صرخات تطلقها أم تحملت الألم والعناء من أجل تلك الزرعة التي تنمو داخل رحمها، وحان وقت حصادها، طفل يضرب بيده عالمه الصغير يكاد يخرقه من أجل الخروج إلى دنيا تنتظره بأصوات القذائف والانفجارات التي لا يخل منها مكان في وطنه، أب يعد الثواني من أجل نظرة أولى يلقيها على وجه وليدة فتذهب معها كل هموم الحياة وأوجاعها، أخ يتوق إلى نصفه الثاني الذي سيأتي ليشاركه اللعب والمرح فيؤنس وحدته، وأحباب يقيمون الاحتفالات وتسعد لياليهم بقدوم ذلك الذي أسموه "علي بن سعد الدوابشة".
ملامح وجه الطفل تبين في وضح النهار، تبعث النور في قلب أمه التي تقضي ساعات يومها في تدليله وتفزع ليلا حينما يتعالى صوت بكائه طالبا السكينة في صدرها، ويزيد أمل أبيه الذي ينتظر اشتداد عوده ليروي له حواديت أبطال بلاده الذين صمدوا في وجه احتلال استحل دماءهم وسرق من عيونهم الحياة، ويحكي له قصة يومٍ سيأتي ليشهد تحرر الأرض ورفع العلم الفلسطيني خفاقا عليا.
الشقيق الأكبر يأتي دوره في المداعبة، يحمل أخاه "عليا" بين ذراعيه ليعلمه لعبة جديدة انفرجت لها أساريره الصغيرة وتعالت معها ضحكاته، وها هو يمسك بيده ليعينه على المشي بعد أشهر قضاها يحبو بين أركان منزله، ثم يستقطع الأخ الأكبر جزءا صغيرا من طعامه يدسه في فم أخيه الذي يمضغه بأسنانه الناشئة ويبتلعه طالبا المزيد، لتنشأ علاقة عشق بريئة بين أخوين ظنت قلوبهما البريئة أنها لن تتأثر بمقادير الزمن.
المنزل ليس به موقع لقدم، أصوات الأغاني والأهازيج تبهج الآذان، ونيران الشموع تلمع بها العيون، الأب يكاد قلبه يجوب الدنيا فرحا والأم تحصن وليدها الصغير من حسدٍ قد يطوله والشقيق الأكبر يشارك أطفالا كثيرا أتوا من كل حدب وصوب يملأون البيت صياحا وضجيجا، يشاركو رفيقهم "عليا" احتفاله بانقضاء العام الأول من حياته التي لم تتأثر بمناظر التشييع وصرخات الأهالي وأشكال الجثث المتفحمة بفعل نيران جيش الاحتلال.
شمس نهار الثلاثين من يوليو قاربت على الزوال، الأم قضت يومها بين إعداد الطعام لزوجها والهلع لتتعالى صرخة عابرة من صغيرها أثناء اللعب مع أخيه، الأب يأتي من عمله مهرولا من أجل قبلة على جبين طفله يضمه بعدها إلى صدره ليتخلص به من عناء يوم شاق.. المشهد يتحول في لحظات، متطرفون يهود يدخلون بلدة "نابلس" الواقعة بالضفة الغربية فيقلبونها رأسا على عقب، يشعلون نارا لا تبقي ولا تذر تتصاعد حتى تدخل منزل ذلك الطفل الرضيع الذي لم ينفعه الاحتماء بجسد والده النحيل بعد أن بدأت النيران في التهامه، والأم خطفت نظرة عابرة إلى وجه وليدها، والأخ الأكبر انطلقت من حنجرته صرخات مستمرة تتزامن مع تصاعد منظر اللهب الذي يكاد ينهي كل شيء، قبل أن يتم اقتحام المنزل فيظهر جميعهم غائبين عن الوعي، قبل أن ترى أعينهم صورة "صغيرهم" الذي تفحمت جثته بعد أن كان بالأمس "أشبه بالقمر".
عدسات القنوات الفضائية يعج بها موقع الحادث، وأقلام الصحفيين سارعت كي تنقل للعالم جريمة جديدة تنضم إلى سلسلة فظائع الاحتلال، التقارير الأولية الصادرة رفيديا الحكومي بنابلس، إن الأبوين والشقيق الأكبر مصابون بحروق من الدرجة الثانية والثالثة، بعد أن وصلوا قسم الطوارئ بعد دقائق من الحريق، فيما تسلمت المستشفى جثة الطفل "علي سعد الدوابشة" الذي يبلغ من العمر عاما، لتبدو "البراءة" في أبهى صورها يقتلها عار لن تتخلص منه جبين القاتلين.