مالت الشمس إلي الغروب خلف مياه دجله الزرقاء محولة فضيتها إلي ذهبية براقة وكان هو يراقب المغيب في إنتظارها , جالسا في المكان الذي كانا يلتقيان فيه دائما منذ أن تعارفا ولم تخلف يوما موعدها معه أو تتأخر عنه , بل كان يجدها دائما في إنتظاره كي يطيل النظر لعينيها الساحرتين ليطفئ حنين الشوق ونظر إلي المغيب في أسي وكأنه يسأل الشمس عن حبيبته الغائبة وكيف تثني لها أن تتغيب كل هذا الوقت شرد بذهنه يطالع وجهها الجميل وهو يتهادي مع أشعة الشمس الذهبية। طالت خيالاته حتي إنه كان يسمع وقع اقدامها كأنها تقترب , ثم يخيب أمله من جديد حينما يلمح مكانها خاليا تنهد في حرارة وقد بلغ به الإشتياق مبلغه ولم يستطع منع ذلك القلق الذي تسلل إلي قلبه।شرد ذهنه من جديد وكأنه انفصل عن الواقع بكل ما فيه ، وهذه الكرة لم يسمعها وهي تقترب من مجلسه بالفعل , أو إنه قد سمعها ولكن ظنها أيضا جزء من خيالاته।تمتمت في همس وكأنها لا تريده أن يسمعها , ولكنه سمعها بقلبه قبل إذنيه , فطالما كان يقرأ عينيها قبل أن تنطق شفتاها।عانق عينيها بحب الدنيا كله قائلا : لقد إفتقدتك ، لايدري لما لم يلمح تلك النظرة المشتاقة التي طالما عشقها بعينيها , ثم تنهدت قائلة : وأنت ايضا ।ظل ناظرا في عينيها وهي تشيح بوجهها بعيدا عنه فأعاد عليها السؤال مرة اخري.فأجابت بكلمات مخنوقة نعم نعم!!!أيقن الان أنها تكذب , فهي لاتقوي علي الكذب في مواجهة عينيه ,زادت خفقات قلبه وقد باتت تلك اللحظة التي يخشاها قريبة.مد أنامله تلامس يديها في منتصف المائدة امامهما , فلربما فشل في قراءة عينيها وشفتيها , عل لمساته تحيي ذاك الحنين الذي يقتله بداخلهاأدركت أنه ينساب عبر دمها ليسبح إلي عقلها كي يعلم ما يدور به.وهنا حسمت قرارها وسحبت يديها من بين يديه قائلة بقوة: أيمكنا التحدث بقليل من المنطق؟إزادادت حيرته فقلب كفيه في توتر قائلا : ومنذ متي يخضع مابيننا للمنطق ؟ ألم تكوني ترددي دائما أن حبنا لا يخضع لقوانين الجاذبية وأنه يحلق بعيدا حيث لا يخنقه الواقع؟تسآئلت في قوة علي نحو أدمي قلبه: وإلي متي سوف تردد علي مسامعي تلك الشعارات؟ إلي متي سنظل هكذا , كلا منا في جهة ونلتقي ليلا ثم ينسدل الستار؟ قد أصبح ذاك الحب مسرحية سخيفة لا تصلح للعرض أكثر من ذلك .مست تلك الكلمات كرامته حتي إنه شعر بقلبه مذبوحا تحت قدميها إلا أنه أبي علي كرامته الجريحة أن تتمزق أمام فتاة لا تقيم وزنا للمشاعر فتظاهر بالصلابة قائلا : ماذا تريدين ؟كانت إجابتها كالصاعقة ذبحت ما يستقر في صدره والذي يطلقون عليه القلب : سأتزوج.لم يبد عليه إنه قد سمعها فهو بالفعل قد أصبح في عالم اخر عالم أقرب منه للموت من الحياة قد أصبحت تلك الفتاة غريبة عنه , لا تنتمي لدمه وكيانه مثلما كانت دائما.لوهلة ظنت أن دموعه ستسقط وكم تمنت هذا تمنته حتي تثبت لنفسها أنه لازال يرغبها.لكن ما فائدة هذا وسوف تصبح ملكا لأخر.وقد أدرك هو هذه الحقيقة لم تعد تلك الفتاة فتاته لم يعد من حقه الشعور بذره حب تجاهها. أطرق برأسه حتي لا تلمح ذاك الأسي الذي تجمع في عينيه قائلا : إفعلي مايحلو لك .لم تصدق كلماته وقوته لم تصدق إنه لم ينهار لأجلها , فنهضت من مجلسها وقد أسدل الليل ستائره بعد مغيب الشمس وودعت مكانهما الي الابد .بقي في مكانه كتمثال من الشمع المحترق يمد بصره إلي لا شئ فقد كانت الحياة بدونها لا شئ. توقف الزمن عنده في هذه اللحظة أو توقفت الكرة الأرضية عن الدوران صار كل شئ أمامه ثابتا لا يتحرك لا نبـض لا صوت لا حياة.فقد انسدل ستار المسرحية كما قالت في لحظات ونزعت البطلة قناعها الجميل وأزالت عن وجهها زينتها فاستبان القبح والزيف ، لم يكن يعلم أن ارخص السلع في هذه الدنيا هي مشاعر البشر.لم يكن يعلم أن الوعود صارت كالدخان لا تستقر علي الأرض إلا ثواني معدودة ثم تطير الي السماء فتختفي بلا اثر ، ولم يعد يدري أيلوم عليها أم علي الدنيا أم يلوم نفسه!!!!اختلطت وتبعثرت الأوراق أمامه، أهذه هي فتاته الرقيقة التي طالما كانت تقول له حين تراه بائسا لا تقلق لن أغيب عنك وليس لي اختيار إلا أنت ، أهذه فتاته التي كانت لا تستكين إلا علي أحرف كلماته ونظرة عينيه ، أهذه هي فتاته التي أقسمت أمام الله أنها له مهما طال الزمن.ظل يتذكر ويتذكر وشريط قصتهما يمر من أمامه في بطئ متعمد يصر علي تعذيبه ، ضاق عليه المكان بما اتسع واختنق قلبه في صدره واحترق وسالت عبراته الساخنة تعلن انتصارها وترفع راية خيبه الأمل.مادت به الأرض وترنح نظر إلي صفحة نهردجله في أسي وشعر أن أمواجه تناديه تدعوه إليها وتقول له اقبل لعلك تجد عندي ما يريحك ، هانت عليه الحياة للحظات ، نهض مفزوعا خائفا مترددا وسار عكس طريقها التي أتت وانصرفت منه فقد أُغلق هذا الطريق أمامه إلي الأبد.