون رقم 81 لسنة 1969 بشأن إنشاء المحكمة العليا واختصاصها بمسألة الرقابة على دستورية القوانين ثم النص على الرقابة على دستورية القوانين في الدستور الدائم لجمهورية مصر في المواد من 174- 178 ثم صدور القانون رقم 48 لسنة 1979 بشأن إنشاء المحكمة الدستورية العليا.
وعلى هذا يمكننا تقسيم هذا الفصل إلى عدة مباحث على النحو التالي:
المبحث الأول: موقف الفقه والقضاء قبل إنشاء المحكمة العليا.
المبحث الثاني: مرحلة المحكمة العليا:
أ/ ظروف إنشاء المحكمة العليا.
ب/ تشكيل المحكمة العليا.
ج/ اختصاصات المحكمة العليا.
د/ أهم اتجاهات المحكمة العليا.
المبحث الثالث: مرحلة المحكمة الدستورية العليا:
أ/ ظروف إنشاء المحكمة الدستورية العليا.
ب/ تشكيل المحكمة الدستورية العليا.
ج/ اختصاصات المحكمة الدستورية العليا.
د/ الهجوم على المحكمة الدستورية وأسبابه.
هـ/ كلمة أخيرة.
المبحث الأول
موقف الفقه والقضاء قبل إنشاء المحكمة العليا
المطلب الأول موقف الفقه
في الفترة ما بين صدور دستور عام 1923 وصدور القانون رقم 81 لسنة 1969 بشأن إنشاء المحكمة العليا لم يكن هناك أي نص سواء كان دستوري أو تشريعي ينظم مسالة الرقابة على دستورية القوانين عن طريق المحاكم، ولم يكن هناك كذلك نص يحظر على المحاكم تلك الرقابة ومن ثم فتح المجال واسعاً أمام فقهاء القانون للقول بحق المحاكم في الرقابة على دستورية القوانين وسوق الحجج والبراهين المؤيدة لوجهة نظرهم، وفريق ذهب إلى عدم جواز رقابة المحاكم على دستورية القوانين معتمدين على حجج وبراهين ونظريات قانونية؛ ومضى هذا الخلاف الفقهي على ما يلي:
أولاً: فريق يرفض رقابة المحاكم على دستورية القوانين:
ذهبـت قلة من الفقه المصري إلى رفض الرقابة القضائية على دستـورية القوانيـن(41) مستندين إلى الحجج التالية:
1- موقف الفقه والفقهاء الفرنسيين الرافض لمسالة الرقابة القضائية على دستورية القوانين على اعتبار أن هذه الرقابة تمثل اعتداءً على مبدأ الفصل بين السلطات، حيث أن امتناع القاضي عن تطبيق القانون بدعوى مخالفته لدستور يعد تعدياً على اختصاص السلطة التشريعية.
2- الاستناد إلى نص المادة (15) من لائحة ترتيب المحاكم الأهلية والتي تقضي بمنع المحاكم من تأويل الأوامر الإدارية أو إيقاف تنفيذها؛ ومن ثم فتقرير الحصانة للأوامر الإدارية وفقاً للنص السابق يؤدي إلى وجوبها بداهة بالنسبة للقوانين الصادرة من المشرع من حيث كونها أسمى مرتبة من الأوامر الإدارية وبالتالي يمتنع على المحاكم النظر والرقابة على دستورية القوانين.
3- كذلك تم الاستناد إلى ما ورد بالمذكرة التفسيرية للمرسوم بقانون رقم 47 لسنة 1934 بشأن تعطيل بعض أحكام القانون رقم 26 لسنة 1912 الخاص بلائحة المحاماة الأهلية، حيث قالت: "ليس لأية هيئة قضائية في مصر حق الرقابة على دستورية القوانين". ومن الجلي وفقاً لما ورد بالمذكرة التفسيرية أن مسألة الرقابة القضائية على دستورية القوانين قد أثيرت بمصر في هذا الوقت المبكر ليس على مستوى الفقه وحده وإنما على مستوى القضاء كذلك وإلا ما وردت مثل هذه العبارة، على أن هذا الاتجاه الفقهي كانت بمثابة أقلية مثلها فقيه وربما فقيهان على الأكثر ليس إلا، وهما الدكتور وحيد رأفت والدكتور وايت إبراهيم.
ثانياً: فريق يؤيد حق المحاكم في الرقابة على دستورية القوانين:
ذهب الرأي الغالب والراجح في الفقه المصري وعلى رأسه الأستاذ الدكتور السيد صبري إلى تقرير حق المحاكم المصرية الكامل في مراقبة دستورية القوانين؛ وقد بدأ أنصار هذا الاتجاه بتنفيذ حجج الفريق الأول على النحو التالي(42):
1- إن الاستناد إلى موقف القضاء الفرنسي والقياس عليه هو قياس فاسد حيث أن الوضع القانوني في فرنسا مختلف عنه في مصر، فبينما قام المشرع الدستوري بحظر قيام المحاكم بالنظر في دستورية القوانين بموجب قانونين صدر أولهما في 16 أكتوبر 1790 وثانيهما في 2 سبتمبر 1791- ومازالا ساريات للآن- وقرربموجبهما عقوبة الخيانة العظمى للقاضي الذي يخالف أحكامهما، فإن الدساتير المصرية لم تتضمن نصوصاً مماثلة ولم يصدر عن المشرع أية قوانين تتضمن هذه الأحكام.
2- يستند حق القاضي في النظر في دستورية القوانين إلى مبدأ الشرعية؛ ويقتضي هذا المبدأ ضرورة التزام الدولة في جميع تصرفاتها بالقواعد المبينة بالوثيقة الدستورية، ولا تكون الحكومة شرعية إلا إذا التزمت في تصرفاتها بأحكام القواعد القانونية وعلى رأسها وفي صدارتها قواعد الدستور، فإن كان للحكومة أن تتصرف خارج سياق القانون، فهي حكومة استبدادية حتى ولو كان إسناد السلطة لها جاء وفق الانتخابات وعلى مقتضى المبدأ الديمقراطي، ومن ثم فإنه من غير المقبول القول بعدم خضوع القوانين للرقابة، ذلك أنها- أي القوانين- ليست سوى تصرفات للبرلمان يجب عليه أن يلتزم فيها الحدود التي رسمها الدستور، الذي أنشأ البرلمان وحدد سلطاته واختصاصاته وبين حدودها التي يجب ألا يتعداها أو يتخطى تخومها.
3- كما يستند حق القاضي في الرقابة على دستورية القوانين على اعتبار أن هذا العمل هو عمل طبيعي للقضاء، فعمل القاضي هو تطبيق القانون، ومن المنطقي أنه إذا تبين القاضي أن القانون المطلوب منه تطبيقه لم يصدر بالإجراءات المقررة دستورياً، فإنه لا يعتبره قانوناً ويمتنع عن تطبيقه، وتلك مسألة لا خلاف عليها. على أن ثمة صعوبة أخرى تتمثل في أن القانون المطلوب من القاضي تطبيقه قد يكون دستوري في شكله- أو من حيث الشكل- بمعنى أنه صدر وفقاً للإجراءات التي يقررها الدستور، غير أن الخصوم يدفعون بعدم دستوريته على سند من القول بتعارضه مع أحكام ونصوص الدستور، أي أنهم يطلبون عدم تطبيق هذا القانون عليهم. في هذا الفرض يكون القاضي أمام قانونيين متعارضين، أولهما قاعدة دستورية والثانية قاعدة قانونية تنتمي للتشريع العادي، ويكون من طبيعة عمل القاضي أن يفاضل بين القاعدتين منتهياً إلى اختيار إحداهما لتطبيقها على النزاع المطروح أمامه، وتفرض الأصول القانونية الصحيحة على القاضي أن يختار النص الأعلى ويطبقه، ألا وهو النص الدستوري، كما لو تعارضت لائحة مع قانون عادي كان الاعتداد بالقانون على اعتبار علوه في المرتبة التشريعية على اللائحة وفقاً لمبدأ تدرج التشريعات.
ولقد كان هذا المنطق هو الأساس الذي شيد عليه القاضي مارشال رئيس المحكمة الاتحادية العليا في الولايات المتحدة الأمريكية حكمه الشهير في قضية ماربوري ضد ماديسون عام 1803؛ ويعد هذا الحكم أساس تقرير حق القضاء في النظر في دستورية القوانين، إعمالاً لمبدأ تدرج القواعد القانونية(43).
