بقلم صادق جواد سليمان

لفظ الإيمان مشتق جذرياً من الأمن، ويدل على حال وجداني يرسخ في الإنسان فيبعث فيه أماناً واطمئناناً إلى ما حوله، أكان في محيطه البشري، كما في علاقته مع أفراد مجتمعه وأفراد المجتمعات الأخرى المتشاركين معه خبرةَ الحياة، أو في بيئته الطبيعية على هذا الكوكب المتواصل مع الكون اللامحدود. مبعثُ هذا الاطمئنان لدى المؤمن هو إحسـاسـه العميق بسـلامـة الوجود على الإطلاق، وسـلامـة موقعـه في الوجود، إذ الكونُ في إدراكـه مُتقنٌ صُنعُـه، وسُـنن الكون لا تحيد ولا تغدر. من حال الإيمان، لذا، لا يُعنى المرءُ بمصيره بقدْر ما يُعنى بمسيره، لما يعلم يقيناً أن ضمانَ سلامة السير وصحةِ الاتجاه، ضِمن وجود مُتقن، يضمن ـــــ كنتيجةٍ منطقية ـــــ سلامةَ المصير. لذا أيضاً، لا تستقبل نفس المؤمن نهاية الحياة بجزع أو قلق، بل تتهيأ للعبور بطمأنينة وتطلع.
من حال الإيمان يرى المرء لنفسه أصالةً وشرعية ككائن حي من جنس الإنسان، له، بمثلِ ما لبني جنسه، كرامةٌ وحُرمة، إذ الجميعُ بشرٌ متساوون أمام الأحد الصمد. لا أمرٌ من الأمور، في بيئته القريبة أو الأوسع، يُقلق المؤمنَ أو يُزعجه، إلا بمقدار ما يخرج أمرٌ ما، بسوء فعل الإنسان أو خطأ تقديره في الغالب، عن سياقه الصحيح، فيعوق نماءَ الحياة عامةِ، ونماءَ الإنسان، ككائن متصدر في تطور الحياة، على وجه الخصوص. لا شيءَ من الأشياء يلقى لدى المؤمن جدارةً إلا بمقدار ما يتسق شيءٌ ما، إلى جانب مصلحة الفرد، مع الصالح العام، إذ أن جدارةَ أي عمل، من معيار الإيمان، تُقاس بعمومية النفع أكثر منها بخصوصية الانتفاع. في التعامل مع الغير، إذن، أياً كان الغير، ينطلق المؤمن من مبدأ التكافؤ معه، ويبني مع الكل علاقة تنشد التعاون والتبادل النافع، وترفض الضرر والضرار.
من حال الإيمان لا ينزع المرء للتظاهر بشيء ليس فيه، فللحقيقة لديه حُرمة لا تُهتك. من حال الإيمان لا يزعم المرء أمراً لا يعلم له تحققاً في الواقع، إذ الأمور، كما يرى، يجب أن تُدرك على ما هي كي تُعالج بصواب. لا يُغني الظن لدى المؤمن عن الحق شيئا، بل وإن لديه بعض الظن إثم. لا يُحرج المؤمنَ أن يُفصِحَ عن رأي توصّل له باقتناع، وإنْ خالف رأيا لأكثريةٍ سواه. إنه لا يأنف عن استماع القول فاتباعِ أحسنه، إذ العبرةُ لديه فيما يُقال لا في من يقول. لا يُضير المؤمنَ أن يرجع عن رأي، أو أن يُقر بخطأ، إذا ما وجد رجاحةً في الرأي الآخر. أما إذا استدرك تقصيراً في أدائه، أو شططاً في قوله، فإنه لا يملك إلا أن يطلب الصفح، فلديه الحقُ يعلو ولا يُعلى عليه، ولديه الحقُ، متى ظهر، أحقُ أن يُتبع في كل حال.
