بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
وصية الصادق (ع) إلى عبد الله بن جندب :
يا عبد الله !.. لقد نصب إبليس حبائله في دار الغرور فما يقصد فيها إلا أولياءنا ، ولقد جلّت الآخرة في أعينهم حتى ما يريدون بها بدلا ، ثم قال:
آه !.. آه !.. على قلوب حُشِيت نوراً ، وإنما كانت الدنيا عندهم بمنزلة الشجاع الأرقم ، والعدوّ الأعجم ، أنسوا بالله واستوحشوا ممّا به استأنس المترفون ، أولئك أوليائي حقاً ، وبهم تكشف كل فتنة وترفع كل بلية.
يا بن جندب !.. حق على كل مسلم يعرفنا أن يعرض عمله في كل يوم وليلة على نفسه ، فيكون محاسبَ نفسه ، فإن رأى حسنة استزاد منها ، وإن رأى سيئة استغفر منها لئلا يُخزى يوم القيامة.
طوبى لعبد لم يغبط الخاطئين على ما أوتوا من نعيم الدنيا وزهرتها !..
طوبى لعبدٍ طلب الآخرة وسعى لها !..
طوبى لمن لم تُلهه الأماني الكاذبة !.. ثم قال (ع):
رحم الله قوماً كانوا سراجاً ومناراً ، كانوا دعاة إلينا بأعمالهم ومجهود طاقتهم ، ليسوا كمن يذيع أسرارنا.
يا بن جندب !.. إنما المؤمنون الذين يخافون الله ، ويشفقون أن يُسلبوا ما أُعطوا من الهدى ، فإذا ذكروا الله ونعماءه وَجِلوا وأشفقوا ، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا مما أظهره من نفاذ قدرته ، وعلى ربّهم يتوكلون.
يا بن جندب !.. قديماً عمر الجهل وقوي أساسه ، وذلك لاتخاذهم دين الله لعباً ، حتى لقد كان المتقرّب منهم إلى الله بعمله يريد سواه ، أولئك هم الظالمون.
يا بن جندب !.. لو أن شيعتنا استقاموا لصافحتهم الملائكة ، ولأظلّهم الغمام ، ولأشرقوا نهاراً ، ولأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ، ولما سألوا الله شيئاً إلا أعطاهم.
يا بن جندب !.. لا تقُل في المذنبين من أهل دعوتكم إلاّ خيراً ، واستكينوا إلى الله في توفيقهم ، وسلوا التوبة لهم ، فكل من قصدنا وتولاّنا ، ولم يوال عدوّنا وقال ما يعلم ، وسكت عما لا يعلم ، أو أشكل عليه فهو في الجنة.
يا بن جندب !.. يهلك المتكّل على عمله ، ولا ينجو المجترئ على الذنوب الواثق برحمة الله ، قلت له : فمن ينجو؟.. قال :
الذين هم بين الرجاء والخوف ، كأنّ قلوبهم في مخلب طائر شوقاً إلى الثواب وخوفاً من العذاب .
يا بن جندب !.. من سرّه أن يزوّجه الله الحور العين ، ويتوّجه بالنّور ، فليُدخل على أخيه المؤمن السرور.
يا بن جندب !.. أقِلّ النوم بالليل والكلام بالنّهار ، فما في الجسد شيء أقلّ شكراً من العين واللسان ، فإنّ أمّ سليمان قالت لسليمان (ع):
يا بنيّ إيّاك والنوم !.. فإنه يُفقرك يوم يحتاج الناس إلى أعمالهم.
يا بن جندب !.. إن للشيطان مصائد يصطاد بها ، فتحاموا شباكه ومصائده ، قلت : يا بن رسول الله وما هي ؟!.. قال (ع):
أمّا مصائده فصدٌّ عن برّ الإخوان ، وأمّا شباكه فنومٌ عن قضاء الصلوات التي فرضها الله ، أمَا إنه ما يُعبد الله بمثل نقل الأقدام إلى بر الإخوان وزيارتهم ، ويل للساهين عن الصلوات ، النائمين في الخلوات ، المستهزئين بالله وآياته في الفترات ، { أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم }.