المطلب الثاني
موقف القضاء من الرقابة على دستورية القوانين
يقول الأستاذ الدكتور الشافعي أبو راس في كتابه القيم: القانون الدستوري، دراسة تأصيلية في النظرية العامة:
[باستقراء أحكام المحاكم في مصر، في المدة التي تلي صدور دستور 1923 حتى صدور القانون رقم 81 لسنة 1969، الذي عقد ولاية مراقبة دستورية القوانين للمحكمة العليا، يمكن القول بأن اتجاهات القضاء في موضوع اختصاص القضاء بنظر دستورية القوانين و بحثها ، قد مر بأطوار ثلاثة، أول هذه الأطوار قد شغل الفترة التي بدأت بصدور دستور 1923 حتى أول مايو 1941 تاريخ صدور حكم محكمة مصر الابتدائية الأهلية ، حيث مثل هذا الحكم بداية تطور جديد، انتهى بصدور حكم محكمة القضاء الإداري في 10 فبراير 1948 معلنا مولدالاتجاه والتطور الثالث].
ومن خلاله العرض السابق نستطيع القول بأن المرحلتين الأولي الثانية يمثلهما القضاء العادي أما المرحلة الثالثة فيمثلها القضاء الإداري، وبالتالي ينقسم هذا المطلب إلى فرعين:
الفرع الأول: موقف القضاء العادي:
كان موقف القضاء العادي في هذه المرحلة هو موقف المتحسس الذي يتهيب الدخول في أية صراعات حول المسألة المثارة أو حسمها لصالح تقرير حق القضاء في الرقابة على دستورية القوانين أو عدم تقريرها ويمكن القول أن القضاء العادي كانت تلك المرحلة بالنسبة له هي مرحلة البدايات أو الإرهاصات المبشرة دون حسم.
ويعتبر حكم محكمة جنايات الإسكندرية الصادر في 16 أكتوبر عام 1924 من أول أحكام هذه المرحلة وأصدقها إعلاناً عن ملامحها. فقد كان المتهمون المقدمون للمحاكمة أمامها قد طعنوا في دستورية مواد الاتهام 151/ 2، 3 عقوبات والمعدلة بالقانون رقم 37 لسنة 1942، وقضت محكمة الجنايات بالإدانة ومن ثم طعن المتهمون في هذا الحكم عن طريق النقض وكرروا طعنهم بعدم دستورية مواد الاتهام لمخالفتها للمادة 14 من دستور 1923 والتي تكفل حرية الرأي والمادة 164 من الدستور والتي ترسم إجراءات محددة لصدور القوانين لم تتبع في إصدار القانون 37 لسنة 1923 المعدل لمواد الاتهام؛ غير أن محكمة النقض رفضت الطعن على أساس أن ما ذهبت إليه محكمة الجنايات في حكمها المطعون فيه من أن: "القانون رقم 37 لسنة 1923 المعدل للمادة 151 عقوبات صدر من الجهة التي لها ولاية التشريع وقت صدوره، ولم يأت نص في الدستور مانع لتنفيذه أو معلق له إلى الوقت الذي ينظره فيه البرلمان، ومن ثم فأحكامه لا يمكن تعطيلها إلا بقانون آخر ينسخها، كما أن المادة 151 سابقة الذكر لم تكن مخالفة لأحكام الدستور، لأن حرية الرأي المكفولة بالدستور يجب أن تكون في حدود القانون، كما نصت على ذلك المادة 14 من الدستور. ومن ثم يكون الحكم الطعين سليم من الناحية القانونية ويتعين رفض الطعن عليه(44).
وإذا كانت محكمة الجنايات ومن بعدها محكمة النقض، قد تعرضتا لصعوبة مسألة حق القضاء في الرقابة على دستورية القوانين، واستظهرتا أن القانونالمطعون فيه متطابق مع الدستور في إجراءات صدوره وفي مضمونه، وانتهتا من ذلك إلى وجوب احترامه وتطبيقه، فإن الفقه لم يعتبر هذا القضاء حاسماً في تقرير حق القضاء في مراقبة دستورية القوانين، ذلك أن الظروف ساقت دعوى كان القانون المطعون في دستوريته فيها سليماً ودستورياً، ومن ثم فإنه لم يكن واضحاً اتجاه المحكمة في هذا الشأن(45).
ويواصل د/ الشافعي أبو راس في كتابه ومن هذا القبيل أيضاً حكم محكمة تلا الجزئية في 3 يناير عام 1926. حيث تتلخص وقائع الدعوى في أنه في عام 1925 أصدرت الوزارة في غيبة البرلمان تعديلاً في قانون الانتخاب، واستناداً إلى هذا التعديل أصدرت وزارة الداخلية "المنشور نمرة 1 انتخابات" فرفض بعض العمد تنفيذه وأضربوا عن استلام دفاتر الانتخابات كما أضربوا كذلك عن العمل. فقامت النيابة العامة بتقديمهم للمحاكمة الجنائية بتهمة عدم تنفيذ الأوامر الصادرة لهم من رؤسائهم طبقاً للائحة العمد.
وقد دفع المتهمون أمام المحكمة بعدم دستورية القانون المعدل للانتخابات، ومن ثم يكون المنشور الصادر إليهم بالاستناد عليه، غير مشروع؛ وبالتالي فهم غير ملتزمين باحترام أو تنفيذ أوامر غير مشروعة ولقد لمست المحكمة المشكلة مساً خفيفاً؛ وخرجت من الأزمة بحيلة أعفتها من ضرورة التعرض لموضوع مدى ولاية القضاء في مراقبة دستورية القوانين، وتمثل هذا المخرج فيما انتهت إليه المحكمة بأن "قانون الانتخاب ليس هو المطلوب تطبيقه في هذه القضية، إذ لا يحاكم العمد على مخالفة قانون الانتخاب بل لمخالفتهم لأمر صادر من وزارة الداخلية، وهو المنشور نمرة (1) انتخابات الواجب عليهم طاعته في تأدية وظيفتهم طبقاً للائحة العمد، فلا محل إذن للبحث في دستورية قانون الانتخاب الصادر في 8 ديسمبر 1925"(46).
على أن محكمة مصر الابتدائية الأهلية قد كانت أكثر وضوحاً وحسماً في تقرير ولاية القضاء وكامل صلاحيته في مراقبة دستورية القوانين، كما أظهر حكمها الصادر في أول مايو 1941 عن وجود تيارين قضائيين أولهما مع حق القضاء في مراقبة دستورية القوانين ومنه الحكم المشار إليه، وثانيهما يرى أنه ليس أمام القاضي إلا تطبيق القانون ومثل هذا التيار حكم محكمة استئناف مصر الأهلية القاضي بإلغاء الحكم الأول.
وقد ساق الدكتور الشافعي أبو راس مقتطفات من الحكمين لبيان أسانيد كلا منهما وذلك على النحو التالي:
1/ حكم محكمة مصر الابتدائية الأهلية:
قالت المحكمة في حكمها القاضي بحقها في مراقبة دستورية القوانين [وحيث أن الدستور المصري يقوم على مبدأ الفصل بين السلطات الثلاث التشريعية والقضائية والتنفيذية عن بعضها واستقلال كل منهما عن الأخرى، فلكل منها تمام السيادة في حدود اختصاصها إلا أنها جميعاً مقيدة بالنظام الدستوري الذي أوجدها، ومنه تستمد سلطاتها، وليس لها أن تخرج عليه أو أن تعارضه طبقاً للمادة الثالثة والعشرين التي تنص على أن: "جميع السلطات مصدرها الأمة واستعمالها يكون على الوجه المبين بهذا الدستور". فإذا اعتدت السلطة التشريعية على أحكامه فليس لها أن تجبر السلطة القضائية على الاشتراك معها في هذا الاعتداء، مادامت هذه بدورها مستقلة في حدود اختصاصاتها، والقاضي يختص بإيجاد الحل القانوني للمنازعات المطروحة أمامه وهو مقيد في حكمه بقوانين البلاد العادية. كما أنه مقيد أيضاً بالقانون الأساسي للدولة، وهو أسمى القوانين جميعها، فإذا ما تعارض القانون العادي مع الدستور فواجب القاضي في هذه الحالة، يحتم عليه ترجيح النص الدستوري على القانون العادي، وتطبيق الأول وإهمال الثاني، ولا يخرج بذلك عن اختصاصه، فهو لا يلغي القانون، وإنما يطبق القانون الأعلى الواجب التطبيق، ثم هو لا يفتأت على السلطة التشريعية وإنما يقوم بوظيفته التي تتطلب منه أن يبين القانون الواجب التطبيق في النزاع المطروح عليه]. ثم استعرض الحكم آراء الفقهاء التي تساند رأيه واستشهد بأحكام قضائية، ومن ثم انتهى إلى تقرير مبدأ حق المحاكم في الرقابة على دستورية القوانين بقوله "وحيث أنه يستخلص مما تقدم أن للمحاكم مطلق الحرية في بحث دستورية القانون المطلوب منها تطبيقه، وإذا اقتنعت بمخالفته لأحكام الدستور شكلاً وموضوعاً، فلها أن تمتنع عن تطبيقه على النزاع المطروح أمامها".