"الحقُ أحقُ أن يُتبع" قناعةٌ ترسخ لدى المؤمن فتُحرره من التعصب لعادة أو تقليد أو موقف خاطئ، أو من تشبث بامتياز كاذب. ذلك يعني أن لا العادةُ ولا التقليد ولا التميّز بنَسَب، ولا ما يُغذّي هذه الأمور من عصبيات فئوية، قبلية، أو شخصية، تُصرف المؤمنَ عن اتباع الحق حين يتبين له الحق بالمعرفة والمنطق ومعيار الخُلُق الكريم. ذلك يعني أيضاً أنه حيثما يظهر الصواب، ولو بعد أمَد من تراكم الخطأ، ورغم كل ما يكون قد بُني على الخطأ من عادة وتقليد وموقف خاطئ وامتياز باطل، فلا خيارَ لدى المؤمن إلا أن يُقر الصوابَ ويدحضَ الخطأ، ويمحوَ، أو يُدين، ما بُني على الخطأ.
لدى المؤمن، العقلُ أساسُ الاجتهاد وأداته، وللاجتهاد العقلي لديه روافد ثلاثة: المعرفة الموثقة، المنطق السليم، المعيار الخُلُقي. بالمنهج المعرفي يتقصّى العقل حقيقةَ الأمور والأشياء كما هي، وليس بالضرورة كما فُهمتْ في سابق زمن. بالمنطق يستنبط العقل الترابطَ بين الأمور والأشياء كما هي، وليس بالضرورة كما خُمِن في القديم. بالمعيار الخُلُقي يحكم العقل بصلاح الأمور والأشياء أو فسادِها بمقدار ما هي تنفع أو تضر فعلاً بالصالح العام، وليس بالضرورة بما ورد من تحليل أو تحريم لها من قبل. في ذلك كله، يسترشد المؤمن بما قدّمت عقولٌ عاشت خبرة الماضي من معرفة ونظر، ومع أنه يُجلّ تلك العقول، ويُكنّ لها على ما قدّمت أعمقَ الحب والتقدير، إلا إنه لا يُقرر ما يصلح للحاضر إلا بإعمالِ اجتهادٍ عقلي متجدد مستقل. لديه أيضاً، أن لكل جيل من البشر أن يُبدع لعصره ما هو أقوم، وأن ليس على قدرة الإبداع في الإنسان سقف.
لا يرى المؤمن في الإيمان إجهاداً للعقل، بل يُسراً وراحةً له. ذلك أن العقل يعمل بأوفق هديه أو في طاقته حين يكون آمنا على ذاته، مطمئناً إلى محيطه، هادئاً في تفكيره، مشدوداً إلى نزعة الصلاح فيه، وغير آسٍ ولا فرح بما فات وما ينتظر ـــــ وهذا ما يكون العقل عليه في حال الإيمان. لا شيء يُربك العقل كالخوف، لا شيء يُرجّه كالغضب، لا شيء يُلهيه كالهوى، لا شيء يعميه كالطمع، لا شيء يفتك به كالحسد، لا شيء يقفل عليه كالتعصب، ولا شيء يُفسده كسلطة بدون مساءلة. بالإيمان تتنامى في العقل حصانة ضد هذه الأسقام، فيصح العقل ويتحرر وينطلق، فيما هو حاله الطبيعي السليم، في طلب طيبات الحياة.
عندما يتحرر العقل بالإيمان، ينطلق في طلب العلم وفعل الخير وتلمّس ألطاف الوجود بالتفكر والتدبر: ينطلق وقد استقر حاله، ولَطُف سره، وصفت رؤيته، وزاد ثباته في الحق. ذلك يعني تحولاً في حال الإنسان بتحولٍ في حال عقله، فما الإنسـان إلا عقلُـه، وما الجسـم إلا إطارٌ سـاند للعقل وممكّن لـه من الحركـة والاسـتكشـاف. من هذا الإدراك ترى المؤمنَ أحرصَ ما يكون على سلامة العقل والجسم، إذ أن على سلامتهما تعتمد، وبها تتحدد، نوعية خبرة المرء في هذه الحياة.
