البحث عن ضفاف وديعة للشعر
12/08/2015 09:07
بأقدام صغيرة، وظلال غير مكتملة،
جئنا....
نحف أجنحتنا...
نتخلص من لزوجتها،
كما الجنادب نتقافز،
كان في نيتنا تمزيق كل جهات الوعي،
لم نكن نفكر إلابجوعنا الطاحن
إلى الضوء.
هكذا تدخلنا الشاعرة السورية "لينا شدود" إلى مجموعتها الصادرة هذا العام عن دار أرواد للطباعة – طرطوس، والحائزة على جائزة ناجي نعمان للإبداع الأدبي، وهي الثالثة في مشوار لينا الشعري بعد مجموعتين اثنتين هما "لا تشي بي لسكان النوافذ،" و"أمكث في
الضد".
ومن يتابع مشوار لينا الشعري يعرف أي طريق اختارت أن تسلك في عالم الشعر، ويعرف أنها حسمت رهاناتها باختيار تقنيات يمكن وصفها إن صح القول بالسهل الممتنع: أولها لعبة السرد التي قد يستسهلها الكثيرون، والثانية لعبة اللغة التي تشكل مصدر غواية للشاعرة لا يمكنها مقاومتها.
السرد الذكي
في "لما استقبلني الماء"، ترسخ ماقلته سابقا، فهي تعمل وبجد على تقديم سرد ذكي ، وما أعنيه هنا بالسرد الذكي هو عدم الوقوع في فخ التفاصيل الصغيرة، وتجنب اليومي، والمهمل، والمتروك. وأود الإشارة هنا إني لا أقلل من قيمة ما ذكرت، وأهميته في تقديم قصيدة نثر مشغولة بتقنيات عالية، والأمثلة كثيرة في قصائد اللبناني وديع سعادة والسوري محمد الماغوط وبندر عبد الحميد ومنذر مصري وآخرين. إلا أن استسهال ذلك وقع القصيدة الجديدة في فخ التكرار حتى بدا وكان الجميع يكتب قصيدة واحدة على حد تعبير الشاعر الفلسطيني محمود درويش.
وهذا ما أدركته لينا ببداهة الشاعر، وحساسيته المطلقة وخوفه على الشعر لذا جرت قصيدتها إلى مفازات أخرى، فهي بداية تكتب القصيدة الفسيفساء، أي أنها تجزئ القصيدة شعوريا، وجغرافيا على الصفحة بحيث تبدو القصيدة متناثرة بأجزائها، لكنها بكلها تشكل الحالة العامة التي تشي إلى ذات الشاعر، وقلقه وعدم انسجامه مع نفسه في عالم هو أيضا ليس على وفاق مع نفسه، عالم مشحون بالانكسارات، والخيبات، وهي بذلك تتجنب، كشاعرة، الوقوع في كمين السيولة العاطفية وهو كمين وقعت فيه أغلب الشاعرات، إلا أن اختيار لينا لسرد يمكن القول عنه بأنه سرد ذهني جعل العاطفة تختفي بعيدا.. بعيدا في القول الشعري حتى وكأنها تبعدها لتقدم قصيدة تنتمي لعالم هو نفسه بدأ يتهرب منها.
اهتمام بالتكنيك
قدمت لينا قصيدة تهتم بالتكنيك، قصيدة مشغولة بحرفية عالية، كما لو انها قطعة من "الكروشيه"، عملت حائكتها على العناية بغرزاتها، ورسومها وألوانها.فقد قسمت لينا مجموعتها الشعرية إلى ثماني قصائد طويلة، هذه القصائد مجزأة من دون فواصل سوى بياض الصفحة، الذي هو بشكل من الأشكال جزء من القصيدة فهو يملأ فراغ ما فيها، ويكمل القصيدة مع القارئ الذي بات بلا شك شريكا في كتابتها. ولأنها عازمة على تقديم متقن ومكتنز استخدمت احد أهم تقنياته، وهي لعبة الضمائر التي يقدم كل منها دوره في سرد القصيدة الشعري، فقصائد "لن أكشف عن رمادي"، و"لما استقبلني الماء"، و"أرواح كاشفة"، مكتوبة بضمير المتكلم وهو ضمير يحيل إلى ذات الشاعر الذي يتوضح أنه المرجعية الأساسية في القصيدة وهو قادر على اكتشاف ما لا يمكن اكتشافه إلا بالشعر حيث يسرد ذاته انطلاقا من الداخل نحو الداخل تارة ومن الداخل نحو الخارج تارة أخرى ليسرد سيرة العالم حوله .
في قصيدتي "في مهبك يا قلق" و "بسالة الوشاية" تستخدم ضمير الغائب الـ "هو " ،والـ"هم " وهي تدرك أنه يشير إلى الوجود في جماله وقتامته، سعادته وحزنه، كما أنه الوحيد القادر على تجسيد التاريخ الخاص على هيئة صور متناقضة قائمة على الخير والشر الجمال والقبح، العدل والظلم، ففي هذه الثنائيات المتناقضة تخلق حياة مكتنزة جعلت من الشعر مؤرخها.
أما في قصائد "أكلة الخطايا" و "في كنف العاصفة"و"في ممالك الصمت "فإنها تبرع في الانتقال بين الضمائر جميعها في القصيدة الواحدة، في إشارة منها الى أن العالم لا يعاش إلا بمشاركة الجميع فكل مقطع مكتوب بضمير وكأنها تمسرح القصيدة فالعالم ولا شك بدا مسرحا كبيرا.
هل من أرض لم تهزمني بعد لم تعد قلوبنا تعرف كيف تنفطر:ص27، من قصيدة بسالة الوشاية.
اللغة
ولأن اللغة بحسب أدونيس في القصيدة الجديدة هي لغة خلق والشاعر هنا ليس لديه شيء يريد أن يعبر عنه، بل هو الشخص الذي يخلق أشياءه بطريقة جديدة وملفتة وهنا تبرز مهمة اللغة الأهم في اقتناص ما لا يمكن اقتناصه .
وعلى الرغم من صحة أنه لا وجود لما لا يمكن التعبير عنه، ولكن ليس بفضل وجود اللغة كمفردات، بل بفضل وجود الشعر الذي يجعل من اللغة سحرا، وهنا يأتي دور الكلمة الأساسي، فليس عليها هنا أن تكون مجرد تعبير بسيط عن الفكرة ، بل عليها أن تخلق الموضوع وتطلقه خارج نفسه وخارج حدوده الممكنة .
والمجموعة زاخرة بذلك، فقد لعبت الشاعرة في سردها المتقن لتلك اللعبة لذا حفلت المجموعة بصور غريبة وفاتنة مثل: شلك الفقد ووزعك على ضباب لا ينكسر .
نصالب النظر على ريح مدللة، طمي الحنين، نكاد نلمس حسرة الأفق...إلخ
فالكلمة في الشعر تتجاوز إلى ما هو أوسع وأعمق ولا بد لها والحال كذلك أن تعلو على ذاتها وأن تزخر بأكثر مما تعد به وأن تشير أكثر بكثير مما تقول .
الماء...الماء
يسحبني من قدمي،
يثير غيرة الهواء.
يا غريمتي الشمس:
لا تسلطي عليً وحوش القيظ.
فقط ، كنت أنوي تبريد بهجتي القتيلة.
منقول