ومن الواضح هنا أن الحديث عن الرقابة القضائية على دستورية القوانين عن طريق الدفع بعدم الدستورية أمام أية محكمة ودون حاجة للنص عليه في الدستور.
2/ حكم محكمة استئناف مصر الأهلية:
وعلى عكس حكم محكمة مصر الابتدائية الأهلية صدر حكم محكمة الاستئناف القاضي بإلغاء الحكم السابق، والذي أكد على عدم أحقية المحاكم في بحث مسألة دستورية القوانين واستندت إلى ما يلي طبقاً لمنطوق حكمها:
أ/ تقول المحكمة "إن المحاكم غير مختصة بالفصل في دستورية القوانين وعدم دستوريتها إلا من حيث الشكل، وعليها أن تتحقق من أن الأوضاع الشكلية التي يتطلبها الدستور لنفاذ القانون المطلوب منها تطبيقه قد استوفيت فإذا ما تحقق لديها ذلك وجب عليها تطبيقه دون البحث في مطابقته أو عدم مطابقته للمبادئ المقررة في الدستور نصاً أو روحاً، وذلك لأن مبدأ الفصل بين السلطات مقرر في الدستور المصري بما يستتبعه ذلك من استقلال كل سلطة في عملها عن غيرها من السلطات وعدم خضوعها لمراقبتها وإشرافها.
ب/ وتواصل المحكمة أسانيدها بالقول "وحيث أن الدستور إذ نص على أن السلطة التشريعية يتولاها الملك بالاشتراك مع مجلس الشيوخ والنواب فإنه يكون قد اختص هذه السلطة وحدها بالأعمال التشريعية، ولا شك أن من واجبات هذه السلطة قبل إصدار تشريع ما أن تتحقق من مطابقته لنصوص الدستور وروحه عملاً بالمادة 23 من الدستور، وما دام هذا البحث هو من اختصاصات تلك السلطة فليس للمحاكم مراقبتها فيه وإعادة بحث القانون بعد صدوره لمعرفة ما إذا كان منطبقاً على نص الدستور أو مخالفاً للمبادئ المقررة فيه، وإلا كانت المحاكم خارجة عن حدود اختصاصها ومتداخلة في أعمال السلطة التشريعية".
ج/ وترد المحكمة على الحكم الذي ألغته بقولها: "وليس فيما تقدم إجبار للمحاكم على الاشتراك في الاعتداء على الدستور إذا ما طبقت قانوناً دفع أمامها بأنه صدر مخالفاً لمبادئه مع التسليم جدلاً بصحة ذلك الدفع، لأن في تطبيقها هذا تنفيذاً لنصوص الدستور الذي حدد سلطاتها وقصرها على تنفيذ القوانين التي تصدر مستوفية للشكل الذي نص عليه".
كما أن للقضاء الجنائي المختلط رأي في شأن الدفع بعدم دستورية القانون وذلك في الحكم الصادر من محكمة الجنايات المختلطة في 9/12/1948، إذ حدث أن اتهمت امرأة أجنبية من قبل النيابة العامة بالترويج للشيوعية عن طريق الدعوة للمذاهب الماركسية وأدانتها النيابة العامة بالمادة 98 فقرة 3 من قانون العقوبات والصادرة بالمرسوم بقانون رقم 117 لسنة 1946 والمعدل لها، وقد دفع بعدم دستورية ذلك المرسوم لأنه لم يعقب صدوره دعوة البرلمان لانعقاد غير عادي للنظر في ولذلك يسقط مفعوله تطبيقاً للمادة 41 من دستـور 1923، وقد بحثت محكمة الجنايات هذا الدفع ورفضته لأسباب ذكرتها، ملخصها: أن القانون المشار إليه يعتبر نافذ بالرضاء والضمني للبرلمان إذ عرض المرسوم على البرلمان في دورته العامة فلم يقره ولم يرفضه، وقررت المحكمة في حيثيات حكمها أنها لا تريد الدخول في النزاع القائم في فرنسا وفي مصر حول حق القضاء في بحث دستورية القوانين، وأكدت على أن كل ما تملكه في هذا الشأن هو التحقق مما إذا كانت الشروط الشكلية لوجود القانون في ذاته قد توافرت من عدمه وذلك من حيث الاقتراع على القانون وإصداره ونشره ومن حيث الشروط اللازمة لوجوده إذا صدر في غيبة البرلمان(47).
وهكذا يظهر لنا مما سلف أن الوضع حتى سنة 1948 ظل بالنسبة لرقابة دستورية القوانين متأرجحا بين المحاكم المصرية، البعض يقرها والبعض الآخر يرفضها، ومحكمة النقض ترفض حسم المسألة برأي قاطع رغم عرضها عليها أكثر من مرة ولم يقر القضاء العـادي رقابـة دستـورية القوانين إلا اقتداء بالقضاء الإداري على نحو ما سنعرض له حالاً(48).
الفرع الثاني: موقف القضاء الإداري:
أنشأ القضاء الإداري في مصر بموجب القانون رقم 112 لسنة 1946 بشأن مجلس الدولة في مصر، وقد عرضت مسألة رقابة المحاكم على دستورية القوانين في القضية رقم 65 لسنة 1 قضائية وأصدرت المحكمة حكمها في هذه القضية يوم 10 فبراير 1948 مقرراً بوضوح وحسم أن لمجلس الدولة ولجميع المحاكم المصرية كامل الولاية في مراقبة دستورية القوانين، ولهذا الحكم في مصر ذات الأثر والقوة لحكم القاضي الأمريكي مارشال في قضية ماربوري ضد ماديسون سنة 1803، وصدر الحكم من الدائرة الأولى لمحكمة القضاء الإداري برئاسة الأستاذ/ محمد كامل مرسي باشا وعضوية المستشارين: زكي الأبوتيجي، والسيد علي السيد، ومحمد علي راتب، ومحمد سامي مازن.
وقد لخص الدكتور ثروت بدوي المبادئ والحجج التي صاغها هذا الحكم الفذ بقوله:
استقر القضاء على تقرير حق القضاء في مراقبة دستورية القوانين منذ صدور حكم محكمة القضاء الإداري في 10/2/1948 الذي تقرر فيه ما يلي:
1- ليس في القانون المصري ما يمنع المحاكم المصرية من التصدي لبحث دستورية القوانين ولا المراسيم بقوانين سواء من ناحية الشكل أو الموضوع أما القول بأن في هذا التصدي إهداراً لمبدأ الفصل بين السلطات بتدخل السلطة القضائية في عمل السلطة التشريعية بما يعطل تنفيذه، فإنه يقوم على حجة داحضة، إذ على العكس من ذلك فإن في هذا التصدي إعمال لهذا المبدأ ووضعاً للأمور في نصابها الدستوري الصحيح بما يؤكده ويثبته.
2- إن الدستور المصري إذ قرر مبدأ فصل السلطات ضمناً حين حدد لكل سلطة من السلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية، المجال الذي تعمل فيه، قد قرنه بمبدأ آخر ضمناً وجعله متلازماً معه حين قرر في المادة 23 منه أن استعمال السلطات يكون على الوجه المبين بالدستور، وبذلك جعل استعمال السلطات لوظائفها ينتظمه دائماً تعاون متبادل بينهما على أساس احترام كل منها للمبادئ التي قررها الدستور.
3- إن الدستور المصري إذ قرر في المادة 30 منه أن السلطة القضائية تتولاها المحاكم، فإنه قد ناط بها مهمة تفسير القوانين وتطبيقها فيما يعرض عليها من شتى المنازعات. ويتفرع عن ذلك أنها تملك الفصل عن تعارض القوانين في أيهما الواجب التطبيق، إذ لا يعدو هذا التعارض أن يكون صعوبة قانونية مما يتولد من المنازعة فتشملها سلطة المحكمة في التقدير وفي الفصل، لأن قاضي الأصل هو قاضي الفرع.
4- إن الأمر الملكي رقم 42 لسنة 1923 بشأن وضع نظام دستوري للدولة المصرية، هو أحد القوانين التي يجب على المحاكم تطبيقها، ولكنه يتميز عن سائر القوانين بما له من طبيعة خاصة تضفي عليه صفة العلو، وتسمه بالسيادة بحسبانه كفيل الحريات وموئلها ومناط الحياة الدستورية، ونظام عقدها.