لا يرى المؤمن للعلم تعارضاً مع الإيمان، بل ارتكازاً له فيه. فرغم ما يُقال أحياناً أن العلم "يتعارض" مع الإيمان، إلا أنه، في وعي المؤمن، يرتكز في الإيمان في منشأه ومؤداه العملي، وذلك من حيث أن العلم يفترض ـــــ كأمر مسلّم ـــــ الثباتَ والتجانس في السُنن الطبيعية، وهو افتراضٌ لا يمكن الأخذ به ـــــ كأمرٍ مسلّم ـــــ إلا بالإيمان. بعبارة أخرى: لولا إيمان الإنسان بثبات السُنن الطبيعية وامتناعها على الاضطراب، لكونها عينَ مشيئة الله التي لا تحيد ولا تُخرق، لما ركن على علمه بها وهي على ما يراها غير مستقرة، ولأحجم عن الوثوق بمخترعات علمية يعتمد أداؤها على سُنن طبيعية يراها قابلة للتبدل والتحول في أي وقت. وعندما يبدو أن سُنةً لم تعمل كما كان محسوبا لها أن تعمل، لا يرتاب المؤمن في سلامة السُنة وثباتها، لكنه يُراجع حسابه، ويبقى مراجعاً حتى يهتدي لفهم صحيح يؤدي لنتيجة محسوبة من تسخير سُنة يَفترض فيها الثبات.
العلم ـــــ بمعنى الإدراك في الذهن لما هو موجود في الواقع ـــــ يحتل لدى المؤمن محل رديف للخلق، إذ لو خُلق الإنسان من دون أن تودَع فيه قابلية التعلم لتعثر في التطور وربما انقرض. على أن علم الإنسان ـــــ ككل قدراته وملكاته ـــــ بالضرورة نسبي ومحدود، ينمو ويتسع، لكنه أبداً لا يبلغ الكمال. ذلك لأن الكمال لا يحتويه حال قاصر، كحال الإنسان، لذا الكمال، في كل إمكاناته، لا يكون إلا لله تعالى الذي لا يحده شيء وليس كمثله شيء. في وعي المؤمن أيضاً، أن بالعلم النافع يرتبط رُقي الإنسان، أن على مبلغ علم الإنسان في أي وقت يترتب تكليفه، وأن لا حُجة لأحد على آخر في زعم ما هو صواب أو خطأ بدون سند علمي مُبين. لدى المؤمن أيضاً، أن العلم، كالهواء وضوء الشمس، لا يجوز أن يُحجب أو يُحتكر، فهو حصيلة تطور الإنسان في كل ثقافاته وحضاراته، لذا فهو ميراث يعود للبشرية جمعاء.
العدل، المساواة، كرامة الإنسان، تقرير الأمر العام بالشورى، أصولٌ فكرية لدى المؤمن: هي في إدراكه مبادئُ إنسانية من حيث لزومها الحيوي لصلاح المجتمعات البشرية ورُقيها الحضاري في أي زمان ومكان، بصرْفِ النظر عما يوجد بين المجتمعات من تمايز ثقافي. الصدق، الكرم، التقوى، الإستقامة، الإحسان، التواضع، الحِلم ـــــ تلك ومثيلاتُها من مكارم الأخلاق قيمٌ أصيلة وأثيرة لديه، بما هي تدرّ على أي فرد ومجتمع من نماء حميد. الجهاد لأجل تحقيق الأفضل، تعميم اليُسر، صلة الرحم، إتقان العمل، التكافل الاجتماعي، التواصي بالحق وبالصبر، رعاية صحة البدن والنفس ـــــ تلك ومثيلاتها لديه من مقومات الحياة وضروراتها للناس كافة. لديه أيضاً، أن تأكيد المبادئ والقيم ومكارم الأخلاق كثوابت في تربية الأجيال، أمر أساس لتواصل البناء الحضاري في خبرة الأمم. ولدى المؤمن الحكمة ضالة لا ينتهي البحث عنها، وهي أيضاً خير كثير.
من المبادئ، العدل في وعي المؤمن ووجدانه يحتل محوراً مركزياً في بناء صلاح الإنسان، إذ بالعدل يُمكّن الإنسان، فرداً وجماعة، من تحقيق اليُسْر وتعميمه، ومن توطيد الوئام بين أفراد الشعب الواحد وبين الشعوب. لا علاقةَ ولا مبادلةَ بين الناس، صغيرةً أو كبيرة، خاصةً أو عامة، بين أشخاص أو بين أوطان، تكتسب شرعيةً أو تُدرّ نفعاً في مؤداها الأخير ما لم تتّصف بالعدالة. المؤمن يُدرك، اتسـاقاً مع إدراكـه لطبيعـة سُـنن الكون التي لا تتبدل ولا تتحول، أن تراكمَ الظلم يؤدي إلى تفكك اجتماعي وتراجع حضاري، وأن بتفاقم الظلم يغدو الظالمون والمظلومون معاً ضحايا عواقب الظلم: الظالمون لما أتوا من فعل شرير يأباه الله تعالى في كونه، والمظلومون ـــــ وهم الكثرة عادة ـــــ لأنهم تقاعسوا عن صدّ الظلم عند أول فتكه، حين لم يكن قد مسّ بعدُ إلا قلةً من الناس، حتى إذا استحكم واستفدح، شقّ عليهم صدّه أو ردّه، وما استطاعوا عزل الظالمين ومعاقبتهم إلا بدفع ثمن باهظ وخوض كفاح مرير.
