كما كل عيد ...حملته خطواته الى ذلك البيت ، البيت الوحيد الذي يعلق في روحه كبيت ...رغم كل المنازل التي حل فيها عبر رحلته الثلاثينية ...تأنق قبل ان يأتيه ...و تعطر ..و شحذ كل اسلحة وسامته التي ما كانت تحتاج لتهذيب ...
و توقف امام الباب في رهبة ، كمن يستعد للولوج الى محراب ...صمت ، و امعن النظر في تقاطيع الباب القديم الذي ما بذل احد اي جهد في اخفاء (تجاعيده ).. و كما كل مرة بحث عن اسمه المحفور بخطوط جهد ذلك الطفل الذي كانه في نحتها على وجه بابه الحبيب ، و كأن الابواب التي لا نكتب عليها اسماءنا لن تعرفنا حين نأتيها ...و ذاك ما كان اسوأ ما يمكن ان يرعب قلبه الصغير ...ان لا ينفتح هذا الباب له كلما جاءه طارقا ...و ان لا يملك ان يدخل هذا البيت ...البيت.
طرق الباب برقة ، كمن يخشى ان يؤلم شيخوخته ، ثم تنبه للجرس ، فسخر من نفسه ....ما زال ينساه ...ما زال في اعماقه ذلك الطفل الذي لا يطال الجرس العالي ...
مد يده للجرس و سمع رنينه .....بدأ قلبه يخفق ...يجري ...تراجع للوراء ..احس برغبة في الهرب ...لكنه تماسك حين سمع صوتا انثويا يجيء من خلف الباب : ( من )؟
- انا (........ )
أن الباب منفتحا ....
رأى عينيها الزرقاوين تبتسمان فوق غطاء ما بقي من وجهها ...(اهلا ).
دعته للدخول ....و نادت ( امي ، هذا ...... ).
تسمر في الباب ...ممسكا بطرف رداء دمعة ارادت ان تقفز من طرف جفنه .
اصرت بصوتها المبحوح : ( ادخل ).
تذكر صوتها الذي كان نايا لا تخطؤه الاذن .....و مر بذاكرته على اجمل وجه بين بنات عائلته الكبيرة ..و طأطأ رأسه بعفوية حين تذكر كيف كانت تمر قربه كنسمة بحياء ، حين كان هو من قال لها الجميع انها له منذ ولدت ....
هكذا اراد الجميع .....و هي ....
اما هو .....فلم يرد ..و احس بانقباض قلبه المجرم ...ذلك الذي صدها ....و عذبها ....
رفع رأسه ...كانت ما تزال تحتمي بالباب ...تنظر اليه بصمت ...منتظرة قراره ....كما انتظرته منذ سنوات .
سمع نفسه يقول : اين خالتي ؟ ما جئت لأتضايف ...فقط احببت ان اراكم و اعايدكم ...
مد يده بعلبة حلوى ....و مدت يدها ......
كفها المجعد بحروقه تسلم حلواه .....و شكره صوتها الذي لم يزل غريبا عنه منذ ذاك المساء الذي صرخ فيه صوته بوجه الكل في عيد من زمن آخر: ( قراركم يعنيكم ..لست لها و لا هي لي ...سأكون لمن يختارها قلبي ....)
قلبه ....ذلك المجرم الذي ما عرف انه سيطرق هذا الباب يوما و هو يتمنى لو ان الزمن يعود ...ليصمت ....ليحفظ تلك الملاك من جنون وقود و كبريت ....صرخا ليردا عليه صراخه ....و لتعلن بهما انها اكثر منه شجاعة رغم صمتها و حيائها .....لكن ! لا الزمن يعود ولا الباب يعرفه ولا هو يدري لماذا يجيء كل عام ....في مثل ذلك العيد ...و لا لم تفتح هي الباب المستغرب ....هي التي لا يعرف صوتها ..و لا يدها .