5- أما في حالة تعارض قانون عادي مع الدستور في منازعة من المنازعات التي تطرح على المحاكم فإنه يجب عليها بحكم وظيفتها القضائية أن تتصدى لهذه الصعوبة وأن تفصل فيها على مقتضى أصول هذه الوظيفة وفي حدودها الدستورية المرسومة لها، ولا ريب في أنه يتعين عليها عند قيام هذا التعارض أن تطرح القانون العادي وتهمله وتغلب عليه الدستور وتطبقه بحسبانه القانون الأعلى الأجدر بالاتباع. وهي في ذلك لا تعتدي على السلطة التشريعية مادامت المحكمة لا تضع بنفسها قانوناً ولا تقضي بإلغاء قانون ولا تأمر بوقف تنفيذه، وغاية الأمر أنها تفاضل بين قانونين قد تعارضا فتفصل في هذه الصعوبة وتقرر أيهما الأولى بالتطبيق.
6- إن الدستور المصري قد ردد تلك البداهة القانونية الواردة في المادة 167 منه، حين جعل نفاذ أحكام القوانين السابقة عليه رهيناً بأن تكون متفقة مع أحكامه، وغني عن البيان أن الخطاب في هذه المادة موجه إلى المحاكم التي قد يقوم لديها مثل هذا التعارض في التطبيق بين تلك القوانين وبين الدستور؛ ونلمح في هذا النص دلالة مزدوجة: إذ حين أناط بالمحاكم مطابقة تلك القوانين للدستور فإنه قد اعتبر أن حقها في هذا البحث من المسلمات، كما أنه أكد سيادة الدستور العليا إذا ما تعارض مع القوانين العادية(49).
وبصدور هذا الحكم التاريخي انتهى الخلاف بين المحاكم المصرية واستقر قضائياً حق المحاكم في الرقابة على دستورية القوانين، فقضت الإدارية العليا أنه "ليس في القانون المصري ما يمنع القضاء من التصدي لبحث دستورية القوانين مادامت رقابته لهذه الدستورية تجد حدها في نطاق تطبيق أو استبعاد القانون دون الحكم بإلغائه أو وقف تنفيذه(50)". وقضت كذلك محكمة النقض بأنه جرى قضاء محكمة النقض بأن الدستور هو القانون الوضعي الأسمى، صاحب الصدارة، فكان على ما دونه من التشريعات النزول عند أحكامه، فإذا ما تعارضت هذه وتلك وجب التزام أحكام الدستور وإهدار ما سواها".
وعلينا قبل إنهاء هذا المبحث أن تقرر إنه إذا كان حكم محكمة القضاء الإداري هو الذي أرخ لبداية تقرير حق المحاكم في الرقابة على دستورية القوانين في مصر وحسم كل خلاف قضائي أو فقهي حول هذه المسألة، فإن حكم محكمة مصر الابتدائية الأهلية هو صاحب الصدارة في هذا الصدد وهو حكم تاريخي لم تتوفر له الظروف المناسبة لأن يكون حاسماً لذلك المبدأ خاصة مع إلغائه عن طريق محكمة استئناف مصر ولأهمية هذا الحكم نجتزأ الآتي من حيثياته:
"إن مبدأ فصل السلطات لا يمنع المحاكم من بحث دستورية القوانين بل ربما كان الأخذ بهذا الرأي نتيجة حتمية وطبيعة منطقية كما قال بارتلمي- وبحق- لمبدأ فصل السلطات؛ إذ يستحيل على السلطة القضائية أن تحافظ على استقلالها إلا إذا اقتنعت بأن القانون الذي ستطبقه هو قانون صحيح مستوف لشرائط القانون الدستوري، وهو بذلك الموئل الأكبر لضمان الحريات الشخصية وحيث إن المادة (15) من لائحة ترتيب المحاكم الأهلية لا تصلح أساساً لتدعيم الرأي القائل بمنع المحاكم من الفصل في دستورية القوانين لأن هذه المادة تبيح للمحاكم البحث في مشروعية الأوامر الإدارية فهي تبيح لها بطريق القياس هذا الحق بالنسبة لدستورية القوانين، وهي على كل حال خالية من أي نص يمنع المحاكم من استعمال هذا الحق الأخير، وكل ما فيها أنها تحظر على المحاكم تأويل الأوامر الإدارية أو إيقاف تنفيذها، ولكنها في الوقت نفسه تخولها السلطة في تعويض المضرور من تنفيذ هذه الأعمال المخالفة للقانون. وقد اتجهت المحاكم إلى التحلل من هذا الحظر فقضت محكمة مصر للأمور المستعجلة بتاريخ 8 ديسمبر 1938 في قضية مزرعة الجبل الأخضر (مجلة المحاماة ق 19 ص 57) أن العمل الإداري الذي لا تشوبه شائبة من إحدى نواحيه القانونية هو الذي يستفيد وحده من الحصانة الإدارية المقررة بالمادة (15) من لائحة ترتيب المحاكم الأهلية فلا يقبل نقداً قضائياً ولا يؤول معناه أو يوقف تنفيذه بطريق مباشر أو غير مباشر. أما العمل الإداري غير الحقيقي- أي العمل الاستبدادي فإنه يخرج في هذه الحالة عن حظيرة الأعمال الإدارية، وهو عمل باطل لا تحميه مطلقاً الحصانة الإدارية وتسري عليه أصول القانون من الوجهة العامة فيجوز إلغاؤه أو إيقاف تنفيذه واستخدام الوسائل القانونية المعروفة لتعطيله، كحالة ما إذا كان قد جاء مخالفاً للقانون مخالفة صارخة في جميع نواحيه نصاً وغرضاً فيجوز للفرد المضرور منه الالتجاء إلى المحاكم القضائية في هذه الحالة للحكم بإلغاء العمل الإداري باعتباره تعدياً على حقوق والحيلولة دون نفاذه، والحظر المشار إليه قاصر على الأوامر الإدارية لأسباب تتصل بحسن سير الإدارة الحكومية فلا يتعداها إلى القوانين لعدم النص ولانعدام المقتضى وللمحاكم- إذا اقتنعت في بحثها بعدم دستورية أي قانون- ألا تتقيد به وأن تطبق النص الدستوري دونه وليس في القانون ما يحول بينها وبين استعمال هذا الحق، وحيث أنه يستخلص مما تقدم أن للمحاكم مطلق الحرية بحث في دستورية القانون المطلوب منها تطبيقه وإذا اقتنعت بمخالفته لأحكام الدستور شكلاً وموضوعاً فلها أن تمتنع عن تطبيقه على النزاع المطروح أمامها(52)".
المبحث الثاني
الرقابة على دستورية القوانين في ظل المحكمة العليا
تمهيد:
استقر القضاء على أن له كامل الولاية والصلاحية في مراقبة دستورية القوانين في مصر خاصة بعد صدور حكم محكمة القضاء الإداري في 10 فبراير 1948، ولكنها كانت رقابة امتناع عن تطبيق القانون وإهمال وليس رقابة إلغاء، ومن ثم بقاء القانون وإمكان قيام محاكم بتطبيقه ومحاكم أخرى تمتنع عن تطبيقه، بمعنى أن ذات القانون يعتبر دستوري في وجهة نظر طائفة من القضاء، وغير دستوري بالنسبة للبعض الآخر؛ وفي هذا المعنى تقول المحكمة الإدارية العليا في أحد أحكامها "إن ولاية المحاكم في رقابتها لدستورية القوانين كانت مقصورة على الامتناع عن تطبيق القانون المخالف للدستور، ولم يكن قضاؤها في موضوع دستورية القوانين ملزماً لها ولا لغيرها من المحاكم، وكان لها ولغيرها أن تعدل عن رأيها السابق في مدى دستورية القانون محل الطعن، فكان القانون يعتبر في أن واحد، دستـورياً تطبقـه بعض المحاكم، وغير دستوري فتمتنع عن تطبيقه محاكم أخرى(53)".
ويترتب على هذا الوضع تناقضاً غير مقبول لدى الفكر القانوني، قد يؤدي إلى زعزعة الثقة في القانون وفي القضاء على حد سواء، ومن ثم فقيام المشرع بإصدار القانون رقم 81 لسنة 1969 بإنشاء المحكمة عد تتويجاً للنضال الفقهي والقانوني السابق عليها؛ ولكن قد تبدو الأمور أكثر وضوحاً لو علمنا ظروف إنشاء المحكمة العليا والغرض منها وكيفية تشكيل المحكمة واختصاصاتها ونماذج من أحكامها؛ وهذا ما سنتناوله بالبيان في المطالب التالية:
المطلب الأول
ظروف إنشاء المحكمة العليا
لكي نتمكن من فهم أي قانون فهماً صحيحاً يتوجب علينا بحث الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي أفرزته، هذه ناحية، حيث أن أي قانون هو وليد مجموعة الظروف السائدة في عصره، كما يأتي معبراً عن موازين القوى والاتجاهات الفكرية في بلد ما في زمن معين، ومن ناحية أخرى يتوجب علينا بحث حزمة القوانين الصادرة في ذات البلد في الزمن المعاصر للقانون المراد بحثه، حيث تعبر هذه القوانين عن اتجاهات السلطات ورغباتها السياسية أو الاجتماعية التي تريد تحقيقها بواسطة الأداة التشريعية؛ فالقانون هو الوسيلة التي تحقق بها السلطات ما تريد في جميعمناحي الحياة.