كما العدل، يحتل مبدأ المساواة في وعي المؤمن ووجدانه محوراً مركزياً في بناء صلاح الإنسان، إذ بالمساواة ـــــ بمعنى التساوي أمام القانون والتكافؤ في الفرص ـــــ يُمكّن الإنسانُ من إرساء مجتمع مستقر، متوازن، متعاون، منتج. من حال الإيمان، لا ينكر المرءُ التمايزَ بين الناس في الفضل ـــــ كما بالعلم والتقوى والخدمة العامة ـــــ لكنه لا يرى مطلقاً شرعيةً لتمييزٍ بين الناس في الوطن الواحد على أساس نَسَب أو جنس أو لون أو دين أو مذهب. في نظره، أيةُ امتيازات تُبنى على تلك الاعتبارات ـــــ سياسية، مالية، أو اجتماعية ـــــ مُجحفةٌ وباطلةُ، لخرقها مبدأ المساواة بين الناس، وضربها مفهومَ المواطنة المتكافئة عرضَ الحائط. لذا، لا يمكن للمرء ـــــ إلا إذا مارس نوعاً من نفاق ـــــ أن يُقر بوجود المساواة أمام الله تعالى، ثم يتنكر للزومها بين الناس.
كما العدل والمساواة، يحتل مبدأ كرامة الإنسان في وعي المؤمن ووجدانه محوراً مركزياً في بناء صلاح الإنسان، فرداً ومجتمعاً، إذ بإدراك هذا المبدأ تتصحح نظرة الإنسان إلى الإنسان الآخر، كأخٍ له في دين أو وطن، أو كنظيرٍ له في الخلْق. لكافـة أبناء البشـريـة وبناتها كرامـةٌ لا تُهدر، لذا لا يجوز العدوان ولا الإيذاء، ولا الغش ولا الغدر ولا الغصب ولا الإكراه، كما لا يجوز إمتهان كرامة أي إنسان، حتى حين يُدان سوءُ فعل بدَر منه، ويُنزل به عقابٌ على جرمه. في وعي المؤمن أيضاً، أن كبْتَ الفكر، خنق حريةَ التعبير، وفرضَ سلطة سياسية غيرَ مشرّعة بالانتخاب الحر من أهل الوطن ـــــ رجالٍ ونساء ـــــ كلُ تلك خروقٌ فاضحة لكرامة الإنسان.
كما العدل والمساواة وكرامة الإنسان، يحتل مبدأ الشورى في وعي المؤمن ووجدانه محوراً مركزياً في بناء صلاح الإنسان، إذ به وحْدِه تنتظم الحياةُ السياسية ـــــ الاجتماعية على أصلحها، ويستقيم أمرُ الحكم. لقد فطن الإنسـان منذ باكورة وعيـه أن بقاءَه كجنـس مرتهنٌ بتماسـكـه الاجتماعي، وأن رُقيَـه الحضاري مرتهنٌ بنمائـه المعرفي والخُلُقي، وأن كلي المطلبين لا يتحقق في مناخ يسـوده اسـتبداد. لقد وعى أيضاً أن من طبع الاستبداد نقض العدل والمساواة وكرامة الإنسان، من شروره التسلط بالعُنف والتحكم بالمورد العام، ومن خطره تعريض الأوطان للدمار. لذا، لا بد من قطع دابر الاستبداد بتمكين الشعوب من ممارسة الولاية على النفس بنظام شورى يعمل بالاجتهاد الجماعي في الشأن العام، ممارَساً دستورياً من خلال مؤسسات حُكم منتخبة من، ومساءلة لدى، المواطنين. ذلك أثرى عطاءً وأسلم عاقبة وأدنى حفاظاً على الصالح العام من تقرير فردي أو فئوي. بهذا المعنى تغدو الشورى في قناعة المؤمن أمراً جوهرياً في لزومه للحفاظ على سلامة الأشخاص والأوطان، ولتحقيق طموحات أجيال متعاقبة في حياة كريمة ونماء مطرد.
