يعيش الإنسان في المجتمعات الاستهلاكية الرأسمالية المعاصرة علاقة متوترة جدا مع المحيط البيئي بسبب جهله المطبق لنواميس الطبيعة، و لسوء فهمه الكبير لحاجات البيئة و حدود قدرتها على حمل أعباء الأنشطة البشرية الإنتاجية و الاستهلاكية التي لا حدود لها. و من المفارقات العجيبة في تعامل الإنسان الاستهلاكي مع الطبيعة تذمره و ضجره على الدوام مما تلحقه به تقلبات الظواهر الطبيعية من إتلاف الخيرات و قطع الأرزاق و الفتك بالأرواح و الممتلكات. و يطلق على هذا كله إسم 'الكوارث الطبيعية'. في مقابل ذلك، لا يهتم الإنسان الإستهلاكي بما تحدثه غزواته الاقتصادية و أنشطته الاستيطانية و التوسعية للمحيط الحيوي من تحطيم لمواطن الكائنات الحية و تخريب للنظم البيئية و استنزاف للموارد الطبيعية غير المتجددة، فتجده يضع دائما تلك الأنشطة و العمليات الإنتاجية في خانة التنمية و التطوير والتهيئة و الازدهار و التقدم و الرفاهية و إشباع الحاجات الأساسية. لكن حتى عندما تكون نتائج ما يسمى التطوير و التقدم و الإزدهار كارثية على البيئة و على الإنسان نفسه، قلما نجد من يعتبر الأمر كارثة من صنع البشر. و الخلاصة أن الإنسان الإستهلاكي في تعامله مع الظواهر الطبيعية يقيس الأمور بمكيالين. فيخفي كوارثه البيئية الفظيعة وراء شعارات التنمية و التقدم و التطوير و التعمير و البحث عن الرفاهية، لكن بمجرد ما 'تغضب' الطبيعة كما يتصور، تكال التهم الغليظة لها و تحمل وزر الإضرار بحياة الإنسان و تدمير مقومات حياته. و في كل مرة 'تغضب' الطبيعة فتدمر و تخرب لا يكلف هذا الإنسان الجشع الطماع نفسه إلا قليلا عناء البحث عن أسباب غضبها إلى أن تغضب مرة أخرى. هذه المفارقة و سوء الفهم الكبير لسلوك الطبيعة و سننها و حاجاتها تطرح سؤالا جوهريا حول معنى 'الكوارت الطبيعية' في تصور الإنسان الإستهلاكي. إن المتأمل لسير الأنشطة البشرية و العوامل المتحكمة في نمو و تطور الحياة البشرية بعد الثورة الصناعية، أم الاقتصاد الرأسمالي، و الناظر في المقاصد الكبرى للتوسع العمراني و ازدهار النشاط الإقتصادي و اتساع آفاقه و أدواته و مجالاته في ظل توجيهات هذا الإقتصاد و أغراضه، يجد أن ما يطلق عليه الإزدهار و الرفاهية و تحسين ظروف العيش، ليس، في معظم جوانبه، سوى حصيلة لتدمير هائل للمحيط البيئي و تحطيم واسع لمكوناته الحيوية و إتلاف لا مثيل له لمقومات الحياة على كوكب الأرض. هل سألنا أنفسنا يوما عن الثمن الحقيقي للرخاء الذي بلغته مجتمعاتنا اليوم ؟ و هل ندرك حجم الخسائر و الكوارث البيئية التي قام على أنقاضها المجتمع الإستهلاكي ؟
إن إقتصاد الرفاه الذي قامت عليه المجتمعات الرأسمالية الإستهلاكية ليس سوى ثمرة للخراب الفظيع الذي تعرضت له الأنظمة البيئية و الاستغلال الجائر و الهائل للموارد الطبيعية. و في ظل مجتمع الوفرة الذي يطمح البشر جميعا للتنعم به، و الذي يتسع نطاقه يوما بعد يوم و يدور حوله تنافس الدول، هل من المعقول أن نكيل التهم للطبيعة الأم بنشر الكوارث و الخراب و الدمار على كوكبنا ؟ هل شرعت الطبيعة الأم في قتل أبناءها ؟ و إن غضب الطبيعة الأم هو من عقوق أبناءها البشر. و الجميع يعلم اليوم أن تدهور الطبيعة و تراجع مواردها هو نتيجة للسياسيات البشرية الفاسدة و للتصرفات الجشعة و الحماقات الإقتصادية و الأطماع اللامحدوة في استهلاك و استنزاف المواد الأولية و الزيادة من هامش الربح بالرفع من كمية الإنتاج. و أدى الإستغلال الفاحش للموارد الطبيعية بسبب تعميم الدورة الإقتصادية الرأسمالية المدمرة و عولمة الثقافة الاستهلاكية إلى إختلالات عميقة لا سابق لها في وظائف النظام البيئي العالمي و المحلي مما يدل على أن 'الكوارث الطبيعية'، محلية كانت أو عالمية، هي ردود فعل طبيعية من الطبيعة على تصرفات الإنسان الفاسدة و سياسياته الخرقاء. لذلك فالإنسان الإستهلاكي هو الذي يقف وراء ما يسميه 'غضب الطبيعة'. و قد ثبت أن أثر 'الكوارث البشرية' على مقومات الحياة على كوكب الأرض أفدح و أخطر و أدوم و أشد فتكا من أثر 'الكوارث الطبيعية' عليها.