وبوضع القانون رقم 81 لسنة 1969 بشأن المحكمة العليا محل البحث في ضوء ما سبق نجد الآتي:
1/ كان لموقف القضاء بفرعية العادي والإداري والمقرر لحق المحاكم في التصدي لمسألة الرقابة على دستورية القوانين الأثر الأكبر في قيام لجنة الخمسين المنوط بها وضع دستور دائم لمصر عام 1954 في تضمين مشروعها نصوصاً تتضمن تنظيماً دستورياً للرقابة القضائية على دستورية القوانين عبر محكمة دستورية متخصصة، غير أنه لظروف العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 ثم ظروف الوحدة مع سوريا عام 1958 ثم الانفصال حالت دون تمام هذا المشروع وإصداره في دستوري 1956، و 1958.
2/ نص ميثاق العمل الوطني الصادر في 30 يوليو 1962 على ما يؤكد إقرار الرقابة على دستورية القوانين، بقوله "ضرورة أن تقام كل الضمانات الكفيلة بسيادة القانون بحيث يصدر طبقاً للدستور، ومن ثم فقد أصبح ملائماً تقديراً للحرية ودعماً لها أن يتقرر إنشاء محكمة دستورية عليا، يحدد الدستور الجديد طريقة تشكيلها واختصاصها". وذات الأمر نجده في سياق بيان 30 مارس 1968 والذي ألقاه عبد الناصر في أعقاب يونيو 1967 وما تبعها من أمور انعكست على جميع الأمور السياسية وغير السياسية في مصر.
3/ ولعل ما سبق عرضه قد دفع بعض الفقهاء إلى القول أن ما انتهى إليه القرار بقانون رقم 81 لسنة 1969 من الرقابة على دستورية القوانين، كان تطوراً طبيعياً للإرهاصات السابقة والمتمثلة في أحكام القضاء ونصوص مشروع دستور 1954 (لم يصدر) ونصوص ميثاق العمل وصياغة بيان 30 مارس، بما يتوجب معه إنشاء محكمة دستورية احتراماً وضماناً لمبدأ سيادة القانون وحماية للحريات (54).
4/ غير أن الظروف التي أحاطت بصدور القرار بقانون المذكور لا تؤيد هذا الرأي، وذلك أنه بعد هزيمة يونيو 1967 وضعف النظام بدأ صوت المعارضة يرتفع، ورداً على ذلك بدأت الحكومة تحاول الحد من هذه المعارضة على كافة المستويات. وبالنسبة للقضاء بدأت الحكومة تسرع في خطواتها نحو إدخال القضاة إلى الاتحاد الاشتراكي، وفصل النيابة عن القضاء، وتبني نظام القضاء الشعبي. وقد وقف القضاة في وجه محاولات السلطة التنفيذية، واصدروا بياناً في 28/3/1968 يعارضون فيه اتجاه الحكومة(55)، ولم تفلح محاولات الحكومة مع القضاة لتأجيل إصدار بيانهم لما بعد بيان السيد رئيس الجمهورية(56)، وتصاعدت الأزمة بين رجال القضاة والسلطة بمناسبة انتخابات مجلس إدارة نادي القضاة في 31/3/1969 والتي فاز فيها المناصرون لبيان 28 مارس 1969 بجميع مقاعد مجلس الإدارة، ومن ثم فقد اتخذت السلطة إجراءاً عنيفاً ضد القضاة تمثل في إصدار القرار بقانون رقم 83 لسنة 1969 بإعادة تشكيل الهيئات القضائية(57). وهم ما يعرف بمذبحة القضاة حيث شكلت لجنة ضمت كلاً من السيد/ محمد أنور السادات والسيد جمال العطيفي عام 1969 وتولت تحديد أسماء القضاة الذين تم عزلهم بواسطة القانون سالف الذكر، كما صدر القانون رقم 84 لسنة 1969 بحل مجلس إدارة نادي القضاة المنتخب كعقاب له على معارضته للنظام الحاكم وعدم تأجيل بيان القضاة لما بعد بيان رئيس الجمهورية.
وإذا كان القانونان المذكوران آنفاً قد مثلا اعتداءً صارخاً على السلطة القضائية فإن النظام أصدر معها قوانين أخرى بدت كأنها تعمل لصالح السلطة القضائية وتدعيمها- وهو دأب المشرع المصري عند إصدار أي قانون يقيد من حرية أو يهدر مبدأً فهو يصدر معه آخر بعطي بعض المكاسب، لينسي الناس هذا بذاك- فصدر القانون رقم 86 لسنة 1969 بتعديل أحكام قانون مجلس الدولة وإنشاء قسم التشريع به، والقانون 82 لسنة 1969 بإنشاء المجلس الأعلى للهيئات القضائية للتنسيق بين جميع الهيئات القضائية، وكذلك صدر القانون محل البحث رقم 81 لسنة 1969 بشأن إنشاء المحكمة العليا لمراقبة دستورية القوانين.
وخلاصة القول إن إنشاء المحكمة العليا بالقرار رقم 81 لسنة 1969 لم يكن قناعة من السلطة بأهمية وجود محكمة متخصصة للفصل في دستورية القوانين وإنما صدر هذا القانون لأسباب محددة هي:
أ/ قطع الطريق على المحاكم الإدارية والعادية في بحث دستورية القوانين وجعله من اختصاص محكمة واحدة تهيمن عليها السلطة التنفيذية.
ب/ التغطية على القرارات بقوانين التي استهدفت من ورائها إقصاء ما يقرب من مائتي مستشار بحجة عدم تعاونهم التعاون الكافي مع السلطات القائمة.
ج/ كان الغرض من هذه المحكمة أن تكون أداة في يد السلطة تحقق بها أغراضها السياسية ومن ثم بسط ولاية هذه المحكمة لتكون المحكمة العليا في النظام القضائي المصري ومنحها اختصاصات واسعة تمكنها من أداء هذا الدور.
ولعل ما طرحناه آنفاً يكن أكثر وضوحاً إذا استعرضنا تشكيل المحكمة العليا واختصاصها.
المطلب الثاني
تشكيل المحكمة العليا
تنص المادة رقم (1) من قانون إنشاء المحكمة العليا على أن المحكمة هي الهيئة القضائية العربية المتحدة، وتنص المادة الثانية منه على أن: يصدر أول تشكيل للمحكمة العليا بقرار من رئيس الجمهورية ويتضمن تعيين رئيس المحكمة ونوابه والمستشارين دون تقيد بإجراءات التعيين أو قواعد الأقدمية.
كما نصت المادة الثالثة من القانون سالف الذكر على أن: المحكمة تتكون من رئيس ومن نائب أو أكثر وعدد كاف من المستشارين، وتنص المادة السابعة على أن: يعين رئيس المحكمة بقرار من رئيس الجمهورية، من بين أعضاء الحكمة العليا أو من غيرهم، ويجوز تعيين رئيس المحكمة دون التقيد بسن التقاعد، ويكون تعيين نواب رئيس المحكمة ومستشاريها بقرار من رئيس الجمهورية بعد أخذ رأي المجلس الأعلى للهيئات القضائية ويكون تعيين الرئيس ونوابه والمستشارين لمدة ثلاث سنوات قابلة للتجديد، مع ملاحظة أن المجلس الأعلى للهيئات القضائية يتكون من الآتي أسماءهم وفقاً لنص القرار بقانون 82/ 1969 (م3).
1/ رئيس الجمهورية رئيساً
2/ وزير العدل نائباً للرئيس
3/ رئيس المحكمة العليا
4/ رئيس محكمة النقض
5/ رئيس المحكمة الإدارية العليا
6/ رئيس محكمة استئناف القاهرة
7/ النائب العام
8/ رئيس هيئة قضايا الدولة
9/ رئيس النيابة الإدارية
10/ أقدم نواب رئيس محكمة استئناف القاهرة
11/ رئيس محكمة القاهرة الابتدائية
ويقول د/ يحيى الجمل في تعليقه على طريقة تشكيل المحكمة:
عهد قانون المحكمة إلى رئيس الجمهورية مهمة اختيار وتعيين رئيس المحكمة ومستشاريها وبذلك تنفرد السلطات التنفيذية، بل قمة هذه السلطة باختيار وتعيين أعضاء هذه- هذه المحكمة التي يفترض فيها أنها تراقب سلطات الدولة الأخرى كي تردها إلى جادة الدستور، وهذه طريقة معيبة ولا توفر أي قدر من الاستقلال لأعضاء المحكمة. أضف إلى ذلك أن مدة ولاية أعضاء المحكمة هي ثلاث سنوات قابلة للتجديد وهي مدة قصيرة جداً مما يفقد المحكمة الاستقلال الحقيقي حتى وإن نص القانون على استقلاليتها وعدم قابلية قضاتها للعزل، ذلك انهم في الحقيقة معرضون لنوع من العزل الدوري كل ثلاث سنوات(58).
