الذاكرة هي نوع من المقاومة، والفن هو الذاكرة التي تبرز حيوية الأمم وانحيازهم للجمال والحياة. وقد أثبت الفن من خلال عدد من الأعلام في مجال الفن العربي، وبينهم التشكيليون إسماعيل شموط وسليمان منصور ومحمود المختار، أهمية الصورة في المقاومة وإنعاش الذاكرة، وتحدي محاولات المحو والتزوير التي يمارسها الاحتلال الإسرائيلي على التاريخ والجغرافيا.
وقد انتبه مؤلف الكتاب هشام الخطيب، وهو مهندس كهربائي، إلى أهمية الذاكرة البصرية التي تحققت من خلال أعمال فنانين عالميين قاموا بتصوير القدس بانوراميا، ليعهد بها إلى الأجيال ضمن كتاب حمل عنوان 'القدس.. مشاهد بانورامية'. ويوثق الألبوم الملمح العمراني القديم في مدينة القدس من خلال اللوحة التشكيلية التي صورت المدينة منذ ما يزيد على خمسمئة عام، وتحديدا منذ الحكم العثماني لفلسطين.
وربما يكون الجهد الذي قام به المؤلف مسبوقا في عدد من المدن، ومنها روما، غير أن مدينة القدس التي أسسها اليبوسيون قبل ثلاثة آلاف سنة، تعد من أكثر المدن التي تناولها الباحثون بالدراسة والتأليف.
اهتمام عالمي
فالقدس هي المدينة الوحيدة التي تحظى باهتمام الديانات السماوية الثلاث، وهي من بين أكثر المدن التي صورها الرسامون والفنانون في القرن الـ19، وتناولها الباحثون بمئات الآلاف من عناوين الكتب والدراسات والأطروحات الأكاديمية، وعشرات الآلاف من اللوحات العربية والأجنبية وملايين الصور الفوتوغرافية.
و'القدس.. مشاهد بانورامية' لا يقتصر على إبراز أعمال الفنانين الأوروبيين منذ 1486 وحتى العام 1936، وهي الفترة المحصورة بين الحكم العثماني والاستعمار الأوروبي لفلسطين والقدس، بل تشي بالأحداث والحروب والزلازل التي تأثرت بها المنطقة وبيوتها وعمارتها، ومنها زلازل عام 1927.
والواقع أن التغيير على المدينة المقدسة لم يتوقف على فعل الحروب، بل تأثر بالتوسع والزيادة السكانية والعمرانية بالبناء والإضافة، في عهد الإمبراطورية العثمانية، من المستشفيات والمدارس والأسوار.
وخلال تلك الفترة، قام عدد من الرحالة والرسامين بتصوير المدينة من مناطق وزوايا مختلفة تبرز تموضعها في المكان من جهة، ومن جهة أخرى تظهر مكانها وموقعها من العالم القديم، وكانت أول الخرائط للمدينة المقدسة ما أظهرته خريطة عام 565 قبل الميلاد، وتسمى خريطة 'مادبا'.
وبالنسبة للقدس والمكانة التي تحظى بها عند الديانات السماوية الثلاث، فقد تعددت أهداف الرسامين بين التصوير لتزويد القادة العسكريين بطبيعة المكان، كما فعل الفنان جيمس مكبي الذي رسم مدينة القدس عندما رافق القائد البريطاني إدموند اللينمبي عام 1917، أو بتكليف من البابوية لرسم الجغرافية التوراتية في حقبة الاستشراق التي تزامنت مع الاستعمار الأوروبي للمنطقة العربية في القرن الـ19، كما فعل دافيد روبرتس الذي رسم القدس ضمن مشروع رسم 'الديار المقدسة'.
توثيق بصري
وهناك من رسم المدينة المقدسة من الرحالين أو الحجاج، ولم تكن الرسومات في كل الأحوال نتيجة الزيارة للمكان، بل هي مثل غالبية الروايات التي كتبت في الفترة التي سبقت الحروب الصليبية لرواة لم يغادروا أوروبا، ومثلهم بعض الرسامين الذين قاموا برسم المدينة المقدسة من الخيال والوصف أو تقليد لأعمال فنانين آخرين.
وكان نتيجة هذه الأعمال نحو ثلاثمئة لوحة وغلاف كتاب وملصق في المتاحف العالمية، حاز منها كتاب 'القدس.. مشاهد بانورامية' ربع عدد اللوحات المنتشرة في العالم.
ولم يتوقف المؤلف عند اختيار صور اللوحات، وهي من مقتنياته التي لا تقدر بثمن، بل كان يلقي الضوء على تقنيات اللوحة، وأسلوب الرسام الذي نفذها، ومحتويات بعضها، وتحديدا اللوحات التي تشتمل على أسماء للمرافق والقرى المحيطة والشوارع والحارات والعلامات التي لم يعد الكثير منها موجودا الآن بسبب ممارسات الاحتلال التي هدفت لمحو معالم المدينة وتغيير هويتها العربية الإسلامية.
ويقول الخطيب إن أهم المناظر التي تؤرخ للقدس 'تم رسمها من قمة جبل الزيتون التي تظهر فيها قبة الصخرة كمركز للصورة، وللعالم' وفق ما توصف المدينة بأنها تمثل 'سرة الكون'.
ويضيف المؤلف أن الألبوم يوثق كثيرا من الصور الصحيحة والتاريخية للمدينة المقدسة، كما بدت في بداية الفترة العثمانية بالعام 1517، ولم تتغير كثيرا خلال الثلاثة قرون والنصف قرن التالية، أي حتى الاستعمار البريطاني.
وابتدأ التغير والتوسع الفعلي للمدينة نهاية القرن الـ19 عندما توسعت المدينة بسرعة خارج الأسوار، مشيرا إلى أن التوثيق بدأ مع تزايد عدد الرحالة والحجاج للمدينة المقدسة، وخاصة بعد بداية القرن الـ19 وإثر حملة نابليون العام 1798، حيث بدأ التوثيق الحقيقي للمدينة في الانتشار، وأخذ يطغى على التوثيق التوراتي التخيلي.
تاريخ مصوَّر
وتكمن أهمية الكتاب في اشتمال اللوحات على العديد من المرافق التي تظهر تنوع عمران المدينة للديانات، وتعدد أنماط العمارة الرومانية والعربية الإسلامية والتركية والفاطمية.
كما تظهر الصور والرسومات بعض المرافق التي لم تعد موجودة، ومنها المقبرة الإسلامية وحي المغاربة، وتشتمل على عدد من القرى المتناثرة التي اتسعت كثيرا مطلع القرن العشرين، وأصبحت جزءا من المدينة، ومنها قرية سلوان التي اتصلت مع المدينة وغدت جزءا منها.
ويستعرض المؤلف التقنيات المتنوعة التي عمد إليها الفنانون بين خط القلم والمائي والكولاج والزيت والحفر والطباعة، وهي رسومات أصلية نفذت على امتداد خمسمئة عام لنحو خمسين فنانا، وحملت مشاهداتهم لعدد من الأحداث التي غيرت ملامح المدينة، ومنها لوحة متخيلة للفنان دافيد روبرتس عن حرق مدينة القدس زمن الرومان.
كما تكمن أهمية الكتاب، وهو صادر باللغتين العربية والإنجليزية، في كونه أول مدونة بصرية عن مدينة القدس، والأهم من ذلك أن الكتاب يدون بصورة عرضية تطور تقنيات الرسم والطباعة.
منقول