لكنْ، لا الثبات على المبادئ، ولا التحلي بمكارم الأخلاق، ولا الدأبُ على أداء العمل الصالح، يتحصل للمرء بمجرد الرغبـة والنيـة فقط. من حال الإيمان يُدرك المرء ـــــ ولا يفتأ يُذكّر نفسه ـــــ أن عليه أن يُجاهد على كل محاور الإصلاح دون انقطاع، ليُحقق تقدماً ويواصل فيه أمام شتى العوائق والتحديات. إنه يُدرك أن من باب التمني لا العزم أن يقنع المرء بمجرد التوضّح حول متطلبات الإصلاح، ثم لا يسعى في تحقيقها فعلاً من خلال ما يقول ويعمل. هو يُدرك أن الإصلاح مهمة عامة تتدرج من مستوى وطن إلى أمة إلى حضارة إلى هَمّ إنساني مطلق، وهي أيضاً مما يستثير كثيراً من نوازع الصراع، لذا لا يجدر بالمؤمن، كطالب إصلاح، إلا أن يدعوَ بالحكمة والموعظة الحسنة ويُجادلَ بالتي هي أحسن، كسباً للعقول والأفئدة، واتقاءً للفتنة والعُنف. في وعيه، لا أحد، مهما تحلى بحصافة وحُسن نية، يمكن أن يعصم نفسه، في خضم الدعوة للإصلاح، من خطأ أو تعصب أو اغترار. لا أحد، مهما أوتي من عِفة وتهذيب، أو تخيلهما في نفسه، يمكن أن يحسب نفسه فوق الإغراء، إذا ما تكثف الإغراءُ أمامه في دروب مسعى الإصلاح، في بريق سلطة أو مال أو جاه أو جنس. لذا فالمؤمن، بعد كل ما يسعى لتهذيب نفسه وصقل طاقته بالمعتاد من النظر والحذر، يبقى متعلقاً بحبلٍ من الله تعالى وحبلٍ من الناس.
"الحبل من الله" هو الضمير في الإنسـان، محك المحاسـبـة بين المرء ونفسـه ـــــ المُضمَرُ عن الناس والمكشـوفُ أمام الله تعالى العالمِ بذات الصدور. المؤمن يُدرك أن ضميرَه اسـتُودع قدرةَ التمييز بالفطرة بين الخير والشـر، وأن لا حُجةَ للمرء في إلقاء معاذير لتبرير غيٍّ يُصرُ على اتباعه، أو نكران رُشدٍ يُصرُ على الإعراض عنه. هو يعلم أيضاً أن الضميرَ هو ميزان القانون الخُلُقي الذي يحكم الخبرة البشرية، كما تحكم قوانينُ طبيعيةٌ أخرى سائر فعّاليات الوجود… وأن الكيلَ بهذا القسطاس المستقيم ـــــ الموصولِ "بحبل من الله" ـــــ فيه صيانة الجنس، وفيه، إذا ما صغى العقل لنُصحه وامتثل لحكمه، أوفى الإمكانات وأوفرها للصلاح والنماء.
لكن المؤمن يُدرك أيضا أن الميزانَ الخُلُقي ـــــ أي الضمير ـــــ وحدَه لا يكفي لتقويم سلوك الإنسان وتصحيح مساره، فطالما يصدُ الإنسانُ عن حكم الضمير ويصمُ عن تقريعه ـــــ لذا الحاجةُ "لحبلٍ من الناس" كرديف، أو صمام أمان. "الحبل من الناس" هو التدافع بين الناس: تناصُحاً وتعاوناً وتكافلاً وتبادلاً للمنافع والخدمات. وهو أيضاً المُساءلة ما بينهم لضمان سلامة كيان الأمة ونظامها، وصيانة حُرمة الأشخاص: لكي لا يُبخسَ حقٌ ولا تُظلم نفسٌ ولا تُهدر كرامة، ولا يَضيع أجر: لكي لا يعلوَ بعضٌ على بعض، ولا يسخرَ قومٌ من قوم: لكي لا تحتكِرَ السلطةَ فئةٌ وتتوارثها كحق محصور، ولا يستأثرَ أفرادُها من المورد العام بحظوظ ُمترفة على حساب استحقاقات سائر المواطنين. هكذا: بجهاد النفس، بصلة مع الله تعالى، وبتدافع مع الناس، يشق المؤمن دربه في الحياة مميزاً بين الرُشد والغي، بين الخير والشر، بين الصواب والخطأ، وبين النافع والضار.