يا بن جندب !.. من أصبح مهموما لسوى فكاك رقبته ، فقد هوّن عليه الجليل ، ورغب من ربه في الربح الحقير ، ومن غشّ أخاه وحقّره وناواه جعل الله النار مأواه ، ومن حسد مؤمنا انماث الإيمان في قلبه كما ينماث الملح في الماء .
يا بن جندب !.. الماشي في حاجة أخيه كالساعي بين الصفا والمروة ، وقاضي حاجته كالمتشحّط بدمه في سبيل الله يوم بدر وأحد ، وما عذّب الله أمّة إلا عند استهانتهم بحقوق فقراء إخوانهم.
يا بن جندب !.. بلّغ معاشر شيعتنا وقل لهم : لا تذهبن بكم المذاهب ، فوالله لا تنال ولايتنا إلا بالورع والاجتهاد في الدنيا ، ومواساة الإخوان في الله ، وليس من شيعتنا من يظلم الناس....
يا بن جندب !.. أحببْ في الله ، وأبغضْ في الله ، واستمسك بالعروة الوثقى ، واعتصم بالهدى ، يُقبل عملُك فإنّ الله يقول :
{ وإنّي لغفّار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثمّ اهتدى } فلا يُقبل إلاّ الإيمان ، ولا إيمان إلاّ بعمل ، ولا عمل إلاّ بيقين ، ولا يقين إلاّ بالخشوع ، وملاكها كلها الهدى ، فمن اهتدى يُقبل عمله وصعد إلى الملكوت مُتقبّلاً :
{ والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم }.
يا بن جندب !.. إن أحببت أن تجاور الجليل في داره ، وتسكن الفردوس في جواره ، فلتهن عليك الدنيا ، واجعل الموت نصب عينك ، ولا تدّخر شيئاً لغد ، واعلم أنّ لك ما قدّمت وعليك ما أخّرت.
يا بن جندب !.. من حَرم نفسه كسبه فإنّما يجمع لغيره ، ومن أطاع هواه فقد أطاع عدوّه ، من يثق بالله يكفِه ما أهمّه من أمر دنياه وآخرته ، ويحفظ له ما غاب عنه ، وقد عجز من لم يعدّ لكل بلاء صبراً ، ولكلّ نعمة شكراً ، ولكل عسرُ يسراً ، صبّر نفسك عند كلّ بلية في ولد أو مال أو رزية ، فإنّما يقبض عاريته ويأخذ هبته ، ليبلو فيهما صبرك وشكرك .
وارج الله رجاء لا يُجرئك على معصيته ، وخفه خوفاً لا يُؤيسك من رحمته ، ولا تغترّ بقول الجاهل ولا بمدحه ، فتكبّر وتجبّر وتعجب بعملك ، فإنّ أفضل العمل العبادة والتواضع ، فلا تضيّع مالك وتصلح مال غيرك ما خلّفته وراء ظهرك ، واقنع بما قسمه الله لك ، ولا تنظر إلاّ إلى ما عندك ، ولا تتمنّ ما لست تناله ، فإنّ من قَنِع شبع ، ومن لم يقنع لم يشبع ، وخذ حظك من آخرتك .
ولا تكن بَطِراً في الغنى ، ولا جزعاً في الفقر ، ولا تكن فظاً غليظاّ يكره الناس قربك ، ولا تكن واهناً يحقّرك من عرفك ، ولا تشارّ ( تخاصم ) من فوقك ، ولا تسخر بمن هو دونك ، ولا تنازع الأمر أهله ، ولا تُطع السفهاء ، ولا تكن مَهيناً تحت كل أحد ، ولا تتكلنّ على كفاية أحد .
وقف عند كل أمر حتى تعرف مدخله من مخرجه قبل أن تقع فيه فتندم ، واجعل قلبك قريباً تشاركه ، واجعل علمك والداً تتّبعه ، واجعل نفسك عدواً تجاهده ، وعارية تردّها ، فإنّك قد جُعلتَ طبيب نفسك ، وعرفت آية الصحة ، وبُيّن لك الداء ، ودُللت على الدواء ، فانظر قيامك على نفسك .
