يحاول عادل إمام في مسلسله المتطفل على عالم الكوميديا «أستاذ ورئيس قسم»، المكتظ بالافتراءات والمغالطات الفجة، أن يقنعنا بأن الاتجاه الشيوعي ينسجم تماما مع الإسلام، وأن أنصار هذا الاتجاه هم من الأتقياء الذين يصلون ويصومون ويحجون، وأن اتهام فكرهم بالانحراف عن الإسلام هو محض فرية ملفقة يروجها ضدهم أتباع الاتجاه الإسلامي، الذين يصفهم العمل بأسوأ الصفات وأقبحها. المزعج والمستفز أن إمام يحاول بذلك أن يزيف وعي الناس عن طريق طمس حقائق علمية صارخة لا مجال لطمسها، وأن يكون ملكياً أكثر من الملك نفسه، بأن يدافع عن معاشر الشيوعيين الذين لا ينكرون هم أنفسهم موقفهم السلبي من الدين، الذي يبدو واضحاً وصريحاً في أدبياتهم وكتابات رموزهم ومنظريهم. إن إمام، بفهلويته وانتهازيته وضحالة ثقافته، لا يشوه الفكر الإسلامي كما اعتاد أن يفعل وحسب، بل إنه يشوه أيضا الفكر الشيوعي، بتحريفه وتقويله ما لم يقله وما لا يمكن أن يقوله، عندما يظهر رموزه بمظهر التدين والورع!
من حيث المبدأ، ينبغي تأكيد الاستحالة المنطقية لأن يكون المرء شيوعياً حقيقيا ومسلماً ملتزماً في الوقت ذاته. فالشيوعية ليست مجرد آليات ومفاهيم منهجية محايدة للتحليل الإجتماعي والسياسي والاقتصادي كما يزعم البعض من باب التقية، وإن كان من الممكن بالفعل الإفادة من بعض تلك المفاهيم والآليات لتحليل الواقع من جانب أي شخص، بغض النظر عن معتقده. وإنما هي منظومة كاملة من الأفكار والمعتقدات المادية المتداخلة والمتكاملة، التي تقدم للشيوعي رؤية شاملة حول كل شيء في حياته تقريبا، بما في ذلك طبيعة الدين وأصله ودوره في حياة المجتمع.
وبهذا الصدد المتصل بالدين، فإن الشيوعية تنظر للدين بوصفه صنيعة بشرية، حيث أوجده البشر لخوفهم من المجهول وعجزهم عن تفسير كثير من ظواهر الطبيعة، لتتلقفه الطبقة العليا المستغلة التي ساهمت في صنعه وتوظفه لإحكام هيمنتها على الطبقة الدنيا، عن طريق تدجينها وتخديرها بالمقولات الدينية التي تحث على القناعة والرضا بالواقع والصبر على الظلم والأمل بنيل الثواب لقاء احتمال كل ذلك الشقاء، ولكن في الحياة الآخرة، هذه التي تشكل في الفكر الشيوعي مجرد وهم طفولي ساذج لا وجود له. ومن هنا كان من الطبيعي أن تصف الشيوعية الدين بوصفه «أفيون الشعوب»، بعد أن كانت قد أنكرت أن يكون للكون إله أو خالق أو مدبر، انطلاقا من قاعدتها الشهيرة القائلة: «لا إله والحياة مادة»، رادةً بذلك كل ما في الحياة من موجودات وعلاقات إلى عناصر مادية وجدت من العدم، تتصارع في ما بينها، لإنشاء موجودات وعلاقات جديدة، وإعادة إنتاج أشكال الحياة.
ذلك هو جوهر الفكر الشيوعي، الذي يجعل من المادة وعلاقاتها أساس كل شيء. فكيف يكون لمثل ذلك الفكر المنكر لوجود الله علاقة بالإسلام وأهله، في الوقت الذي يقدم فيه الإسلام رؤية مغايرة، بل ومناقضة تماما لحقيقة الوجود، تقوم على القول بوجود خالق للمادة ومتجاوز لها يدبر الكون، اقتضت حكمته وإرادته خلق الإنسان لإعمار الأرض وفق هدي السماء، وإرسال أنبياء يحملون رسالة دينية جوهرها واحد، وإن تعددت نسخها، لضمان هداية هذا الإنسان وتمكينه من أداء الدور الذي وجد من أجل القيام به على أفضل نحو ممكن، قبل أن يعود بعد مماته إلى خالقه، ليتلقى الثواب أو العقاب حسب درجة جديته والتزامه بأداء ذلك الدور الذي خلق للنهوض به.
