روى في تفسير القمي عن عبد الرحمن بن غنم الدوسي قال:
دخل معاذ على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم باكياً، فسلّم، فردّه.
ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم: ما يبكيك يا معاذ؟
فقال يا رسول الله ان بالباب شابا طريّ الجسد نقي اللون حسن الصورة يبكي على شبابه بكاء الثكلى على ولدها يريد الدخول عليك.
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ادخل عليّ الشاب يا معاذ.
فأدخله عليه فسلم فردّ
ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم: ما يبكيك يا شاب؟
قال: كيف لا أبكي وقد ركبت ذنوبا ان أخذني الله عز وجل ببعضها أدخلني نار جهنم ولا أراني إلا سيأخذني بها ولا يغفر لي أبداً.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: هل أشركت بالله شيئا؟
قال: أعوذ بالله من أن أشرك بربي شيئا.
قال صلى الله عليه وآله وسلم: أقتلت النفس التي حرم الله؟
قال: لا.
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : يغفر الله لك ذنوبك وان كانت مثل الجبال الرواسي.
قال الشاب: فانها أعظم من الجبال الرواسي.
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: يغفر الله لك ذنوبك وإن كانت مثل الأراضي السبع وبحارها ورمالها وأشجارها وما فيها من الخلق.
قال الشاب: فانها أعظم من الأرضيين السبع وبحارها ورمالها وأشجارها وما فيها من الخلق.
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: يغفر الله لك ذنوبك وإن كانت ذنوبك مثل السموات ونجومها ومثل العرش والكرسي.
قال: فانها أعظم من ذلك.
قال فنظر النبي صلى الله عليه وآله وسلم كهيئة الغضبان ثم قال: ويحك يا شاب ذنوبك أعظم أم ربك.
فخرّ الشاب لوجهه وهو يقول: سبحان ربي، ما من شيء أعظم من ربي، ربي أعظم يا نبي الله من كل عظيم.
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: فهل يغفر الذنب العظيم إلا الرب العظيم؟
قال الشاب: لا والله يا رسول الله. ثم سكت الشاب.
فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ويحك يا شاب ألا تخبرني بذنب واحد من ذنوبك.
قال: بلى اخبرك... اني كنت أنبش القبور سبع سنين أخرج الأموات، وانزع الأكفان، فماتت جارية من بعض بنات الأنصار، فلما حملت إلى قبرها ودفنت، وانصرف عنها أهلها، وجنّ عليهم الليل. أتيت قبرها فنبشته ثمّ استخرجتها ونزعت ما كان عليها من أكفانها وتركتها مجردة على شفير قبرها ومضيت منصرفا.
فأتاني الشيطان، فأقبل يزينها لي ويقول: أما ترى بطنها، وبياضها... أما ترى وركيها... فلم يزل يقول لي هذا حتى رجعت إليها، ولم أملك نفسي حتى جامعتها، وتركتها، مكانها.
فإذا أنا بصوت من ورائي يقول: يا شاب ويل لك من ديان يوم الدين، يوم يقفني وإياك كما تركتني عريانة في عساكر الموتى، ونزعتني من حفيرتي وسلبتني أكفاني، وتركتني أقوم جنبةً إلى حسابي، فويل لشبابك من النار.
فما أظن أني أشم ريح الجنة أبدا يا رسول الله، فما ترى لي؟
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: تنح عني يا فاسق اني أخاف أن أحترق بنارك، فما أقربك من النار...
ثم لم يزل صلى الله عليه وآله وسلم يقول، ويشير إليه حتى أمعن من بين يديه.
فذهب فأتى المدينة فتزود منها ثم أتى بعض جبالها فتعبد فيها ولبس مسحاً (المسح بالكسر فالسكون واحد المسوح وهو كساء معروف) وغلّ يديه جميعاً إلى عنقه ونادى:
يا رب هذا عبدك بهلول(البهلول من بالضم: المجنون) بين يديك مغلول... سيدي يا رب أنت الذي تعرفني، وزلّ (أي حدث) مني ما تعلم سيدي... يا رب إني أصبحت من النادمين، وأتيت نبيك تائباً، فطردني، وزادني خوفاً، فأسألك باسمك وجلالك وعظم سلطانك أن لا تخيب رجائي سيدي ولا تبطل دعائي، ولا تقنّطني من رحمتك.
فلم يزل يقول ذلك أربعين يوما وليلة، تبكي له السباع والوحوش.
فلمّا تمت له أربعون يوما وليلة رفع يديه إلى السماء وقال:
"اللهم ما فعلت في حاجتي ان كنت استجبت دعائي وغفرت لي خطيئتي فأوح إلى نبيك وان لم تستجب دعائي ولم تغفر لي خطيئتي وأردت عقوبتي فعجل بنار تحرقني أو عقوبة في الدنيا تهلكني وخلصني من فضيحة يوم القيامة"
فأنزل الله تعالى على نبيه {والذين إذا فعلوا فاحشة} يعني الزنا {أو ظلموا أنفسهم} يعني بارتكاب ذنب أعظم من الزنا وهو نبش القبور وأخذ الأكفان {ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم} يقول خافوا الله فعجلوا التوبة {ومن يغفر الذنوب إلا الله}.
يقول الله عز وجل: أتاك عبدي يا محمد تائباً فطردته، فأين يذهب، وإلى من يقصد، ومن يسأل أن يغفر له ذنبه غيري، ثم قال تعالى {ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون}. يقول: لم يقيموا على الزنا ونبش القبور وأخذ الأكفان. {أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين}.
فلما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج وهو يتلوها ويتبسم، فقال لأصحابه: من يدلني على هذا الشاب التائب؟
فقال معاذ: يا رسول الله، بلغنا أنه في موضع كذا وكذا.
فمضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأصحابه حتى انتهوا إلى ذلك الجبل، فصعدوا إليه يطلبون الشاب، فإذا هم بالشاب قائم بين صخرتين مغلولة يداه إلى عنقه قد اسود وجهه وتساقطت أشفار عينيه من البكاء، وهو يقول:
سيدي قد أحسنت خلقي، وأحسنت صورتي فليت شعري ماذا تريد بي؟ أفي النار تحرقني، أو في جوارك تسكنني؟
اللهم إنك قد اكثرت الإحسان إليّ فأنعمت عليّ، فليت شعري ماذا يكون آخر أمري؟ إلى الجنة تزفني أم إلى النار تسوقني؟
اللهم ان خطيئتي أعظم من السموات والأرض ومن كرسيك الواسع وعرشك العظيم فليت شعري تغفر لي خطيئتي أم تفضحني بها يوم القيامة.
فلم يزل يقول نحو هذا، وهو يبكي ويحثو التراب على رأسه وقد أحاطت به السباع، وصفّت فوقه الطير، وهم يبكون لبكائه.
فدنا منه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأطلق يديه من عنقه، ونفض التراب عن رأسه، وقال: يا بهلول ابشر يا بهلول فانك عتيق الله من النار.
ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه: هكذا تداركوا الذنوب كما تداركها بهلول ثم تلا عليه ما أنزل الله عز وجل فيه وبشره بالجنة.
نسألكم الدعاء