وإن كانت لك يدٌ عند إنسان ، فلا تُفسدها بكثرة المنن والذكر لها ، ولكن أتبعها بأفضل منها ، فإنّ ذلك أجملُ بك في أخلاقك ، وأوجبُ للثواب في آخرتك ، وعليك بالصمت تُعدّ حليماً - جاهلاً كنت أو عالماً - فإنّ الصمت زين لك عند العلماء ، وستر لك عند الجهال.
يا بن جندب !.. إنّ عيسى بن مريم (ع) قال لأصحابه : أرأيتم لو أنّ أحدكم مرّ بأخيه ، فرأى ثوبه قد انكشف عن بعض عورته ، أكان كاشفاً عنها كلّها ، أم يردّ عليها ما انكشف منها ؟.. قالوا : بل نردّ عليها ، قال: كلاً ، بل تكشفون عنها كلّها - فعرفوا أنّه مَثَلٌ ضربه لهم - فقيل : يا روح الله !.. وكيف ذلك ؟.. قال:
الرجل منكم يطّلع على العورة من أخيه فلا يسترها ، بحقّ أقول لكم إنّكم لا تصيبون ما تريدون إلا بترك ماتشتهون ، ولا تنالون ما تأملون إلاّ بالصبر على تكرهون.
إيّاكم والنظرة !.. فإنّها تزرع في القلب الشهوة ، وكفى بها لصاحبها فتنة.. طوبى لمن جعل بصره في قلبه ولم يجعل بصره في عينه ، لا تنظروا في عيوب الناس كالأرباب ، وانظروا في عيوبكم كهيئة العبيد ، إنّما النّاس رجلان :
مبتلى ومعافى ، فارحموا المبتلى ، واحمدوا الله على العافية.
يا بن جندب !.. صل من قطعك ، واعط من حرمك ، وأحسن إلى من أساء إليك ، وسلّم على من سبّك ، وأنصف من خاصَمَك ، واعف عمّن ظلمك كما أنّك تحبّ أن يعفى عنك ، فاعتبر بعفو الله عنك ، ألا ترى أن شمسه أشرقت على الأبرار والفجّار ، وأنّ مطره ينزل على الصالحين والخاطئين.
يا بن جندب !.. لا تتصدّق على أعين الناس ليزكّوك ، فإنّك إن فعلت ذلك فقد استوفيت أجرك ، ولكن إذا أُعطيت بيمينك فلا تُطلعْ عليها شمالك ، فإنّ الذي تتصدّق له سراً ، يجزيك علانية على رؤوس الأشهاد في اليوم الذي لا يضّرك أن لا يطّلع النّاس على صدقتك ، وأخفضِ الصّوت ، إنّ ربّك الذي يعلم ما تُسّرون وما تُعلنون ، قد علم ما تريدون قبل أن تسألوه ، وإذا صُمْت فلا تغتب أحداً ، ولا تلبسوا صيامكم بظلم ، ولا تكن كالذي يصوم رئاء الناس ، مغبّرة وجوههم ، شعثة رؤوسهم ، يابسة أفواههم لكي يعلم الناس أنّهم صيّام....
يا بن جندب !.. قال الله عز وجل في بعض ما أوحى : إنما أقبل الصلاة ممن يتواضع لعظمتي ، ويكف نفسه عن الشهوات من أجلي ، ويقطع نهاره بذكري ، ولا يتعظم على خلقي ، ويطعم الجائع ، ويكسو العاري ، ويرحم المصاب ، ويؤوي الغريب ، فذلك يشرق نوره مثل الشمس ، أجعل له في الظلمة نورا ، وفي الجهالة حلما ، أكلأه بعزتي ، وأستحفظه ملائكتي ، يدعوني فألبيه ، ويسألني فأعطيه ، فمثل ذلك العبد عندي كمثل جنات الفردوس لا يسبق أثمارها ، ولا تتغير عن حالها .... الخبر .ص285
المصدر: التحف ص301
وصيته (ع) لأبي جعفر محمد بن النعمان الأحول:
اعلم أنّ الحسنّ بن علي (ع) لما طُعن واختلف الناس عليه ، سلّم الأمر لمعاوية فسلّمت عليه الشيعة :
" عليك السلام يا مذلّ المؤمنين " ، فقال (ع):
ما أنا بمذلّ المؤمنين ، ولكنّي معزّ المؤمنين ، إني لما رأيتكم ليس بكم عليهم قوة ، سلّمت الأمر لأبقى أنا وأنتم بين أظهرهم ، كما عاب العالم السفينة لتبقى لأصحابها ، وكذلك نفسي وأنتم لنبقى بينهم....
