من تقرّب إلى الله يتجرّد عن نفسه وأنانيّته
لا يخلو التجرّد عن النفس عن حلاوة خاصّة. أولئك الذين يتقرّبون إلى الله يتجرّدون عن نفسهم وأنانيّتهم. هذه «الأنا» ثقيلة جدّا، ولذلك فهي تثقّل الروح لتبقى على مستوى الأرض بلا أيّ تحليق. هكذا عبّر القرآن عن أولئك الذين تكاسلوا عن أمر الجهاد فقال: (اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْض) [توبه/38]. وفي المقابل كنّا نرى في جبهات الدفاع المقدّس كيف كان المجاهدون والشهداء يخفّون وكأنهم يحلّقون في السماء.
إن تجرّد الإنسان عن نفسه، سوف لا يجرّه إلى الأرض ثقل أنانيّته، بل يحظى بعد ذلك بخفّة وقوّة وبصيرة خاصّة! كالذي تغلّب على قوّة جاذبية الأرض وبدأ يصعد نحو السماء بلا رفرفة. فهو يطير بإرادة خاصّة، وإن قطع إرادته لحظة واحدة يسقط.
الذهول عن النفس يمنح الإنسان قوّة باهرة
لابدّ أن تذهل عن نفسك. يذهل الإنسان عن نفسه بالبلاء أحيانا وبالمعرفة أحيانا أخرى. ولكن حالة الذهول عن النفس من الروعة بمكان بحيث يزداد الإنسان قوّة في هذه الحالة ويقوى! فعلى سبيل المثال يشتدّ ذهنه.
بعد ما يظهر الإمام الحجة أرواحنا له الفداء سوف يمنح كلّ رجل مؤمن قوّة أربعين رجلا؛ «لَمْ يبْقَ مُؤْمِنٌ إِلَّا صَارَ قَلْبُهُ أَشَدَّ مِنْ زُبَرِ الْحَدِيدِ وَ أُعْطِي قُوَّةَ أَرْبَعِينَ رَجُلًا» [الغيبة للنعماني/ ص310] ولا شك في أنه لا تمنح هذه القوّة إلا لأهل الولاء، فلا تعطى لغيرهم. أمّا من أين تنشأ هذه القوّة؟ تنشأ من أوج ذهول هؤلاء عن أنفسهم ومن أوج تقرّبهم. لقد كان المجاهدون في الجبهة يدركون هذه الحقيقة، حتى أنها كانت تسليتهم وكان بها انشغالهم. فقد كانوا منشغلين بالتقرّب إلى الله ومراقبين أنفسهم خشية الابتعاد عنه! وفي سبيل نيل تلك النشوة التي كانوا قد جرّبوها بعض الأحيان كانوا يذكرون الله ويقومون لصلاة الليل. ثم كانوا يودّون أن يستعملوا قوّتهم؛ أي يرسموا ويضعوا الخطط! إذ كانوا يعرفون أنهم إذا عملوا بتلك القوّة سيختلف نتاج عملهم تماما. وتأتي هذه القوّة من شدّة الاتصال والقرب بالله المتعال.
لقد كان المجاهدون قد ذاقوا القرب وعاشوا أجواءه، فكانوا يعملون في ذاك المناخ. ولكن عندما يرجعون إلى مدنهم، كانوا يبحثون عن أجواء القرب الإلهي في أزقّة المدن فلم يجدوا ضالّتهم، لذلك سرعان ما كانوا يفرّون من المدينة ويرجعون إلى الجبهة. طبعا لم يكونوا قادرين على بيان سبب فعلهم. فكانوا يقولون: «لقد ضاق صدري وشعرت بالثقل». إذ لا يمكن التعبير عن هذا الشعور بالكلمات والعبارات.
إن شهر رمضان لفرصة للتقرّب إلى الله
لابد من تذوّق طعم القرب الإلهي وإن شهر رمضان لفرصة لنيل هذا القرب. إن حياة المقرّبين حياة من نمط آخر. فبعد ما تقرّب الإنسان إلى الله سيعيش حياة أخرى. القرب الإلهي يذهب بالإنسان إلى أجواء خاصّة ويمتّعه بشعور خاصّ جدّا. وعلى أيّ حال يختلف الإنسان المقرّب عن غيره! فعندما تقتربون إلى قبور أئمّة الهدى(ع) تختلف مشاعركم، فكيف بكم إذا تقرّبتم إلى الله عز وجل؟!
