مقتطف من كتاب حسنين السراج بعنوان جرائم ارتكبتها حين كنت حارساً لدين الله
- حسنا يا سيدي ... أنت تؤمن بوجود اللهأجاب رجل الدين بصوت خفيض :
- أجل أنا اؤمن
قال الملحد في أبتسامة الواثق من نفسه :
- وأنت توافق أيضا على أن محيط الأرض 28000 ميل اليس كذلك؟
- من غير شك .
- أرجوك أذن أن تخبرني عن حجم الهك وأين يمكن أن يوجد .
- حسنا أذا صدق ظننا فأنه يقيم في قلبينا نحن الأثنين .
- (أجاب الملحد) كفى كفى لا تحسبني طفلا ! وأعتصم رجل الدين بصمت متضع .
حصلت هذه المحاورة أمام المهاتما غاندي اثناء حضوره جنازة أحد الملحدين البارزين وحضر فيها جمهرة كبيرة من الناس وعدد قليل من رجال الدين ليؤدوا واجب الأحترام الاخير . وبعد دفن الجنازة وأثناء أنتظار القطار جرى الحوار بين رجل دين وملحد متحمس كما يصفه غاندي . ويقول غاندي أن هذه المحاورة زادته كرها للالحاد .
السبب الرئيسي الذي جعل غاندي ينفر من الالحاد الذي كان قد تأثر به في ايام شبابه الاولى هو غرور وأستعلاء الملحد في طريقة محاورته لرجل الدين . ويبدو أن نسبة من المحلدين المعاصرين يتصفون بنفس الصفة .
أن السبب الذي يجعل العقل الايماني للمؤمن الملتزم دينيا يميل الى التكبر والتعالي على الاخر . هو الشعور بأنه قريب من الله وغيره بعيد عنه . مما يعطيه شعور بالرفعة والعلو عن باقي المجتمع . المؤمن يشعر بأن هناك هالة تحيط به . وهناك ملاك حارس يحميه . ويرى الاخرين أقل منه درجة لذلك يترفع عن التفاعل معهم ولا يجد ضير في عدم أعطائهم الأاحترام الكافي .
أما السبب الذي يجعل العقل الألحادي يميل الى التكبر والغرور في التعامل مع الاخر . هو الأيمان بفكرة ان منبع الالحاد هو أحترام العقل وأحترام العلم وعدم الايمان بالخرافات . لذلك يشعر الملحد بانه مميز . ويملك عقل أكثر رجاحة من عقل الاخر . فالاخر يؤمن بوجود ملائكة وشياطين لا يوجد دليل واحد على وجودها . والاخر يؤمن أن قراءة بعض الكلمات من القران قد تحميه . والاخر يؤمن أن هناك حياة أخرى بعد الموت . وهي فكرة جميلة لكنها خدعة يخدع البشر بها نفسه . ومن يؤمن بهكذا أفكار هو في الواقع يغيب عقله في نظر الملحد . لذلك يجد الملحد نفسه عبارة عن أنسان تمكن من أيقاد شعلة التفكير في عقله وتجاوز حاجز الممنوع في التفكير . مما يعطيه شعور بالتفوق والتميز عن البقية . والمشكلة ليست في الشعور بالتفوق بل في التعامل مع الاخر من منطلق هذا الشعور .
حين يجري حوار مفتوح دون قيود بين مؤمن وملحد من تلك النسبة التي تتعامل بكبرياء وأستعلاء . قد تجد أن الحوار سيتسم بالتفاخر . فسيتفاخر المؤمن بنعمة الايمان ورجاحة العقل وحسن العاقبة وسيتفاخر الملحد بالجراة في التفكير دون قيود والأيمان بالعقل والعلم والنظريات العلمية التي تدعم الالحاد . كلاهما يشعر بأن الاخر خاوي وغبي ولديه في راسه بدل الدماغ ضفدع .
التكبر الايماني منبعه الشعور بالسمو لمتانة علاقة المؤمن بالله التي تجعله يترفع عن التعامل ببساطة مع الاخرين . والتكبر الالحادي منبعه الشعور بالسمو العقلي والأيمان بالعلم والابتعاد عن الخرافات . التي تسيطر على الاخر ولا يستطيع تجاوزها .