كما أن موضوع السنوات الثلاث قصد به تسليط سيف على أعضاء المحكمة لتكون أعينهم دائماً في أي نزاع مطروح أمامهم على رغبات السلطة التنفيذية.
وأخذ رأي المجلس الأعلى للهيئات القضائية في أمر تعيين نواب الرئيس ومستشاري المحكمة هو أيضاً أمر مخل باستقلال المحكمة كون هذا المجلس ووفقاً لتشكيله هو هيئة تسيطر عليها السلطة التنفيذية.
ونصت المادة السادسة من قانون المحكمة العليا على أنه: يشترط فيمن يعين مستشاراً بالمحكمة العليا أن تتوافر فيه الشروط العامة اللازمة لتولي القضاء طبقاً لأحكام قانون السلطة القضائية وألا يقل سنه عن ثلاثة وأربعين سنة ميلادية، ويكون اختيار مستشاري المحكمة من بين الفئات الآتية:
أ/ المستشارين الحاليين أو من في درجتهم من أعضاء الهيئات القضائية المختلفة ممن أمضوا في وظيفة مستشار أو ما يعادلها مدة ثلاث سنوات على الأقل.
ب/ ممن سبق لهم شغل وظيفة مستشار أو ما يعادلها في الهيئات القضائية لمدة ثلاث سنوات على الأقل.
ج/ المشتغلين بتدريس القانون بجامعات الجمهورية العربية المتحدة في وظيفة أستاذ لمدة ثماني سنوات على الأقل.
د/ المحامين الذين اشتغلوا أمام محكمة النقض أو المحكمة الإدارية العليا لمدة ثمان سنوات.
فإذا كان هذا هو تشكيل المحكمة، فإنه تثور حوله بعض الملاحظات أوردها وفصلها د/هشام محمد فوزي في كتابه رقابة دستورية القوانين:
1/ لم يتم تحديد عدد أعضاء المحكمة، وهذا يمنح السلطة السياسية فرصة إنقاص العدد أو زيادته لتحقيق أهداف سياسية؛ وكان من الأفضل تحديد أعضاء المحكمة عن طريق الدستور وألا يترك ذلك للقانون؟ فقد يحدث صدام بين الحكومة والمحكمة فستغل الأولى الأغلبية البرلمانية المؤيدة لها في البرلمان لمحاولة تعديل قانون المحكمة، وقد حدث شيء من هذا في عهد الرئيس الأمريكي روزفلت والأمر ذاته مع المحكمة الدستورية العليا في مصر عام 1998، وقد حدد كل من الدستور الإيطالي والسويسري عدد أعضاء المحكمة، وتحديد العدد في الدستور أقوى من تحديده في القانون، أما عدم تحديده في كليهما فهو معيب ويفتح الباب للأهواء وسيطرة السلطة التنفيذية.
2/ يرى د/محمد حسين عبد العال (59): أنه يجب تعيين أعضاء المحكمة العليا بواسطة السلطة القضائية وحدها في صورة المجلس الأعلى للهيئات القضائية، ويقرر أنه ليس هناك داعٍ للاستشهاد بتجارب الدول الأخرى، إذ أن التاريخ الدستوري المصري يظهر أن الخطر الحقيقي على احترام الدستور وسيادة القانون يكمن في السلطة التنفيذية التي دأبت الدساتير المصرية المتعاقبة- بما فيها دستور 1971- على جعل العديد من الاختصاصات لها بما يغريها على الخروج على الدستور والاعتداء على اختصاصات باقي السلطات.
3/ يعاب على قانون المحكمة العليا أنه جعل التعيين لمدة مؤقتة وهي ثلاث سنوات قابلة للتجديد؛ ومن ثم فيمكن عن طريق التجديد أو عدمه، التأثير على اتجاهات المحكمة. وفي هذا الصدد فإن قضاة المحكمة العليا في أمريكا يعينون مدى الحياة، أما في إيطاليا فيعينون لمدة تسع سنوات، ونرى أن الأسلوب الأمريكي أفضل لاستقلالية أعضاء المحكمة.
المطلب الثالث
اختصاصات المحكمة العليا
حددت المادة الرابعة من القانون 81 لسنة 1969 بشأن إنشاء المحكمة العليا، اختصاصات المحكمة فيما يلي:
أ/ الفصل في دستورية القوانين إذا دفع بعدم دستورية قانون أمام إحدى المحاكم.
ولا يعني ذلك أن كل دفع بعدم دستورية نص أو قانون، يستتبع وقف الدعوى الأصلية وإحالة الدفع إلى المحكمة العليا، وإنما لكل محكمة حق بحث هذا الدفع والتأكد من جديته وأن الفصل في مدى دستوريته لازم للفصل في الدعوى الأصلية، فإذا تأكدت المحكمة التي تبحث الموضوع مما تقدم فإنها تحدد موعداً يستطيع خلاله من دفع بعدم دستورية القانون أن يرفع دعواه أمام المحكمة العليا، فإن لم ترفع الدعوى في الميعاد الذي حددته محكمة الموضوع اعتبر الدفع كأن لم يكن. وبينت المذكرة الإيضاحية لقانون المحكمة العليا الحكمة من قصر هذا الاختصاص على المحكمة العليا بقولها "أن المشرع قصر ولاية الفصل في دستورية القوانين على المحكمة العليا دون سواها حتى لا يترك أمر البت في مسألة على هذا القدر من الخطورة للمحاكم على مختلف مستوياتها حسبما جرى عليه العرف القضائي في الجمهورية العربية المتحدة وحتى لا تتباين وجوه الرأي فيه".
ب- تفسير النصوص القانونية تفسيراً ملزماً:
وتقوم المحكمة بهذا الاختصاص عندما يطلب منها ذلك عن طريق وزير العدل، إذا رأى أن هناك نصاً غامضاً أو مختلف في تفسيره أو بسبب أهمية النص ذاته، ومن شأن هذا الاختصاص أن يرسي القواعد القانونية على أسس واضحة وثابتة وكذلك ضماناً لوحدة التطبيق القضائي والتفسير هنا ملزم في مواجهة جميع هيئات الدولة.
ج- الفصل في طلبات وقف تنفيذ الأحكام الصادرة من هيئات التحكيم المشكلة للفصل في منازعات الحكومة والقطاع العام:
وذلك متى كان من شأن تنفيذ هذه الأحكام الأضرار بالخطة الاقتصادية العامة للدولة أو الإخلال بسير المرافق العامة.
د- الفصل في تنازع الاختصاص بين جهات القضاء المختلفة:
وذلك سواء كان التنازع إيجابياً بمعنى أن تدعي كل جهة قضائية اختصاصها بنظر دعوى ما أو سلبياً بمعنى أن تدعي كل جهة قضائية بعدم اختصاصها بنظر الدعوى، وقد حلت المحكمة العليا في هذا الاختصاص محل محكمة تنازع الاختصاص التي كانت تشكل من أعضاء من محكمة النقض وأعضاء من المحكمة الإدارية العليا.
المطلب الرابع
اتجاهات المحكمة من خلال أحكامها
في الحقيقة لم يرد لهذه المحكمة أن تقوم بدور حقيقي كحارس طبيعي للحقوق والحريات، كما أسلفنا في موضعه، وبدأت المحكمة عملها بعد صدور القانون رقم 66 لسنة 1970 بشأن الإجراءات والرسوم أمام المحكمة العليا وذلك في 25 أغسطس 1970؛ ولكن الظروف السياسية التي أحاطت بالبلاد في هذه الفترة كانت سبباً مخلصاً للمحكمة مما أرادته الحكومة منها، حيث توفى الرئيس عبد الناصر وجرى صراع حول السلطة (عرف بثورة التصحيح) واتخذ النظام الجديد من الديمقراطية شعاراً له، بل وتضمن الدستور الدائم والصادر في 12 سبتمبر 1971 نصوصاً عديدة تحمي الحقوق والحريات، وكان ذلك كافياً للمحكمة العليا حتى تقوم بمهمتها الحقيقية النبيلة، غير أنها ونظراً للظروف السائدة، كانت تتحسس في أحكامها وتبالغ في حرصها.
