ولا كنفحتك يا رمضان

ها هو ذا الضيف الكريم قد أشرف على الرحيل، وقد استمتعت الأمة بتنزل الرحمات والسكنات على قلوب أبنائها، وسادت الطمأنينة والإحسان في أرجائها، وامتلأت الأرض رضى من الله بما قدمت أيدي الناس من صالح الأعمال، وطيب الأقوال، وحسن الإقبال، امتلأت بيوت الله بالركع السجد، والذاكرين الهجد، آناء الليل وأطراف النهار، وحيت القلوب من جفائها فعمت الصدقات، وكثرت الهبات، وكسى الوجوه بهاء قل نظيره، فلا رفث ولا فسوق ولا جدال إلا قليلا.



فعاش جل الناس زمانا استثنائيا من أيام الله، في طاعة المولى سبحانه وتعالى، فيالله ما أعظم العبادة وما أجلها، وما أسعد القلوب وما أفرحها، عندما يطرق بابها داعي الإيمان فتجيب، ويغشاها حب الله فتنساب دموع التقصير على محيا العبد فينيب، وتصيب رعشة الخشوع باقي الجوارح فتلبي نداء القلب المهيب.



إن زمان رمضان بأيامه ولياليه، هو النموذج الأمثل ليوم المؤمن وليلته، هو الصورة المثالية التي ينبغي أن يعيشها العبد المؤمن ويعض عليها بالنواجد سائر أيامه ولياليه، هي وظيفة العبودية التي من أجلها خلق الإنسان: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، إن بواقي أيامك تنصرم يا رمضان، وإن قلوب أحبابك لتحزن، وعيون مضيفك لتدمع، وإنا على فراقك يا درة الزمان لمحزونون.



أحب الأعمال إلى الله أدومها

وكأننا بصبح اليوم الثاني من أيام شوال قد انفلق، وقد خفت صفوف الصلاة من الزحام، وقل عددها، فتركت صلاة الجماعة، وهجرت المساجد إلا ممن رحم الله، وأقيمت المصاحف في رفوفها لرمضان القابل، وعاد الناس إلى هرجهم ومرجهم، لا يفعمهم زاجر، ولا يزجرهم وازع، وإنه لعمري مايعانيه الفرد المسلم من انفصام في شخصيته، وهفوة في تربيته، وانجرافه نحو العادة، أكثر منه تمسكا بروح العبادة.



فرمضان مدرسة قضى كاتبها على العباد سبحانه أن تكون مناط التقوى، وثمرة استقامة لما بعدها في قابل الأيام، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] ليس معناه أن يبقى المسلم بحزمه وجده على ما كان عليه أيام رمضان، فهذا ما يعز طلبه، ويقل رواد همته، ودونه همم الرجال الرواحل، لكن المحافظة على الفرائض وهجران النواهي والإصابة من نزر النوافل أدنى ما يحرص عليه المسلم.



فإذا كان رمضان روضة من رياض الرحمن، أخذنا منها من الطهارة والإنابة ما سقلت به القلوب، وروضت به النفوس، حتى أن الكثير من أمة المصطفى صلى الله عليه وسلم حسن ظن بالله وبالناس قد ودعوا رمضان وهم كما ولدتهم أمهاتهم، مصداقا للحبيب صلى الله عليه وسلم: "من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه"، ومنهم التائب النادم على سالف الأيام وما اقترفت يداه، وقد ذاق حلاوة العبودية ولا شك، وهو يكابد نوازع النفس، ونزغات الشيطان، محافظا على فرائضه، ممسكا جوارحه عن محارم الله، فحدثني بربك، بعد هذا، {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ} [الأنعام: 71].



إن الله تعالى قسم أرزاق الأعمال بين العباد كما قسم المعاش بينهم،{فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر: 32]، وعلى قدر الطلب تعطى، وعلى قدر همتك تعز، ومطالب الإسلام من أمر ونهي يشترك فيها الكل، فلنسدد ولنقارب، ولنصبغ حياتنا بصبغة الله التي اختارها لعباده، فقد بنينا مع ربنا عهودا في رمضان، وأقبلنا فقبلنا فضلا منه ورحمة، وغزلنا حبل التوبة والإنابة، فلا نكون {كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا} [النحل: 92]، فإن الله يحب العبد الملحاح، الثابت الجأش، الدائم العمل، يخطو نحو الآخرة وهو في إقبال دائم، وسعي قاصد، فعنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَاعْلَمُوا أَنْ لَنْ يُدْخِلَ أَحَدَكُمْ عَمَلُهُ الْجَنَّةَ وَأَنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ"، "وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا عَمِلَ عَمَلًا أَثْبَتَهُ".



واعبد ربك حتى يأتيك اليقين

قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، فوظيفة العبودية أمر لازم للعبد، شكرا لخالقه الذي أوجده من عدم، وأنعم عليه بنعم لا تعد ولا تحصى {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [النحل: 18]، واعترافا بضعفه وحاجته الدائمة لربه {يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر: 15]، ولنصغ لربنا جلت قدرته، يحدثنا عن حقيقة الإنسان وافتقاره لربه:



"يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عارٍ إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا على صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه".



وإنما يعبر عن المسلم عن خضوعه واضطراره وحاجته لمولاه، بسجوده وركوعه، وذكره ودعائه، وحيائه منه وتوقيره، والاستجابة لأمره ونهيه، فلا يفتقده حيث أمره، ولا يجده حيث نهاه، في حله وترحاله، في وحدته وجمعه، في أمسه ويومه وغده، ثابتا صابرا محتسبا، لا يخصص بالعبادة زمانا دون آخر، ولا مكانا دون سواه، إلا تعرضا لنفحات اختص الله بها زمانا ومكانا بعينعهما، طلبا للزيادة والغنم.



فالرب جلت قدرته هو المقصود بالعبادة، يفنى الزمان والمكان، والحق باق {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن: 26]، فرب رمضان هو نفسه جلت قدرته رب شعبان وشوال وسائر الشهور، فاجعل صلاتك ونسكك ومحياك ومماتك لله رب العالمين، {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99]، ويقينك يوم تقبل عليه مودعا دنياك، لتقيم خالدا في حياة أخرى، قوامها عبوديتك في هذه التي تحياها.


قصة الإسلام