بسم الله الرحمن الرحيمقال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ* فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}. وقال سبحانه: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ}.
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
ورد في سبب نزول هذه الآيات، حديث عن رسول الله(ص)، أنَّ الله سبحانه وتعالى، وبعد معركة أحد التي جرت بين المشركين والمسلمين بقيادة رسول الله، سأل أرواح الشّهداء الّذين سقطوا في هذه المعركة، ومعهم كلّ الشهداء الّذين سبقوهم، وهم في عالمهم في الجنة: هل تشتهون شيئاً؟ فقالوا: أيّ شيء نشتهي ونحن نسرح في الجنة، ونتبوأ فيها حيث نشاء، ونرزق منها ما نريد! ولما ألحّ الله عليهم أن يطلبوا منه شيئاً، (وهنا يتبيّن لنا مدى التكريم الّذي يحيط الله به الشّهداء الّذين يقتلون في سبيل الله). قالوا: يا ربّ، نريد أن تردّ أرواحنا إلى أجسادنا، حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى. فقال الله تعالى: {إِنَّهُ قَدْ سَبَقَ مِنِّي أَنَّهُمْ إِلَيْهَا لَا يُرْجَعُونَ}: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}. فقالوا له: إذاً، تقرئ نبيّنا السّلام، وتبلغه ما نحن فيه من كرامة عندك، فلا يحزن أهلنا علينا. فنزلت هذه الآيات التي أشرنا إليها.
وهذا ما أشار إليه حديث آخر عن رسول الله(ص) «ما من نفس تموت لها عند الله خيرٌ يسرّها أن ترجع إلى الدنيا، وإن لها الدنيا وما فيها، إلا الشهيد، فإنه يتمنّى أن يرجع، فيُقتل في الدنيا لما يرى من فضل الشهادة».
وهذا ما تمنّاه رسول الله لنفسه، عندما قال: «والّذي نفسي بيده، لوددت أن أُقتل في سبيل الله ثم أحيا، ثم أُقتل ثم أحيا، ثم أُقتل ثم أحيا، ثم أُقتل».
وبالعودة إلى الآية: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}. اختلف المفسّرون في تبيان حقيقة الحياة الّتي يكون عليها الشّهداء. فهناك من قال إنها الحياة في عالم البرزخ، عالم اجتماع الارواح، حيث يحيون ويكرمون ويتنعّمون بكلّ النعم الّتي بيّنتها الآيات. وهناك من أشار إلى أنّها حياة خاصّة بالشّهداء، يتميّزون بها عن غيرهم؛ حياة لم يبيّن الله حقيقتها، بل أشار إلى نعمها.
وهناك من المفسّرين من قال إنَّ الحياة المقصودة، هي من قبيل خلود أسمائهم وآثارهم في الدنيا، حيث يخلد الشّهداء على مرّ الزمن، ويبقون حاضرين في وجدان الأمّة، تتذكّرهم، وتجلّهم، وترفعهم على الأكفّ، بعد أن أخلصوا لها، وبذلوا دماءهم وأرواحهم فيها، من أجل أن تكون أكثر عزّة وحريّة. وألا يكون فيها إنسان يُظلم، ويتألّم، ويعاني قهراً وطغياناً.
في تبيان هذه الرعاية الخاصَّة من الله للشهداء والّتي تبدأ بالمغفرة والرحمة، وتنتهي ببلوغ الدّرجات العليا والموقع الكبير. وهنا نُلفت أن من يبحث في القرآن الكريم عن لفظ «أحياء» نرى أن الله لم يعطه لفئة من الناس إلا إلى الشهداء. في آيتين أشرنا اليهما في البداية.
أيها الأحبة:
إن كل هذه القيمة لحياة الشهداء بعد استشهادهم مردها ليس فقط كونهم قد طلقوا الدنيا وما فيها وبذلوا أغلى ما عندهم في سبيل الله وضمنوا الجنة على مستواهم الشخصي، ولكن هناك قيمة تتصل بالآخرين ممن خلفوهم في دار الدنيا ومن مصاديقها عملية الإحياء فهم استشهدوا وغادروا الحياة، ولكنهم في لحظة انسلاخهم ومغادرتهم يولّدون طاقة انسانية وروحية قادرة على بث الحياة وانعاشها، بعد ركود أو تراخٍ أو غفلة أصابتها أو إحباط...
