من ماراق لي قصة "درس في العطاء"
للكاتبة احلام الرحال
كثيرا ما أتعلم دروسا هامة من ابن أختي الصغير. هذا الطفل الذي يصفونه دائما بالمشاغب والمتمرد
إنه في السابعة من عمره اليوم، يلعب دوما في الحي مع صديق له في مثل سنه. طفل لأم وأب على مشارف الطلاق، يعيش كل منهما بعيدا عن الآخر، أقرت محكمة شؤون العائلة والخدمات الاجتماعية بعدم أهلية الأم لحضانته، فسلمت الحضانة لأبيه. وبما أن أباه لا يملك الوقت الكافي والقدرات اللازمة لرعايته، قام بإرساله إلى بيت أمه (جدة الطفل) ليعيش معها ومع بناتها
كثيرا ما نلاحظ أن الطفل غير مستقر نفسيا، قليل الثقة بنفسه، خائف، لا يملك الجرءة والشجاعة الكافيتين ليجاري أبناء جيله في اللعب، وكثيرا ما يعتمد في قراراته ومبادراته على قوة ابن اختي وثقته بنفسه ليقوم ببعض الأمور الصغيرة
كمحاولة منا في العائلة للتعويض عما يعيشه الطفل، وإحساسا بالتعاطف معه، في كل مرة يزورنا فيها مع ابن اختي نقوم بإعطائهما سوية مبلغا من المال ليشتريا من دكانة الحي ما يشاءان. هذا الأمر أغاظ ابن اختي كثيرا، وسألني على انفراد متمردا: لماذا تعطونه مالا؟ أنتم لستم مسؤولون عنه
حبيبي نحن نعطيه تعاطفا معه لأنه يعيش بعيدا عن أمه وأبيه كما تعرف –
وماذا في ذلك؟ –
قد يكون الأمر محزنا له، فنريد أن ندخل إلى قلبه السرور مثلك –
وما دخل النقود؟ –
.قد تجعله سعيدا مثلك حين يشتري ما يريد –
ولكنه دائما سعيد بالنقود التي يحملها. إنه يحمل أكثر مني. جدته تعطيه الكثير الكثير، وحين أكون معه عندها لا –
تعطيني شيئا، فكيف تعطونه أنتم؟
-أنت تعيش مع أمك وأبيك حبيبي.. عندما تبكي وتحتاج أحدا تجد أمك إلى جانبك ولا أحد إلى جانبه
-حتى ولو.. لديه جدته. ثم عندما سافر بابا وماما إلى الخارج بقيت معكم هنا ومع جدتي ولكن أحدا لم يهتم بالأمر –
.ولم تعطني جدته نقودا..
صمتُّ. أخرسني بوصف أدق.. أحيانا يرى الأطفال الأمور من جوانب أخرى ويظهرونها لنا. لم أجد إجابة لأسئلته، وفكرت أن أشرح له أكثر عن الصعوبات النفسية التي يمر بها الطفل في ظل صراعات والديه خلال الطلاق حتى أبرر له سبب عطائنا. لا لا .. لا أريد أن أعكر صفو طفولته ولا علاقته بصديقه. ثم حقا ما شأن هذا بالأمر؟
.صدق ابن اختي حين سأل: وما دخل النقود؟ هل يحتاج هذا الطفل المال حقا؟ كلا.. فلديه ما يكفي فعلا
هل إعطاء الناس المال أو الطعام يجيب بالضرورة عن الحاجات التي يريدونها؟ أم عن حاجتنا نحن للشعور بالاكتفاء بأننا قدمنا شيئا والسلام
إن العطاء هو أن تعطي الآخر ما هو في حاجة إليه. وقد تكون هذه الحاجة نفسية، مادية أو اجتماعية، يمكننا تقديمها بأبسط الأمور دون أن ندري: كالاهتمام، والمحبة، وأن نشعر الآخر أننا إلى جانبه
ثم علينا الحذر من العطاء السلبي، ذاك الذي يرتكز على الشفقة، والذي قد يؤلم الآخر ويشعره بضعف حيلته. ومع الوقت قد يعلمه التظلم واستعطاف غيره للحصول على ما يريد. وقد يكون من الخطر أيضا أن يتعلم ابن اختي هذا الوجه للعطاء والتذرع بالعجز والسلبية للحصول على ما يريد
وظل سؤال أخير عالق في ذهني، أي العطاءات أفضل: تلك التي توزَّع بالتساوي على الناس فيبدو أنهم نالوا نفس الحصة في النهاية، لكن بقيت الثغرة الأساسية بينهم ذاتها؟ أم تلك التي تسد الثغرات الأساسية وتوزع العطاءات بأسلوب مختلف، بحسب نوع الحاجة ومقدارها لكل فرد وآخر؟
أسئلة كثيرة وردت في خاطري،ألملمها وأربطها في النهاية بما قاله جبران: أنت رحوم إذا أعطيت. لكن لا تنسَ وأنت تعطي أن تدير وجهك عمن أعطيت حتى لا ترى حياؤه عاريا أمام عينيك
شكرا أيها الصغير.. رغم ما حمله غضبك من غيرة طفولية خفية، لقد أتحت لي الفرصة لأعيد النظر في الأمر من جديد