ومن ثم فقد قضت في 35 دعوى قضائية دستورية- للفصل في دستورية نص قانوني- وذلك بدءً من جلسة 6 مارس 1971 حتى جلسة الأول من أبريل 1978، وذلك بجانب اختصاصاتها الأخرى، وقد تعرضت المحكمة لثلاث نقاط هامة في القضايا التي عرضت عليها وفصلت فيها وهي: أولاً: امتداد ولاية المحكمة لجميع التشريعات حتى تلك التي نص على تحصينها من الرقابة عليها، وقد قررت المحكمة امتداد ولايتها إلى جميع التشريعات التي سبقت وجودها حتى تلك التي نصت بعض الدساتير الثورية على تحصينها من الرقابة عليها وذلك في باكورة أحكامها وفي أول جلساتها التي عقدت يوم 6 مارس في القضية رقم 3 لسنة 1 ق. د.
وتقول المحكمة في هذا الحكم: [وحيث أن المادة 166 من الدستور المؤقت لعام 1964 تنص على أن "كل ما قررته القوانين والقرارات والأوامر واللوائح من أحكام قبل صدور هذا الدستور يبقى نافذاً، ومع ذلك يجوز إلغاؤها أو تعديلها وفقاً للقواعد والإجراءات المقررة في هذا الدستور "وقد تردد هذا النص بمدلوله ومعناه مع اختلاف يسير في صياغته في الدساتير المتعاقبة منذ دستور 1923 ومنها الدستور الصادر عام 1956 الذي تضمن نصين لكل منها مجال يختلف عن مجال الآخر، أولهما نص المادة 190 منه وهو مطابق لنص المادة 166 من الدستور الذي تقدم ذكره، والثاني نص المادة 191 الذي يقضي بأن "جميع القرارات التي صدرتمكملة أو منفذة لها وكذلك كل ما صدر من الهيئات التي أمر المجلس المذكور بتشكيلها من قرارات أو أحكام وجميع الإجراءات والأعمال والتصرفات التي صدرت من هذه الهيئات أو من أية هيئة أخرى من الهيئات التي أنشئت بقصد حماية الثورة ونظام الحكم لا يجوز الطعن فيها أو المطالبة بإلغائها أو التعويض عنها بأي وجه من الوجوه وأمام أي هيئة كانت "وظاهر من هذين النصين أن لكل منهما مجالاً يختلف عن مجال الآخر، وأن المشرع لم يلتزم في دستور سنة 1956 موقفاً واحداً من التشريعات السابقة على تاريخ العمل به، بل غاير بينهما فيما أسبغ عليهما من الحماية، فأتخذ بالنسبة إلى بعضها موقفاً اقتضته ضرورة تحصين التشريعات والتدابير والإجراءات الثورية الاستثنائية التي اتخذت في ظروف لا تقاس فيها الأمور بالمقياس العادي وذلك بالنص على عدم جواز الطعن فيها أو المطالبة بإلغائها أو التعويض عنها بأي وجه من الوجوه وأمام أية هيئة كانت. بينما أتخذ بالنسبة إلى سائر التشريعات الأخرى أسلوباً آخر ينطوي على حماية أدنى من تلك التي أسبغها على التشريعات الثورية، وذلك بالنص على بقائها نافذة مع إجازة تعديلها أو إلغائها وفقاً للقواعد والإجراءات المقررة في الدستور.
وهذه المغايرة التي قصد إليها المشرع عند تحديد موقفه من التشريعات السابقة على الدستور قاطعة في الدلالة على أنه إذ تناول التشريعات السابقة على الدستور في نصين مختلفين في دستور واحد فإن ذلك يعني أن كلاً منهما يقرر حكماً يختلف عما يقرره الآخر وأنه إن إنما يستهدف تحصين التشريعات التي حددها على سبيل الحصر في المادة 191 منه دون غيرها من التشريعات التي وقف بالنسبة لها عند حد النص على استمرار نفاذها وذلك تجنباً لحدوث فراغ تشريعي يؤدي إلى الاضطراب والفوضى والإخلال بسير المرافق العامة والعلاقات الاجتماعية إذا سقطت جميع التشريعات المخالفة للدستور فور صدوره، ولو أن المشرع أراد أن تحصن التشريعات السابقة على الدستور ضد الطعون القضائية لأفصح عن ذلك في نص واحد عام يتناولها كافة ولم يكن في حاجة إلى إيراد نص آخر في ذات المعنى وذات الموضوع، ومن حيث أن المشرع اجتزأ بنقل المادة 160 من دستور سنة 1956 إلى المادة 166 من دستور سنة 1964 ولم ينقل المادة 191 من ذلك الدستور التي استنفذت أغراضها إذ أسبغت على الثورية الاستثنائية التي صدرت منذ قيام الثورة حتى عام 1964 حصانة نهائية لا مبرر لها ولا مسوغ لتكرار النص عليها، ولا ريب أنه لا يعني بنص المادة 166 الحالية غير ما عناه بأصلها الوارد في المادة 190 من دستور سنة 1956 وهو مجرد نفاذ التشريعات السابقة على الدستور دون تحصينها ضد الطعون بعدم دستورية شأنها في ذلك شأن التشريعات التي تصدر في ظل الدستور القائم].
ثانياً: التوسع في تحديد مفهوم القانون التي تمارس عليه رقابتها:
توسعت المحكمة العليا في تحديد مفهوم القانون الذي تمارس عليه رقابتها ليشمل المعني الموضوعي للقانون بمعنى أن تتسع الرقابة على دستورية القوانين، للتشريعات الصادرة من السلطة التشريعية واللوائح والقرارات التنظيمية الصادرة من السلطة التنفيذية كذلك، وجرى ذلك التحديد الواسع في بداية عمل المحكمة وفي سنتها القضائية الأولى في الدعوى رقم 4 بجلسة 5 يونيو 1971 حيث قضت بما يلي:
[ومن حيث أن رقابة دستورية القوانين تستهدف صون الدستور وحمايته من الخروج على أحكامه باعتباره القانون الأساسي الأعلى الذي يرسي الأصول والقواعد التي يقوم عليها نظام الحكم؛ ولما كان هذا الهدف لا يتحقق على الوجه الذي يعنيه المشرع في المادة الرابعة من قانون إنشاء المحكمة وفي مذكرته الإيضاحية إلا إذا انبسطت رقابة المحكمة على التشريعات كافة، على اختلاف أنواعها ومراتبها سواء أكانت تشريعات أصلية صادرة من الهيئة التشريعية أو كانت تشريعات فرعية صادرة من السلطة التنفيذية في حدود اختصاصها الدستوري.
ذلك أن مظنة الخروج على أحكام الدستور قائمة بالنسبة إليها جميعاً، بل إن هذه المظنة أقوى في التشريعات الفرعية منها في التشريعات الأصلية التي يتوفر لها من الدراسة والبحث والتمحيص في جميع مراحل أعدادها مالا يتوافر للتشريعات الفرعية التي تمثل الكثرة بين التشريعات؛ كما أن منها ما ينظم حرية المواطنين وأمورهم اليومية مثل لوائح الضبط ويؤيد هذا النظر أن التشريعات الفرعية (كاللوائح) تعتبر قوانين من حيث الموضوع وإن لم تعتبر كذلك من حيث الشكل لصدروها من السلطة التنفيذية، وهذه الوسيلة أكثر ملائمة لمقتضيات أعمال السلطة التنفيذية وتطورها المستمر ولو انحصرت ولاية المحكمة عن رقابة التشريعات الفرعية لعاد أمرها كما كان إلى المحاكم وأهدرت الحكمة التي تغياها المشرع بإنشاء المحكمة العليا والتي أفصحت عنها المذكرة الإيضاحية لقانون إنشائها كي تحمل دون سواها رسالة الفصل في دستورية القوانين].
ثالثاً: توسع المحكمة في تحديد مفهوم التفويض التشريعي وحق البرلمان فيه:
الأصل أن لكل سلطة من السلطات العامة مجال عملها الذي حدده الدستور فلا يجوز لها أن تتعداه، بمعنى أن التشريع وصناعته وإصداره ومناقشته يعد عملاً من صميم اختصاصات السلطة التشريعية، بيد أن حق البرلمان في تفويض بعض اختصاصاته التشريعية للسلطة التنفيذية يثير جدلاً علمياً وفقهياً واسع النطاق، ومع ذلك فإن الدساتير المصرية المتعاقبة دأبت على إمكانية التفويض التشريعي، بمعنى أن يصدر البرلمان قانوناً يتنازل بمقتضاه عن حقه في التشريع في أمور معينة للسلطة التنفيذية ومن ذلك المادة 120 من دستور 1964 إذ قالت: لرئيس الجمهورية في الأحوال الاستثنائية وبناء على تفويض من مجلس الأمة أن يصدر قرارات لها قوة للقانون" .
