قال صلى الله عليه وسلم: "بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ فطوبى للغرباء"، إنَّ الذي يقرأ ويسمع عن أخبار السلف، وقلة من الخلف يعلم أنَّ الدين يعيش غربة بين أهله، من سمع عن صيامهم، وقيامهم، وجهادهم أيقن أنَّ الواقع اليوم يحتاج إلى مراجعة وتصحيح.
فتعالوا أحبتي ننظر في بعض صور الغرباء في رمضان، ومع الصيام، ونقول ونكرر: عذرًا رمضان!
رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: "خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفارنا في يوم حار حتى يضع الرجل يده على رأسه من شدة الحرارة وما فينا صائم إلا نبينا صلى الله عليه وسلم وابن رواحة".
عثمان بن عفان رضي الله عنه
أما أمير البررة وقتيل الفجرة عثمان بن عفان رضي الله عنه، قال أبو نُعيم عنه: "حظه من النهار الجود والصيام، ومن الليل السجود والقيام، مبشر بالبلوى، منعَّمٌ بالنجوى، تقول عنه زوجه وعن الزبير بن عبد الله عن جده عن جدةٍ له يقال لها هيمه: كان عثمان يصوم الدهر، ويقوم الليل إلا هجعة من أوله". قتلوه وقد كان صائمًا والمصحف بين يديه والدموع على لحيته وخديه، حبيب محمد ووزير صدقٍ ورابع خير من وطأ التراب.
أبو طلحة الأنصاري رضي الله عنه
أما أبو طلحة الأنصاري الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لصوت أبي طلحة في الجيش خير من ألف رجل"، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "كان أبو طلحة لا يصوم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من أجل الغزو، فلما قُبض النبي صلى الله عليه وسلم لم أره يفطر إلا يوم أضحى أو يوم فطر".
أبو الدرداء رضي الله عنه
أما حكيم الأمة وسيد والقراء أبو الدرداء رضي الله عنه فقد قال: "لقد كنت تاجرًا قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم، فلما بُعث زاولت العبادة والتجارة فلم يجتمعا فأخذت بالعبادة وتركت التجارة"، تقول عنه زوجه: "لم تكن له حاجة في الدنيا، يقوم الليل ويصوم النهار ما يفتر".
ابن عمر رضي الله عنه
أما من خبر الإمام القدوة المتعبد المتهجد عبد الله بن عمر رضي الله عنه فيكفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "نعمَ العبد عبد الله"، قال عنه نافع: "كان ابن عمر لا يصوم في السفر ولا يكاد يفطر في الحضر".
وعن سعيد بن جابر قال : لما اُحتضر ابن عمر قال : "لا آسى على شيء من الدنيا إلا على ثلاث: ظمأ الهواجر، ومكابدة الليل، وأني لم أقاتل الفئة الباغية التي نزلت بنا -يعني الحجاج".
أبو أمامة رضي الله عنه
عن رجاء بن حيوة عن أبي أمامة رضي الله عنه: أنشأ رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوةً فأتيته فقلت: يا رسول الله، ادْعُ اللهَ لِي بِالشَّهَادَةِ ، فقال: "اللهُمَّ سَلِّمْهُمْ وَغَنِّمْهُمْ" فقال: فَسَلِمْنَا وَغَنِمْنَا، حتى ذكر ذلك ثلاثة مرات، قال ثم أتيته فقلت: يا رسول الله : إني أتيتك تترى -يعني ثلاث مرات- أسألك أن تدعو لي بالشهادة فقلت: "اللهُمَّ سَلِّمْهُمْ وَغَنِّمْهُمْ" فَسَلِمْنَا وَغَنِمْنَا، يا رسول الله فمرني بعمل أدخل به الجنة، فقال: "عَلَيْكَ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ"، قال: "فما رئي أبو أمامة ولا امرأته ولا خادمه إلا صُيَّامًا، فكان إذا رئي في دارهم دخان بالنهار قيل اعتراهم ضيف نزل بهم نازل".
مسروق رحمه الله
أما مسروق بن الأجدع الذي كان في العلم معروقًا، وبالضمان موثوقًا، ولعبادة الله معشوقًا، قال عنه الشعبي: غشي على مسروق في يوم صائف، وكانت عائشة رضي الله عنها قد تبنته فسمى ابنته عائشة، وكان لا يخالف ابنته في شيء، قال: فنزلت عليه ابنته في يوم، فقالت: يا أبتاه أفطر واشرب. قال: ما أردت يا بنيه ؟ قالت: الرفق -أن ترفق في نفسك أبتاه، قال: "يا بنيه إنما طلبت الرفق لنفسي في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة".
فماذا صنع الله لهم !!، وماذا أعد لهم !!
