Saturday the 26th May 2012
رحلتي مع الكتاب : ثقافة ما قبل النوم
حيدر سعيد
لم يكن العراقُ قبل 2003 يعرف وسائلَ الاتصال المعاصرة وثورتها. لم يكن في البلاد، لا شبكات موبايل، ولا خدمة إنترنت، ولا أطباق لاقطة تتيح للناس مشاهدة القنوات الفضائية.
وحتى الراديو لم يكن متاحا بالكامل. كان ثمة تشويش منهجي قاس على سائر المحطات التي تُسمّى باللغة الرسمية للدولة، آنذاك، (محطات معادية). وبالنتيجة، لم يكن متاحا للناس سوى بضع صحف رسمية، ومحطتي راديو رسميتين، وقناتين تلفزيونيتين رسميتين.
لعل هذا أمر طبيعي لنظام شمولي، ظل يعتقد أنه هو الحقّ، وأن ما عداه شر.
ولذلك، يتخذ حجبُ المعلومات، لدى مثل هذا النظام، شكلا رسوليا أخلاقيا. نعم، قد تكون لهذه السياسة مبررات أمنية، ولكنها - في العمق - نابعة من رؤية تتبناها الأنظمة الشمولية، عادة، بأن من حقها أن تحمي الناس، فمنحُهم خيارات عدّة هو شكل من أشكال الإفساد، ونافذة تتسرب منها (مخططاتُ الأعداء).
وهكذا، مارس النظامُ دورَ الأب، الذي يلقّن أبناءَه ما يريده هو، هو فقط، يعزلهم عن العالم، ليحصّنهم، فيكونوا بشرا أسوياء. ومن ثم، عُزلت البلادُ والشعبُ عن التأريخ، ليصبح العراقُ كأنه صورة من ماض تجاوزه الزمن: أثر خلّفه نظام اشتراكي، مشوّه، وممسوخ.
وبعد انهيار النظام، انفتحت البلاد على وسائل الاتصال، بشكل جنوني. وإذا نسيتُ، فلن أنسى مشهد بيوت الطين في قرى جنوب العراق، تعلوها الأطباقُ اللاقطة. لقد انتقل العراق، بضربة ساحر، من صورة ماضوية متخلفة عن التأريخ، إلى صورة لهاث متعثر لركوب العصر.
كان اليومُ الذي سقط فيه النظامُ يوما مفصليا في السياق الاجتماعي لوسائل الاتصال في البلاد.
يقول كثير من المتخصصين في سوسيولوجيا الاتصال إن مارشال ماكلواني أصبح قديما، تراثا فقط. ولكنني، إلى هذه اللحظة، لا أستطيع إلا أن أفكر من خلاله: إن الوسائط تغير البنيةَ الاجتماعية، تغير العلاقات، والعادات، والتقاليد، والسلوك.
حين لم تكن في البلاد سوى قناتين تلفزيونيتين تعيستين، عجزتا عن إغراء الناس بمشاهدتهما، كانت ثمة فسحة عظيمة للقراءة، في الساعات التي تسبق النوم. وقد بدأتُ أكتشف، الآن، أن جلّ ثقافتي الأدبية تشكّلت في أوقات ما قبل النوم.
أما الآن، فقد استولت وسائلُ الاتصال، التي تعرفنا عليها، على هذا الوقت الذهبي، وأصبح وقتُ ما قبل النوم إما مخصّصا لمشاهدة البرامج الحوارية في القنوات الفضائية، أو لتصفح الإنترنت. وهذا هو برهان ماكلواني بامتياز: إن وسائل الاتصال هي التي صنعت عاداتنا وسلوكنا.
ولا يقف تأثير هذه الوسائل عند هذا الحدّ، فهي لم تتحكم بعاداتنا في القراءة فقط، بل بثقافتنا أيضا، فحين حلّت وسائلُ الاتصال محل الكتاب، في أوقات ما قبل النوم، حلّت - بالضرورة - ثقافة أخرى، مغايرة. في الحقيقة، أنا لم أغادر ثقافةَ الكتاب، فأنا ابنُ حضارته العظيمة، التي تأسّس عليها مجدُ القرون الحديثة. ولا يزال الكتابُ (بشكله الورقي تحديدا، لا شكله الإلكتروني، أو المصوّر إلكترونيا) جزءا أساسيا من حياتي، فهو روح عملي في العلوم الاجتماعية.
ولكن الكتاب الذي أرتبطُ به، الآن، هو كتاب نظري، علمي، بحثي. أما الذي غادرتُه فهو الكتاب الأدبي. لقد اكتشفتُ أنني كنتُ أقضي أوقاتَ ما قبل النوم في قراءة الأدب حصرا. وحين غيّرت وسائلُ الاتصال جوهرَ هذه الأوقات، انحدرت قراءاتي الأدبية بشكل مريع.
لأعترف: أنا لم أقرأ منذ 2003 سوى أعمال أدبية معدودة. وأغلبية هذه الأعمال قرأتُها بدافع الفضول، لا الاحتراف، أو التعلم، أو التخصص، أو التمتع.. فضول لمعرفة كيف يتطور بعضُ أصدقائي من الأدباء، أو لمعرفة لماذا أثارت بعضُ الأعمال الأدبية اهتماما عالميا.
وفي النتيجة، ساعدني هذا على أن أكسر وهما عن نفسي، رافقني طويلا: إن جل قراءاتي الأدبية ما قبل 2003 لم تكن قراءةَ محترف، باحث، متخصص، بل قراءة هاو، مجرد هاو، لم يستطع أن يدافع عن هوايته حين عصف بها الزمان.