واستناداً إلى هذا النص الدستوري أصدر مجلس الأمة القانون رقم 15 لسنة 1967 بتفويض رئيس الجمهورية في إصدار قرارات لها قوة للقانون، ونص هذا القانون في مادته الأولى على أن: "يفوض رئيس الجمهورية في إصدار قرارات لها قوة القانون خلال الظروف الاستثنائية القائمة في جميع الموضوعات التي تتصل بأمن الدولة وسلامتها وتعبئة كل إمكانياتها البشرية والمادية ودعم المجهود الحربي والاقتصاد الوطني وبصفة عامة في كل ما يراه ضرورياً لمواجهة هذه الظروف الاستثنائية".
ووفقاً لهذا النص الواسع فقد أصدر الرئيس مجموعة من القرارات لها قوة القانون تتعلق جميعها بالسلطة القضائية مثل القرار 81 لسنة 1969 بشأن إنشاء المحكمة العليا وما تلاه من قرارات على نحو ما أسلفنا في موضعه، وبمناسبة بدء المحكمة العليا لأعمالها في الرقابة على دستورية القوانين، فقد دفع بعدم دستورية معظم هذه القرارات بقوانين ومن ثم أثيرت مسلة التفويض التشريعي أمام هذه المحكمة، وقد قضت المحكمة في هذا الموضوع في دعويين الأولى وهي الدعوى رقم 1 لسنة 3 ق بجلسة 3 نوفمبر 1973، والثانية في الدعوى رقم 9 لسنة 4 ق.ع بجلسة 5 إبريل 1975 وفيها تقول: "إن القانون رقم 15 لسنة1967 قد صدر بناء على اقتراح تقدم به بعض أعضاء مجلس الأمة في 29 مايو 1967، وقد بني هذا الاقتراح على أن الظروف الاستثنائية التي تمر بها البلاد تقتضي تفويض رئيس الجمهورية في إصدار قرارات لها قوة القانون كي يمارس هذه السلطة بالسرعة والحسم الكفيلين بحماية أمن الدولة وسلامتها وضماناً لتعبئة إمكانياتها البشرية والمادية ودعماً للمجهود الحربي وللاقتصاد الوطني، ومن حيث الظروف الاستثنائية التي أشار إليها هذا الاقتراح أنها كانت تنذر باندلاع الحرب بين مصر وإسرائيل وتعرض البلاد لخطر يهدد كيانها وأمنها وسلامتها؛ وقد نشبت الحرب فعلاً عقب صدور قانون التفويض ببضعة أيام أي أنه صدر في ظروف تبرره".
وواصلت المحكمة تأصيلها لحق البرلمان في التفويض التشريعي بقولها: [ومن حيث أن عدم تحديد القانون رقم 15 لسنة 1967 للمدة التي يجري فيها التفويض بوحدة أو أكثر من وحداتقياس الزمن، لا يعني خلوه من أي تحديد لتلك المدة! ذلك أنه قد تضمن ضابطاً يمكن على أساسه تحديدها وهو قيام الظروف الاستثنائية التي حدت بمجلس الأمة إلى تفويض رئيس الجمهورية في إصدار قرارات لها قوة القانون في الموضوعات التي فوض فيها، وقد كشفت الأعمال التحضيرية لهذا القانون عن علة تحديد مدة التفويض على ذلك الوجه، ذلك أنه عندما عرض مشروع القانون على مجلس الأمة بجلسة 29 مايو 1967 دارت مناقشة حول تحديد مدة التفويض فقال رئيس مجلس الأمة أن المدة حددت بأنها (خلال الظروف الاستثنائية القائمة) وأنه فضلاً عن ذلك وكما هو واضح فإن تحديد وقت معين لمباشرة هذه الصلاحيات أمر صعب، وغاية في الصعوبة بل يكاد يكون مستحيلاً لأن المعركة متحركة متأرجحة تتغير بين يوم وآخر وليس واضحاً ما إذا كانت هذه الظروف قد تنتهي في أشهر وقد تنتهي في أسابيع، فليس ممكناً تحديدها؛ ويكفي أن تحدد بأنها لظروف استثنائية- وهي قائمة – وربط التفويض بتلك الظروف بحيث يدور معها وجوداً أو عدماً، هذا الربط ينطوي على تحديد لمدة التفويض تنتفي معه مخالفة الدستور في هذا الصدد].
وتواصلت المحكمة في إبراز حجتها في الدفاع عن قانون التفويض، ولعل السبب في ذلك أن قانون إنشاء المحكمة العليا قد صدر بناء عليه، فتقول: [إن النعي على القانون رقم 15 لسنة 1967 بمخالفة الدستور لخلوه من الأسس التي تقوم عليها الموضوعات التي فوض رئيس الجمهورية في إصدار قرارات بشأنها؛ هذا النعي مردود بأن الأسس المذكورة مستفادة من نص القانون وأعماله التحضيرية والظروف التي صدر خلالها والأهداف التي قصدت السلطة التشريعية إلى تحقيقها عن طريق التفويض، حيث قرر القانون قيداً أساسياً يقيد السلطة التنفيذية فيما تصدره من قرارات بقوانين، هو أن تكون تلك القرارات ضرورية لمواجهة الظروف الاستثنائية؛ وقد أكدت الأعمال التحضيرية للقانون أن هذا القيد هو أساس التفويض ولتمكين رئيس الجمهورية من ممارسة الاختصاص الذي فوض فيه، لعلة ظاهرة وهي عجز الإجراءات التشريعية العادية بسبب طولها وبطئها عن مواجهة تلك الظروف بما تقتضيه مواجهتها من سرعة وحسم].
وأخيراً فإننا نستعرض فيما يلي أحكام المحكمة العليا، والتي قضت فيها بعدم الدستورية وهي:
1- عدم دستورية المادة 60 من لائحة نظام العاملين بالقطاع العام، الصادر بقرار رئيس الجمهورية رقم 3309 لسن 1966 فيما تضمنته من تعديل قواعد اختصاص جهات القضاء.
الدعوى رقم 4 لسنة 1 ق. جلسة 3/7/1971.
2- عدم دستورية المادة 12 من قانون مجلس الدولة رقم 55 لسنة 1959 بعد تعديلها بالقرار بقانون رقم 31 لسن 1963 فيما تضمنته من اعتبار القرارات الصادرة من رئيس الجمهورية بإحالة الموظفين إلى المعاش أو الاستيداع من أعمال السيادة.
الدعوى رقم 2 والدعوى رقم 6 لسنة 1 ق. جلسة 6/11/1971.
3- عدم دستورية المادة الخامسة من القانون رقم 46 لسنة 1964 بشأن تمديد إيجار الأماكن فيما تضمنته من عدم جواز الطعن في قرارات مجلس المراجعة.
الدعوى رقم 5 لسنة 1 ق. جلسة 4/12/1971.
4- عدم دستورية المادة 69 والمادة 117 من قرار رئيس الجمهورية بالقانون رقم 116 لسنة 1964 بشأن المعاشات والمكافآت للقوات المسلحة فيما تضمنتاه من تحصين قرارات اللجان المنصوص عليها فيهما من أي طعن أمام أية جهة قضائية.
الدعوى رقم 3 لسنة 4 ق. جلسة 13/4/1974.
5- عدم دستورية المادة الأولى من القرار الجمهوري رقم 99 لسنة 1963 فيما تضمنته من عدم قبول الطعن في الأعمال والتدابير التي اتخذتها الجهة القائمة على تنفيذ الأوامر الصادرة بفرض الحراسة.
الدعوى رقم 5 لسنة 5 ق. جلسة 3/7/1976.
6- عدم دستورية المادة 134 من القانون رقم 159 لسنة 1964 بشأن نظام المخابرات العامة فيما تضمنته من عدم سماع دعوى الإلغاء بالنسبة إلى أفراد المخابرات العامة.
7- عدم دستورية المادة التاسعة من القانون رقم 80 لسنة 1947 بشأن تنظيم الرقابة على عمليات النقد فيما نصت عليه من أنه في حالة عدم الأذن برفع الدعوى يجوز لوزير المالية أو مندوبه مصادرة المبلغ موضوع المخالفة وذلك اعتباراً من تاريخ نفاذ الدستور الدائم في 12/9/1971 حيث حظر المصادرة الخاصة.
الدعوى رقم 3 لسنة 8 ق 40 جلسة 4/3/1978.
8- عدم دستورية المادة الأولى من القانون رقم 119 لسنة 1964 قبل تعديلها بالقانون رقم 59 لسنة 1968 فيما تضمنته من النص على أنه: لا يجوز الطعن في قرارات رئيس الجمهورية الصادرة وفقاً للقانون سالف الذكر وعدم دستورية المادة الأولى مكرر والتي خولت لرئيس الجمهورية حق اعتقال أي شخص دون توجيه أية تهمة إليه.
الدعوى رقم 5 لسنة ق 40، جلسة 1/4/1978.