منذُ أنْ كُنّا صغارا وجدنا أنفسنا أمام مكتبة مفتوحة، وأمام أسماء أدبية وفكرية لحضورها إيقاع ساحر وغريب، فكتب طه حسين وعباس محمود العقاد والمنفلوطي وسلامة موسى وجورجي زيدان كانت تشكل أفق مكتبتنا، وتضعنا أمام هوس غرائبي للقراءة، والبحث عن جماليات الأفكار والقيم والمواقف التي تضجّ بها تلك الكتب..
ماتعلمناه من هذه الكتب انغرس في ذاكرتنا المراهقة، وتحوّل إلى أوهام كبيرة، مثلما تحوّل إلى دروس عملية في حياتنا، والى حوافز ظلت تدفعنا نحو توسيع مساحات القراءة وكشوفاتها المثيرة، بحثا عن عوالم جديدة في الرواية وفي الأساطير والحكايات وقصص القرآن والتاريخ. أكثر ما أثار بهجتنا في هذه السيرة هو تعلّم الكتابة، والتوهم بأننا قد نشبه أولئك الكبار، وأن الكتابة على طريقتهم ستكون دخولا
للمجد..
نجيب محفوظ ورشاد رشدي وسمير سرحان ومحمد عبد الحليم عبد الله وإحسان عبد القدوس كانوا أكثر الأسماء المثيرة حضورا في تشكيل وعينا السردي مبكرا، وفي صدمة قراءاتنا الثانية، وأخطر ما كان يمثّل هذا السرد هو التعرّف على عذوبة اللغة عبر صياغات (الإنشاء الفخم) حيث الجملة المثيرة، وحيث الوصف الأخَّاذ، وحيث خلق أجواء مثيرة حول الأحداث والحكايات والزمن، وبما جعلنا أكثر انشدادا لجاذبية هذا الإنشاء في إنعاش المزاج وفي تهييج غريزة
القراءة..
الإنشاء سر الكتابة، لأنَّه مادتها الحيوية، ومَن لم يتعلم هذا الإنشاء من الصعب أن يصبح كاتبا بالمعنى المهني للكتابة، لأن التفكير في القراءة لا يعني التفكير في الكتابة، وأن الإنشاء هو تمرين حقيقي للكتابة، إذ يكون لهذا الإنشاء قواعده وأصوله وجاذبيته، وصياغاته الوصفية والتكوينية.
وحتى في مراحل عمرنا اللاحقة كنت أجدُ لذَّة في استعادة الذاكرة الإنشائية، ذاكرة ماتعلمناه في المدرسة، وذاكرة التخيّل وسيولة الكلمات، وحيوية الوضوح والتواصل مع الآخرين والأفكار، وسحر إمساك
المعنى..
قد تكون (الأدبية) المصرية هي المدرسة الأولى في الإنشاء، وفي تكريس ظاهرته في الكتابة، وهذا مايجعل مدارسها أكثر رسوخا، وأكثر تأثيرا في العقل الأدبي العربي، والعراقي بشكل خاص، ولعلي أتذكر بأن أول مكتبة صغيرة لي أنشأتها كانت من سلسة (إقرأ) المصرية، إذ يُباع الكتاب بسعر زهيد، رغم ما فيه من مادة دسمة في ثقافويته التاريخية والمعرفية والأدبية في الشعر والقصة والمسرح، ومن خلال هذه الكتب تعرفتُ على التاريخ المصري الفرعوني والإسلامي والمملوكي والفرنسي أكثر مما تعلمته من تاريخنا المقطوع معرفيا عن المكتبة، والشحيح في مصادره..
خارج أوهام الإنشاء
المادة الإنشائية في أية كتابة تُضفي على هيكل النص المكتوب قوَّة، وخروج هذا النص عن الإنشاء إلى مايسمَّى بوهم الفكرة سيكشف عري المادة المكتوبة، وربما سيوقعه في التجريد، لأن الوهم السائد عن الإنشاء هو الاستطراد، والانخراط في التفصيل والشرح والتعمية، لكن هذا غير حقيقي تماما، لأن الإنشاء يعني تأسيس إطار النص، وإكساءه لُحمته اللغوية، وإبعاده عن الخشونة، لاسيما أن العقل العربي هو عقل إنشائي، يميل إلى استعمال الخطاب أكثر من استعمال النص، والخطاب هو لعبة ماهرة وفائقة في الإنشاء..
الكتابة العربية الآن بحاجة إلى إعادة قراءة عميقة للدرس الإنشائي، وتصويب ما يُخطئ في توصيفه وتوظيفه، لأنه فصلٌ في تعلّم التصرّف باللغة، وفي اكتساب مهارة تدوينها، وفي التمكين من حيازة القدرة على التصرف بمجازها وصورها واستعاراتها، وأحسب أن مانقرؤه اليوم عند الكثيرين يكشف عن هذا العري الإنشائي، وعن توحش النصوص وعن فقر الدم اللغوي فيها، وأحسبه كذلك سيكون مجسّا للكشف، ومعيارا يمكن إدخاله في الدرس النقدي لبيان جودة النص عن فقره..
العيب ليس في الإنشاء، بل في الجهل به، وفقدان مهارة إتقان دروسه في نسج الخطاب، وفي إيصال الفكرة، وفي تحسين فعل الكتابة على وفق مايقتضيه الحال من ضرورات، ومن حاجة للإشباع ولتمتين النص المكتوب بالشروط الصياغية لكتابته، وحتى مانقرؤه اليوم عند الكثير من أدباء المغرب العربي المتأثرين
بالترجمة.
بات يكشف أيضا عن عودة إلى لذة الإنشاء، والانغمار في استعمالاته من منطلق الحاجة إلى لذة إشباعية في اللغة، وفي ضبط تشكلات جملها وأفكارها، وضبط بلاغتها وصورتها ورسالتها، وأي نص يفقد هذا الضبط سيجعل صاحبه الأقرب إلى كاتب فيزياء الشفرات والمعادلات على طريقة عمنا إينشتاين.