أن الأوصاف السابقة للملحد والمؤمن على حد سواء من المحتمل أن تجدها ممزوجة في عقل المؤمن العلماني . الذي تجده مرة يشعر بالكبر لأنه يؤمن بوجود الله ويحمد الله على نعمة الايمان . وتجده مرة يتهم المؤمنين بالجهل لأنهم يقومون بعادات يجدها سخيفة . فهو مغرور غرور مزدوج مرة لأيمانه بالله ومرة لنكرانه الخرافات .
قبل فترة كان يتحدث احد الأصدقاء من العلمانيين المؤمنين عن الخطب الدينية التي تلقى في المساجد والحسينيات وما يتخللها من نعي وبكاء وغيرها . فقال أن هؤلاء جهلة ولن تقوم لهم قائمة . يبدو أن هناك الكثير في مجتمعنا يدعون العلمانية والديمقراطية وقبول الاخر لكنهم ليس لديهم قدرة على أحترام عقل الاخر .
الاستعلاء على الاخر واتهامه بالغباء والجهل هو تصرف بعيد عن العقل الديمقراطي . وبعيد عن الفكر الليبرالي الحر . فالمحاضرة التي يتخللها نعي وبكاء هي بالنسبة لمن يحضروها قيمة عليا ولحضات تجلي مع الله يجب أحترامها طالما أنها لا تؤثر على الاخر . ومواليد الذكر التي تستخدم فيها الدفوف في غرب العراق هي ثقافة مجتمعية دينية يجب أحترامها وتفهم من يمارسوها .
من الغريب أن نجد ان نسبة من الملحدين والعلمانيين المؤمنين يتقبلون أي شيء يصدر من الغرب مثل مهرجان الطماطم في اسبانيا او مصارعة الثيران . أو غيرها من الثقافات الغريبة . لكنه لا يتقبل أي شيء من مجتمعه . لأنه باختصار يشعر بعقدة نقص من مجتمعه . يشعر بخزي غير مبرر من سلوكيات المجتمع . قد يقول قائل تلك عادات شعبية . وهذه عادات دينية مقدسة والمقارنة غير ممكنة . والواقع ان المقارنة ممكنة لاننا نتحدث عن عادات الشعوب ومدى مقبوليتها ومعقوليتها ولا نتحدث عن مصدرها .
ليس من حق أي أنسان أن يتهم مجتمع كامل بالجهل طالما ان ممارسات هذا المجتمع لا تؤدي الى ألغاء الاخر أو ايذائه . الجهل كل الجهل يكمن في عدم تفهم الاخر وعدم أحترام عقله . مع التحفظ على العادات التي تؤدي الى الايذاء النفسي والجسدي . والأفكار التي تثير ثقافة الكراهية .
العقل نسبي وأحكامه نسبية ومن يقول غير ذلك يضحك على نفسه . فما كنت اؤمن به قبل عشر سنوات أشعر الان أنه قمة في الغباء . وقد أقول نفس الشيء بعد عشر سنوات عن أفكاري الان . من الممكن أن تضحك على عقلي خدعة ساحر يجعلني ارى ما فعله حقيقة لا تقبل الشك . لكنها خدعة وخفة يد . العقل غير مأمون الجانب وأحكامه نسبية . ولا يجب أن يدفعك أيمانك بفكرة تجدها مطلقة الى الغرور . فقد تتغير قناعتك بعد أطلاعك على فكرة أخرى . كل العقول يجب ان تحترم مهما كان ما تؤمن به يبدو مثير للسخرية . فهو لا يثير السخرية في نظر المقتنعين به . أكثر ما يميز الشعوب السامية هو احترام عقول الاخرين وقناعاتهم وأفكارهم .
لا أشعر بالخجل من عادات قومي لانها عاداتهم . مثلما أن لكل الشعوب عاداتهم . ولا أشعر بالخجل من عقائد قومي لانها عقائدهم التي يؤمنون بها . من المخجل ان يشعر احدهم بالغرور لأنه (مؤمن) ملتزم قريب من الله أكثر من غيره أو لأنه (ملحد) يؤمن بالعقل والعلم ويرفض الخرافات .
تفهم الاخر وأحترام عقله هو معيار الرقي والتحضر . طالما ان أفكار الاخر لا تؤدي الى ألغاء الاخرين . المشكلة ليست في ان يرى الأنسان نفسه أفضل من الاخر فهذا أمر طبيعي . المشكلة هي أن يتعامل مع الاخر من منطلق انه أرفع وأسمى .
المصادر :
1- قصة تجاربي مع الحقيقة – المهاتما غاندي – صفحة(90-91)