إن شهر رمضان لفرصة لأن نتقرّب إلى الله أكثر من أي زمان آخر. لابدّ من تذوّق طعم القرب وتحسّسه. فعلى سبيل المثال إن قُبلت توبتك تتقرّب إلى الله. وإن كانت نيتك في أعمالك أن تفعلها لوجه الله، تزداد قربا إليه. وكذلك إن راقبت نفسك لئلا تسخط ربّك، تتقرّب إليه. وإن حزنت على ابتعادك عن الله في لحظات غفلتك، تتقرب إليه. فبإمكانك في أوقات كثيرة أن تشعر بالقرب إلى الله.
لابدّ أن نجرّب حالة القرب ونجد آثارها في روحنا وجسمنا وأفعالنا
يجب أن نجرّب حالة القرب ونجد آثارها في روحنا وجسمنا وأفعالنا! لابدّ أن نشعر بتحوّل صلاتنا! لابدّ أن نكثر الضجيج إلى الله ونطيل الصراخ والعويل بين يديه حتى نجرّب حالة القرب. فليس لنا طريق آخر ولا أي فرصة أخرى.
فلا يجوز التسويف في هذا الأمر. لا تقولوا: «سوف نتقرّب إلى الله في المستقبل»، فإنك إن لم تتقرّب إليه الآن مع أنك أحسن حالا من مستقبلك، فكيف بك في المستقبل وقد ازددت بعدا عن الله؟! فليس هذا الأمر ممّا يجوز تسويفه. فلا يجوز لي أن أسوّف التوبة وأعلقّها إلى إشعار آخر! فلأتب الآن. فإذا كنت أترقب المستقبل لكي تتغيّر ذائقتي وأترك الذنوب وحبّ الدنيا، فلأتركها اليوم ولتتغيّر ذائقتي الآن.
في أجواء القرب يجب أن تستحضر نية التقرّب في جميع أعمالك ليل نهار
إن شهر رمضان لفرصة للتقرب، ولابدّ من تجربة هذه الأجواء التي تجعل من حياتك حياة أخرى. في هذه الحياة الطيبة الجديدة، نحن مأمورون بأن نستحضر نية التقرّب في جميع أعمالنا ليل نهار. كما قال رسول الله(ص) لأبي ذر: «يا أَبَا ذَرٍّ لِيکُنْ لَكَ فِي کُلِّ شَيءٍ نِيةٌ حَتَّى فِي النَّوْمِ وَ الْأَکْلِ» [وسائل الشيعة/ج1/ص48] و «يا أَبَا ذَرٍّ، هُمَّ بِالْحَسَنَةِ وَ إِنْ لَمْ تَعْمَلْهَا لِکَيلَا تُکْتَبَ مِنَ الْغَافِلِين» [أمالي الطوسي/ص536] وکذلك قال الإمام الصادق(ع): «فَلَا بُدَّ لِلْعَبْدِ مِنْ خَالِصِ النِّيةِ فِي کُلِّ حَرَکَةٍ وَ سُکُونٍ إِذَا لَمْ يکُنْ بِهَذَا الْمَعْنَى يکُونُ غَافِلًا وَ الْغَافِلُونَ قَدْ ذَمَّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ إِنْ هُمْ إِلَّا کَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا وَ قَالَ أُولئِکَ هُمُ الْغافِلُون» [مصباح الشريعة/ص53]
نفس نيّة القربة التي يجب أن ننويها عند الصلوات، يجب أن نستحضرها عند جميع أعمالنا وأفعالنا. فكأن الله قد دخل معنا في معاملة تجارية وكأنه قال: «اجعل کلّ أفعالك لي، لكي أشتريها منك كلّها وأجعلك من المقرّبين». فإذا رفض أحد دعوة ربّه ولوّى عنقه، ماذا يجب أن نسمّيه؟
يبدو أن الله بصدد إذاقتنا طعم القرب شئنا أم أبينا!