يا بن النعمان !.. إياك والمراء فإنّه يُحبط عملك ، وإياك والجدال فإنّه يوبقك ، وإياك وكثرة الخصومات فإنّها تبعّدك من الله.. ثم قال :
إنّ من كان قبلكم كانوا يتعلمون الصمت وأنتم تتعلمون الكلام ، كان أحدهم إذا أراد التعبّد يتعلم الصمت قبل ذلك بعشر سنين ، فإن كان يحسنه ويصبر عليه تعبّد ، وإلاّ قال ما أنا لما أروم بأهل ، إنّما ينجو من أطال الصمت عن الفحشاء ، وصبر في دولة الباطل على الأذى ، أولئك النجباء الأصفياء الأولياء حقاً وهم المؤمنون.
إنّ أبغضكم إليّ المترأسّون المشّاؤون بالنمائم ، الحَسَدة لإخوانهم ، ليسوا مني ولا أنا منهم ، إنما أوليائي الذين سلّموا لأمرنا ، واتبعوا آثارنا ، واقتدوا بنا في كل أمورنا.. ثم قال:
والله لو قدّم أحدكم ملء الأرض ذهباً على الله ، ثم حسد مؤمناً لكان ذلك الذهب مما يكوى به في النار.
يا بن النعمان !.. إن المذيع ليس كقاتلنا بسيفه بل هو أعظم وزراً ، بل هو أعظم وزراً ، بل هو أعظم وزراً .
يا بن النعمان !.. إنه من روي علينا حديثا فهو ممن قتلنا عمدا ، ولم يقتلنا خطأ....
يا بن النعمان !.. إنا أهل بيت لا يزال الشيطان يُدخل فينا من ليس منا ولا من أهل ديننا ، فإذا رفعه ونظر إليه الناس أمره الشيطان فيكذّب علينا ، وكلما ذهب واحد جاء آخر....
يا أبا جعفر !.. ما لكم وللناس كفوا عن الناس ، ولا تدعوا أحداً إلى هذا الأمر ، فوالله لو أنّ أهل السماوات والأرض اجتمعوا على أن يضلوا عبدا يريد الله هداه ما استطاعوا أن يُضلوه ، كفوا عن الناس ولا يقل أحدكم أخي وعمي وجاري ، فإنّ الله جل وعز إذا أراد بعبد خيرا طيّب روحه ، فلا يسمع معروفا إلا عرفه ، ولا منكرا إلا أنكره ، ثم قذف الله في قلبه كلمة يجمع بها أمره .
يا بن النعمان !.. إن أردت أن يصفو لك ودّ أخيك فلا تمازحنّه ، ولا تمارينّه ، ولا تباهينّه ، ولا تشارّنه ، ولا تُطلع صديقك من سرك إلا على ما لو اطلع عليه عدوك لم يضرك ، فإنّ الصديق قد يكون عدوك يوما....
يا بن النعمان !.. إن الله جلّ وعزّ إذا أراد بعبدٍ خيراً نكت في قلبه نكتة بيضاء ، فجال القلب بطلب الحقّ ، ثمّ هو إلى أمركم أسرع من الطّير إلى وكره .... الخبر .ص292
المصدر: التحف ص307
كتب (ع) إلى جماعة شيعته وأصحابه: إياكم أن يبغي بعضكم على بعض !.. فإنّها ليست من خصال الصالحين ، فإنّه من بغى صيّر الله بغيه على نفسه ، وصارت نصرة الله لمن بُغي عليه ، ومن نصره الله غَلَب وأصاب الظفر من الله....
إياكم أن تشره نفوسكم إلى شيء ممّا حرّم الله عليكم !.. فإنّه من انتهك ما حرّم الله عليه ههنا في الدنيا ، حَالَ الله بينه وبين الجنّة ونعيمها ولذّتها وكرامتها القائمة الدائمة لأهل الجنّة أبد الآبدين.ص295
المصدر: التحف ص313