كما هو واضح، فإن من يتبنى الطرح الشيوعي لا يمكن أن يأحذ الطرح الديني الإسلامي على محمل الجد، مهما زعم خلاف ذلك. ولا يمكن له في الآن عينه أن يحاول التوفيق بين الطرحين، إذ إن محاولته ستكون مجرد محاولة تلفيقية فاشلة، تتخبط وتلهث عبثا للجمع بين متناقضات لا يمكن الجمع بينها.
من جانب آخر، فإن الإسلام، بوصفه آخر الرسالات السماوية، جاء بشريعة عملية متكاملة توضح للمسلم، وبالتفصيل الدقيق، نهج الحياة الذي ينبغي عليه اتباعه، في مأكله ومشربه وملبسه وعمله وعلاقاته المتعددة الأدوار، كرئيس ومرؤوس، وأب وابن، وأخ وزوج، وجار وصديق، وطالب وأستاذ …الخ. ومن ثم؛ ولكي يتمكن المسلم من استيعاب الأبعاد الأخلاقية والمسلكية لذلك النهج الحياتي وتمثل تلك الأدوار وتأدية متطلباتها حسب المنظور الإسلامي على نحو سليم، فإنه يحتاج إلى نماذج إسلامية موجهة يقتدي بها. فإذا ما سألت المسلم عن النماذج التي يهتدي بها، فإنه سيقول لك إنها تبدأ بالنبي عليه الصلاة والسلام، الذي ينبغي أن يكون الأسوة الحسنة الأولى لمن كان يرجو لقاء الله واليوم الآخر، مرورا ببعض صحابته الكرام الكبار، من أمثال أبي بكر وعمر وعثمان وعلي.
أما صاحبنا الشيوعي المخلص لفكره، فإن النماذج التي سيختارها ليهتدي بهديها في فكره وسلوكه لن تخرج بعيداً عن نطاق كارل ماركس أو لينين أو تروتسكي أو جيفارا أو ماو تسي تونغ، بكل ما في هذه النماذج من انحرافات فكرية وعقدية ومسلكية.
ولا أدري كيف يتجرأ بعد ذلك، كما فعل عادل إمام، على الإستمرار في الزعم بأنه من الأتباع المخلصين لمحمد ودينه، من خلال ترديد بعض العبارات الدينية وأداء بعض الشعائر، التي قد يظنها لجهله المطبق بالإسلام تغني مؤديها عن وجوب الإيمان بما خلفها من منظومة عقدية شاملة، لا يكون المسلم مسلماً صادقا حقا، إن لم يعتقد بها بيقين وعمق، وإن لم يجتهد قدر استطاعته في العمل على تطبيق أحكامها دون أحكام غيرها من المنظومات البشرية القاصرة الأخرى، بوصفها المنظومة الوحيدة الصحيحة بالضرورة، وذلك بحكم مصدرها المطلق الحكمة والعلم، الذي هو الله تعالى نفسه.
إن من يرفع شعار العدالة الإجتماعية مثلا، الذي يمثل واحدا من المحاور الأساسية للخطاب الشيوعي، معتمدا على المرجعية الشيوعية لتفسير مفهوم تلك العدالة وتحديد أبعادها، يطعن بشكل تلقائي وضمني في الشريعة الإسلامية. إذ إن لسان حاله يقول إن الإسلام يتسم بالنقص والعجز عن معالجة مشكلة العدالة الإجتماعية، ولذلك فإنني اضطررت لاعتماد الحل الذي يقدمه الفكر الشيوعي لتلك المشكلة، المتقدم بالضرورة على الحل الإسلامي الذي لم يقنعني، ولذلك لجأت إلى غيره!
من حق الإنسان بكل تأكيد أن يعتقد بما شاء، ولكن ليس من حقه أن يكذب وينافق ويدلس على الناس. وإذا كان عادل إمام يفهم في الفكر الشيوعي ويحترمه حقا، فإن عليه ألا يحاول تشويه حقيقة هذا الفكر، وخداع المجتمع العربي المسلم بالزعم بأن ذلك الفكر لا يتعارض في شيء مع الإسلام. فالشيوعي الصلب الملتزم بفكره، الذي يجاهر بحقيقة هذا الفكر ولا يضلل الناس أو يرتدي الأقنعة، حتى وإن كنا نختلف تماما مع طرحه ونجزم بتهافته، هو أجدر بالإحترام أكثر بمليون مرة من نظيره المدعي الأفاق، الذي يدفعه جبنه وانتهازيته للظهور بمظهر المسلم التقي في بعض المواقف، وهو لا يكنّ للدين الإسلامي في حقيقة الأمر إلا التشكيك والاستخفاف، وإلا لكان من الداعين إلى تطبيق شريعة هذا الدين، بدلا من دعوته لتطبيق شريعة ماركس!