هذا ما أظهرت دراسة قامت بها إحدى الجامعات الأمريكية على 2006 حول المقارنة بين حجم (الأضرار البشرية) و (الأضرار الطبيعية) على التوازن البيئي و على جودة المناظر الطبيعية في النظم البيئية الكبرى في العالم. في الغابات الإستوائية مثلا أظهرت الدراسة أن49 % من حجم إتلاف النظام البيئي بشري مقابل6 % فقط إتلاف طبيعي. و أن53 % ضرر بشري مقابل 4 % فقط ضرر طبيعي في الغابات المطيرة الدافئة. أما في منطقة البحر الأبيض المتوسط فالضرر البشري بلغ نسبة55 % مقابل17 % ضرر من أصل طبيعي. مما يعنى أن الأنشطة البشرية في السواحل الشمالية للمغرب مسؤولة عما يزيد عن نصف حجم التدمير الذي تعرضت له الأنظمة البحرية و الساحلية و الجبلية من إتلاف لتوازناتها الدقيقة و تفكيك لترابط عناصرها و تحطيم مكوناتها النباتية و الحيوانية. على ألا ننسى أن ما يسمى 'الإتلاف الطبيعي' أو الذاتي للبيئة الذي بلغ17 % في منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط يعود لأسباب بشرية قريبة و بعيدة. فالطبيعة لا تخرب نفسها و لا تحطم ذاتها إلا إذا كان الإنسان هو السبب في ذلك. و مهما يكن الأمر فإن بحوثا و دراسات بيئية متخصصة كثيرة أثبتت في جميع الأنظمة البيئية و المواطن الكبرى للكائنات و الأحياء في العالم أن الفارق واسع جدا بين حجم 'الضرر البشري' و 'الضرر الطبيعي'، أي بين 'الكوارث البشرية' و 'الكوارث الطبيعية'. و أصبح من المسلم به اليوم أن إختلال التوازن البيئي فعل بشري.
توجد فوارق جوهرية كثيرة أخرى بين الإفساد البشري للبيئة الطبيعية و الأضرار الناجمة عما يسمى بالكوارث الطبيعية. في حال الأضرار الطبيعية مثل الفيضانات أو موجات الجفاف أو حرائق الغابات على سبيل المثال، تملك الطبيعة قدرة عجيبة للتكيف مع الأوضاع الناجمة عن تلك الأضرار، و سرعان ما تستعيد الأنظمة البيئية المتضررة، إذا ما ترك لها الوقت الكافي لذلك، توازنها الطبيعي و وظائفها الأصلية. و للعلم فإن الحياة على كوكب الأرض نشأت من سلسلة طويلة من عمليات الهدم و إعادة البناء. و على هذه الثنائية الضدية تقوم دينامية الأنظمة البيئية. و علينا أن نفهم أن موجات 'الغضب' المتكررة للطبيعة على ذاتها هي من صميم الوظائف الإيكولوجية للمحيط الحيوي. و أي زيادة مفرطة و مضرة في تلك التقلبات الطبيعية الغاضبة فبما كسبته أيدي الناس. كما أن مفهوم 'الضرر الذاتي' في الطبيعة مفهوم نسبي مهما بلغت قوته و حجمه. و هو أصل من أصول حيوية الطبيعة و نشاطها المتجدد. فتمهيد الأرض للإنسان مر قبل ملايين السنين من سلسلة من 'الكوارث' كالزلازل و البراكين و الحرائق و الأعاصير و العواصف الرملية و الثلجية و الصقيع و التجمد. و هذه في مقياس الإنسان أضرار جسيمة، لكنها في المحيط الحيوي هي من ضرورات الحياة، و هي سر الثراء و التنوع و القوة الجبارة في الطبيعة. أما ما أتلفه الإنسان فلا يعود أبداً إلى وضعه الأصلي إلا إذا بذلت الجهود الجبارة و صرفت الأموال الكثيرة في الترميم و الإصلاح و هو محال.