فعلى سبيل المثال إذا تعبنا وأراد أحدنا أن ينام، يقول الله له: «استرح ونَم لأجلي». ولكننا لا نمتثل أمره. نحن ننام بدون نيّة التقرّب أحد عشر شهرا، ثم يأتي الله في شهر رمضان وكأنه يقرّر أن يذيقنا طعم القرب جبرا. فعلى سبيل المثال يحسب نوم الصائم في شهر رمضان عبادة، يعني يجعل العبد يتقرّب إليه حتى في النوم. ولذلك عندما تنام وتستيقظ، تشعر بحال معنوي جيّد، بينما في باقي الشهور لا تشعر بهذا الحال بعد النوم عادة، إذ تشعر بأنك قد ابتعدت عن الله. ولكن في شهر رمضان ليس نوم الصائم عبادة وحسب بل حتى أنفاسه تسبيح؛ «أَنْفَاسُکُمْ فِيهِ تَسْبِيحٌ وَ نَوْمُکُمْ فِيهِ عِبَادَة» [أمالي الصدوق/93]
حتى الرائحة الكريهة التي تخرج من فم الصائم بسبب صومه، يعتبرها الله أفضل من ريح المسك؛ «وَ الَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ عِنْدَ اللَّهِ أَطْيبُ مِنْ رِيحِ الْمِسْك» [من لا يحضره الفقيه/2/75] فبإمكانك أن تعرف أنّ حتى خلوف فمك قد قرّبك إلى الله. والمورد الآخر هو أنه إذا قرأت آية واحدة من القرآن فكأنما قد ختمت القرآن جميعا. فليت شعري كيف يمنحنا الله تجربة التقّرب إليه أفضل من هذا الأسلوب حيث قد فرض علينا أجواء القرب جبرا؟!
إن بعض الناس يتقرّبون إلى الله بتعظيمهم شهر رمضان
لابدّ أن نتقرّب إلى الله في شهر رمضان. إن بعض الناس يتقرّبون إلى الله بتعظيمهم شهر رمضان. فهم يتقرّبون بهذا الاحترام والتعظيم فمثلا يستقبلون صيام شهر رمضان بعدّة أيّام، أو يحزنون بسبب عدم استعدادهم الجيّد لهذا الشهر. كلّ هذه الأفعال هي من مصاديق تعظيم شهر رمضان.
يبدو أن الله سبحانه بصدد إذاقتنا تجربة التقرّب إليه قهرا! فعلى سبيل المثال في الأسحار يجعلك تستيقظ من نومك أسهل، بحيث لا تقدر على الاستيقاظ بهذه السهولة في باقي الشهور. أو مثلا تقوم وتأكل وتشرب لتتقوّى على صيام النهار، وإذا بالله يثيبك على أكل السحور أيضا، إذ قد جعل أكل السحور مستحبّا. في حين أنه حتى لو لم يكن مستحبّا لقمنا وتسحّرنا قبل الأذان.
إن شعرنا بالقرب، سيصبح كلّ شهر رمضان عيدا
انظر كيف أن اللّه سبحانه عزم على أن يقرّبك إليه ويحتضنك. فحسبك أن تراعي آداب شهر رمضان شيئا ما. فعلى سبيل المثال أحد آداب هذا الشهر هو أنه إذا جادلك أحد وأردت أن تردّه، وقد استحضرت جوابا دامغا جدّا لتردّه به وتقعده في مكانه، فلا تفعل ذلك وقل مع نفسك: «إني صائم فلا أجيبك».
إنّ شهر رمضان لفرصة رائعة للتقرب. فيا ليت كنّا قد ذقنا حلاوة التقرّب. فلو كنّا قد ذقنا حلاوته لخشينا أن تفوتنا هذه الفرصة، واستحوذت الخشية على وجودنا كلّه. ليتنا كنّا قد ذقنا حلاوة حياة المقرّبين ليكون شهر رمضان كلّه عيدا ونبتهج في أيامه ولياليه ونغتبط من صميم قلوبنا في أجوائه لأن لا نضطر إلى مشاهدة برامج الفكاهة وتناقل النكات المضحكة في ليالي شهر رمضان! بينما الآن فيدعوننا إلى مشاهدة البرامج الفكاهية في ليالي شهر رمضان! هذه البرامج هي خاصّة بمن ضاق صدره، لا المؤمن المغتبط بشهر رمضان. فيا ترى هل أصبنا بكآبة أو سئمنا من الحزن والمصاب حتى نحتاج إلى نكات وبرامج فكاهية! وهل نكتئب إذا تقرّبنا إلى الله لنحتاج أن نعوّض عنها بهذه البرامج؟!
يتبع إن شاء الله...