الشهداء عندما يسقطون يفجرون ينابيع الحياة، خاصة عندما تكون هذه الدماء هي في عين الله وحده ولأجله. فالله كفيل ألا يذهب هذا الدم هدراً إنما يسير في شرايين الأفراد والمجتمعات يضخ فيها الحياة ويعطيها من القوة والدفع ما تكون بأمس الحاجة اليه... وهناك توصيف جميل للشهيد الشيخ راغب حرب طالما سمعناه: "دم الشهيد إذا سقط فبيد الله يسقط، وإذا سقط بيد الله فإنه ينمو"
أيها الأحبة:
مصاديق هذا الدور الإحيائي لدم الشهداء، فلا حاجة بنا إلى أبحاث موضوعية أو روائية أو غيرها، فالآثار والشواهد ماثلة أمامنا في أرضنا، لقد عاصرناها وهي حاضرة بقوة وبصماتها لا تزال طرية ومفاعيلها لا تزال حيّة، على رأسها إطلاق طاقات الأمّة، حيث مازالت هذه الدّماء تستنهض الهمم الثقيلة، وتحرّر الإرادات الحبيسة، وتبثّ العزّ والأمل والقوّة، لمواجهة التّحدّيات الّتي يفرضها العدو على الأمّة؛ تحدّيات تحرير الأرض، وتحدّيات رفع الظلم والقهر والتعذيب! الدّماء أيها الأحبة تفضح المتذبذبين، وتسقط المتخاذلين، وتكشف المتواطئين والمتآمرين الّذين يتعاملون مع البلاد والعباد كسلع يمكن أن يبيعوها للمستعمرين والطّغاة، لقاء مصلحة خاصة أو منفعة أو بسبب تعصب طائفي أو مذهبي أو قومي، حتى ولو كان الثمن رخيصاً وبخساً.
بالتضحية لا بالكلام يؤكد الشهداء إيمانهم، لذلك يكفي للشَّهادة من قيمة أنّها تعيد تصويب نظرة الإنسان إلى الحياة، وإلى دور فيها وماذا هو فاعل على الأرض، وعلى أي أرض يقف ومع من سيكون. الشهادة قيمتها أنها تحفز الاحياء، وتوقظهم ليتحسسوا مسؤولياتهم ومقدار عطاءاتهم...
الشَّهيد فاتح، لأنه لم يضيع البوصلة ولأنه أيضاً بوصلة لغيره. فمنطلقه ومساره واضحان، يسلك الطريق مهتدياً بنور الحق، فيخوض المعركة، ويبذل الدم، وهدفه واضح وضوح الشمس: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا}.
ويكفينا أن نرى الأثر الّذي تركته دماء الشّهداء على مرّ التّاريخ في حياة البشر، وفي أمتنا بشكل خاص، فكم استنهضت نفوساً! وكم أعزَّت قوما! وكم أنتجت حريّةً، وصنعت إصلاحاً، وغيَّرت واقعاً فاسداً! وثورة الحسين هي خير شاهد على ذلك.
هذا الأثر خبرناه في الزمن القريب، في الثمانينات، وبعد الاجتياح الصّهيونيّ وما زلنا نخبره إلى يومنا هذا. حيث ساهمت دماء شهدائنا في إحياء الأمل بعد اليأس، وشدَّت العزم بعد الإحباط، وبثَّت الحيويّة في النفوس، وأعادت للقيم قداستها في الروح، ما جعل الأمّة تلتصق أكثر بخيار العزة والحريّة والعنفوان، فواجهت العدوان رغم شراسته، وأزالت الاحتلال رغم ما يملك من سلاح، لتبدأ صفحة مشرقة من حياة وطننا، ويُسجّل تاريخ جديد مجيد في حياة أمّتنا، صنعه شهداؤنا الَّذين بنوا لنا بهاماتهم جسراً يصل بالأمّة إلى الحريّة والحقّ والعدالة والعزّة والكرامة الّتي عشناها ولا نزال نعيشها كطابع أساسي في حياتنا.
هذه الحياة الّتي فهم معناها الإمام عليّ(ع) إذ يقول: «الموت في حياتكم مقهورين، والحياة في موتكم قاهرين»، والّتي اعتبرها الإمام الحسين(ع) برماً حين تكون مع الظالمين، حيث يصبح للموت فيها كلّ القيمة، بل السّعادة. إنَّ قيمة الحياة في أن نعمل للحقّ والعدل. بأن نعطي ونبذل، ونتطهر من الأنانيّة والبخل والنفعيّة والاستغراق في حبّ الدنيا، وننعش قيم الخير والتّضحية والعطاء وصولاً إلى بذل الدم.
{وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}.
رحم الله شهداءنا وتغمدهم بواسع رحمته. والعزاء كل العزاء بالدرب الذي سيزهر ويثمر ولو بعد حين.