لذلك يختص الضرر البشري المتجاوز للحدود المعقولة بكونه ضررا نهائيا لا رجعة فيه، أي من الصعب جدا إصلاحه. و قوانين الطبيعة لا تعرف شيئا إسمه ضرر بلا رجعة كالذي تخلفه الأنشطة البشرية الجشعة. كل ما تحدثه الطبيعة من أضرار سرعان ما يعود إلى وضعه الأصلي و يزيد المحيط الطبيعي ثراء و قوة و تنوعا و جمالا. و الطبيعة قادرة على إعادة إعمار نفسها و إصلاح أضرارها تلقائيا و دونما حاجة إلى مشاريع و خطط و تمويل و مكاتب هندسة و خبرات و استشارات أجنبية و تقارير و لجان و إجتماعات لا حصر لها. كما أن المناظر و المشاهد الطبيعية لها قدرة هائلة على استرجاع جمالها و رونقها و تنوعها المفقود بعد كل عاصفة طبيعية غاضبة. لكنها تفقد فجأة تلك القدرة على الإصلاح و الترميم الذاتي كلما تعرضت لمشاريع 'تنموية' و خطط توسعية و استيطانية بسبب ارتكاز تلك الخطط و المشاريع على سياسات مجالية خاطئة و خطط عمرانية غير عقلانية لأنها ترتكز على كون الإنسان سيداً للطبيعة و مهيمنا عليها.
و الحكمة القائلة 'كم من حاجة قضيناها بتركها' تنطبق تماما على الإصلاح الذاتي للأضرار البيئية التي يبدو أنها أحيانا من قبيل الحاجات التي تُقضى بتركها بعيدا عن تدخل الإنسان. أما قدرة الطبيعة و براعتها الفائقة في التكيف مع نتائج 'الكوراث الطبيعية' فهي من صميم النشاط الإيكولوجي. هذا النشاط يتعطل و يعطب بمجرد ما يتدخل فيه الإنسان الإستهلاكي، بسبب أنه كائن أناني لا ينطلق إلا من الرغبة في الرفع من مستوى رفاهية عيشه و الزيادة في الإنتاج و توسيع آفاقه الإقتصادية. لذلك قليلا ما يهتدي إلى استثمار الطبيعة و استخدام خيراتها في الإنتاج المثمر و المستمر لصالح الإنسان. إنما يقوده الطمع الأعمى إلى جني الثمار بأقل تكلفة فيدوس على قوانين الطبيعة و يحملها ما لا تطيق باحثا عن الإستغلال و الإستنزاف و السيطرة بغرض الربح قريب الأمد. و نتيجة لهذا الطمع المحكوم بفوضى الإستهلاك و الأنانية الرأسمالية اللامحدودة، تنتشر الكوارث الطبيعية و يتسع نطاقها و تزيد قوتها التدميرية لأن تدخل الإنسان لا يضع في الحسبان حاجات الطبيعة إلى موارد و إلى مقومات العيش بسبب اعتبار الطبيعة كائنا ميتا لا حاجة له إلى الماء و الهواء و الطاقة و الغذاء.
و باعتبار الإنسان الرأسمالي نفسه سيدا على الطبيعة، ظن أن لا شيء على كوكب الأرض يملك الحق في إشباع حاجاته و أن لا حاجات على كوكب الأرض إلا الحاجات الإنسانية. و يعتقد خاطئا أن الموارد الطبيعة ملكه لوحده. هذه الأنانية الفاحشة تنقلب ضد الإنسان في شكل احتجاجات غاضبة و ضربات صاخبة من الطبيعة و هي تحاول استرداد ما ضاع منها من حقوق و حاجات حيوية لا تستمر في البقاء إلا بتوفرها لأنها كائن حي يتغذى و يتنفس و يرتوي و يلفظ المخلفات و يمرض و يموت. و خلاصة القول إن أكثر الكوارث ضررا على الإنسان اعتقاده أن الطبيعة مادة لا حياة فيها و لا روح بسبب الفكر الرأسمالي المتحكم في تصوراته للمحيط الطبيعي. و يحق لنا في الختام أن نستنتج أن الإتلاف و الإفساد و الإهلاك من أخص خصوصيات الإنسان المتمرد عن سنن الطبيعة. و هذا ما يشير إليه استفهام الملائكة عندما أخبرهم الله تعالى بأنه جاعل في الأرض خليفة فقالت الملائكة 'كيف تجعل فيها من يفسد فيها و يسفك الدماء' ؟