حالُ الإيمان، إذن، هو الحالُ الأمثل للإنسـان والأجدر بـه كمخلوق كريم، فرداً ومجتمعاً، شـعباً وأمـةً: منـه يُدرك المؤمن وضوحاً لزوم تنظيم الولايـة العامـة دسـتورياً كأمرٍ مشـترك بين الناس، رجال ونسـاء، من خلال شـورى منتخبـة منهم تُشـرّع المعروفَ وتُبطل المنكرَ وترعى الصالحَ العام. من خلال شـورى منتخبـة، شـفافـةٍ ومُلزمـة، تتمكن الأمـة من إلتزام أرسـخ وأوفى بمبادئ العدل والمسـاواة وكرامـة الإنسـان، ومن تحقيقٍ أدق وأشـمل للقيم المنميـة للخبرة الوطنيـة والدافعـة لها إلى تطور حضاري.
في الإيمان ـــــ بعد ذلك ـــــ تقويمٌ للفكر، بناءٌ على العلم، تثبتٌ على المبادئ، سـعيٌ لتحقيق الأفضل، تخلقٌ بمكارم الأخلاق. بالإيمان يرى المرءُ أبعدَ مما يرى بالعلم وحدِه: إنـه يرى إحتمالاتَ خير في المدى البعيد لا تُدرك من رؤيـة علميـة منحصرة في المدى القريب. بالإيمان يُعايـش المرءُ الوجودَ كأمر بديهي: مسـتقراً فيـه، مطمئناً إليـه، شـاكراً على ما ينال من خيره، صابراً على ما يلقى من عَنَتـه، ومغتبطاً بما يسـتكشـف من لطيف أسـراره. بالإيمان يُدفَع المرءُ إلى تأكيد إيجابيات الحياة ودحضِ سـلبياتها، وينصرف إلى ما ينفع عما لا ينفع، واعياً أن الزبد يذهب جُفاءً وأن ما ينفع الناسَ يمكث في الأرض. كما الزهرة تسـبق الثمرة، كذا الإيمان يسـبق ما يصدر من الإنسـان من كلمـة طيبـة وعمل مفيد.
لقد قيل أنك إذا جردتَ خبرةَ الإنسان من الإيمان، فستكون قد أعطبت الميزانَ الخُلُقي المودَعَ في تكوينه، وقضيتَ على الدافع الفطري فيه لتحسين وضعه وتوسيع مداركه. ذلك يعني أن في الإيمان حافزاً إلى التطور، أو ـــــ بعبارة أخرى ـــــ أن وراء تطور الإنسان أيمانُهُ الدافع له إلى الصلاح، المهذب لخُلُقه، المُنمي لمعرفته، الموحد لطاقاته، المهيئ له لدور حضاري. أما الكفر ـــــ نقيضُ الإيمان ـــــ فحالٌ مُوهِنٌ للنفس، مُربكٌ للفكر، مشوهٌ للرؤية، مُبددٌ للطاقة، وعائقٌ للنماء. في الكفر عجز عن أداء العمل الصالح، جحودٌ بالنعمة، ارتياب في سلامة الوجود، خوف من المجهول، قلق من صروف الدهر، وسوءُ ظنٍ بالله الكريم.
الإيمان والكفر، إذن، كلاهما حال ينشـأ في الداخل فينضح أداءً في الخارج، مدراً على الإنسـان إما بخير ونماء، أو شـر وتلف. على أن الإيمان حال نقي فطري في الإنسـان قابل للنماء. أما الكفر فحال ملوث عارض، لذا قابل للتطهير بتوبـة واسـتصلاح: لولا ذلك لما تمكن الإنسـان ـــــ بلطف الله تعالى ـــــ من هذا التطور العظيم.

*صادق جواد سليمان - كاتب ومفكر ودبلوماسي عُماني سابق ورئيس "المجلس الاستشاري" في "مركز الحوار العربي" بواشنطن.