قال سبحانه: {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا} [الإنسان: 11 - 22].
العلاء بن زياد رحمه الله
وهذا خبر عن المُبشر المحزون، المستتر المخزون، تجرد من التلاد وتشمر للجهاد وقدم العتاد للمعاد: العلاء بن زياد، كان ربانيًا تقيًّا قانتًا لله بكَّاءً من خشية الله، عن هشام بن حسان: أن العلاء بن زياد كان قَوَّتَ نفسه رغيفًا كل يوم، كان يصوم حتى يَخْضَرَّ أو يصلي حتى يسقط، فدخل عليه أنس بن مالك والحسن فقالا له: إن الله تعالى لم يأمرك بهذا كله. فقال: "إنما أنا عبد مملوك لا أدع من الاستكانة شيئًا إلا جئته".
قال له رجل يوما: رأيت كأنك في الجنة، فقال له: "ويحك أما وجد الشيطان أحدًا يسخر به غيري وغيرك".
قال سلمة بن سعيد: رُؤي العلاء بن زياد أنه من أهل الجنة فمكث ثلاثًا لا ترقأ له دمعة ولا يكتحل بنوم ولا يذوق طعامًا، فأتاه الحسن فقال: أي أخي أتقتل نفسك أن بُشرت بالجنة!! فازداد بكاءً، فلم يفارقه حتى أمسى وكان صائمًا فطعم شيئا من الطعام.
قال سبحانه: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا} [مريم: 63].
للهِ دَرُهمْ كمْ علتْ بهم الهمم، وأي كلام يترجم فعلهم!
أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها
عن عبد الرحمن بن قاسم: "أن عائشة كانت تصوم الدهر"، وعن عروة: "أنَّ عائشة كانت تسرد الصيام". قال القاسم: "كانت تصوم الدهر لا تفطر إلا يوم أضحى أو يوم فطر".
بعث لها معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه مرة بمائة ألف درهم فقسَّمتها ولم تترك منها شيئًا، فقالت بريرة : أنت صائمة فهلا ابتعت لنا منها بدرهم لحمًا، فقالت : لا تعنفيني، لو كنت أذكرتني لفعلت.
إنها الصديقة بنت الصديق، العتيقة بنت العتيق، حبيبة الحبيب، وأليفة القريب، المبرأة من العيوب رضي الله عنها وأرضاها ...
أم المؤمنين حفصة رضي الله عنها
أما القوَّامة الصوَّامة حفصة بنت عمر رضي الله عنها وعن أبيها وعن أخوتها وآل عمر، وارثة الصحيفة، الجامعة للكتاب، فعن قيس بن زيد: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم طلق حفصة فدخل عليها خالاها قدامة وعثمان ابنا مظعون، فبكت وقالت: والله ما طلقتني عن شبع، والله ما طلقني عن شبع، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم قد أقبل فتجلببت رضي الله عنها، قال فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: "إنَّ جبريل قد أتاني فقال: راجع حفصة فإنها صوَّامة قوَّامة، وإنها زوجتك في الجنة"، فأي شهادة أعظم من شهادة الله وجبريل لحفصة رضي الله عنها، وأنعم بها من عبادة كانت سببًا لرجوع أم المؤمنين حفصة إلى رسولنا صلى الله عليه وسلم لتبقى له زوجة في الجنة . قال نافع : ماتت حفصة حتى ما تفطر.
رحمة العابدة مولاة معاوية
عن سعيد بن عبد العزيز قال: ما بالشام ولا بالعراق أفضل من رحمة العابدة مولاة معاوية، دخل عليها نفر من القراء فكلموها لترفق بنفسها، فقالت: ما لي وللرفق بها، فإنما هي أيام مبادرة وأيام معدودة فمن فاته اليوم شيء لم يدركه غدًا. والله يا أخوتاه، لأصلينَّ لله ما أقلتني جوارحي، ولأصومنَّ له أيام حياتي، ولأبكينَّ له ما حملت الماء عيناي.
ثم قالت: أيكم يأمر عبده فيحب أن يقصر في حقه !
ولقد قامت رحمها الله حتى أُقعدت، وصامت حتى اسودت، وبكيت حتى فقدت بصرها.
كانت تقول رحمها الله: "علمي بنفسي قرَّح فؤادي وكَلَمَ قلبي، والله لوددت أن الله لم يخلقني ولم أكُ شيئًا مذكورًا".
وكانت رحمها الله تخرج إلى الساحل فتغسل ثياب المرابطين في سبيل الله.
هؤلاء قال الله عنهم: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90]، وقال الله تعالى عنهم حين دخلوا الجنان: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28) فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ} [الطور: 25 - 29].
الشيخ خالد الراشد