باريس..حلم بدأ ولم ينته بعد
بقلم: د. جواد بشارة
في يوم حارق وشمس لاهبة، كان الهدوء يخيم على كل شيء والصمت سيد الموقف، وقف بمحاذاة النهر وقرر أن يغوص في أعماقه ولن يخرج بعدها ليتوحد مع جسيمات الماء ويرحل معها أينما ذهبت لأنها سبيله الوحيد للخروج من هذا الجحيم. وقبل أن يخطو خطوته الانتحارية انعكست على سطح الماء صورتها، مزدانة بآلاف الأنوار والألوان وهي تناديه من بين سطور هوميروس وضجيج معارك طروادة وتحديات آخيل وصهيل الخيول وصراخ الضحايا، مازلت بانتظارك. كان ذلك قبل أربعين عاماً خلت، عندما كانت باريس ، المدينة وليست البطلة الأسطورية، حلم بعيد المنال كالمعشوقة السماوية التي تقبع خلف دهاليز الأبعاد الخفية ومتاهات المستحيل. حلم يراود مخيلة مراهق غريب الأطوار، رث الثياب ، فقير شبه معدم، جميل الهيأة، لكنه لايملك من حطام الدنيا شيئاً ذا قيمة سوى العقل ومخزون من الوعي المتدفق والمعرفة الدفينة والثقافة والطموح الجامح نحو الجنون.
كيف يمكن الوصول إلى هذه المحبوبة الجميلة العصية على أمثاله ممن لا يجدون قوت يومهم إلا بشق الأنفس؟ تراجع خطوات إلى الوراء وابتعد عن حافة النهر الجارف كأنه يستمع إلى لحن صامت لايسمعه غيره .
كان هناك خيط خفي يربط بين مشاعره ورغباته التي تمتلك جوانحه وعاطفته نحو تلك المدللة المسماة باريس، يتسلل إليها خفية كل يوم، عبر مشاهد فيلمية وصور فوتوغرافية، رغم قلتها وندرتها، صدف أن وقعت بين يديه، وأصوات تخترق الأثير عابرة المدن والمسافات البعيدة، قادمة من باريس الحلم إلى بابل الواقع، لتطرق سمعه عند استماعه لإذاعة "مونت كارلو" كمن يقوم بطقس ديني مقدس. وبين الفينة والأخرى يبحر بين سطور كتب وروايات فرنسية مترجمة يجد فيها عزاءه لتنقل إليه بعض وقائع وإيقاعات هذه العشيقة المثيرة المتخمة بالإثارة والجنوح.
كان يعرف الموجة الجديدة الفرنسية ومشاهيرها وإبداعاتهم وآثارهم الفنية وحياتهم الخاصة أكثر مما يعرف عن حياة أمه وأبيه. طقسه اليومي في المساء هو أن يتماهى مع برامج وموسيقى وأغاني محطته الأثيرة "مونت كارلو" حتى في ذروة الأوقات العصيبة في فترة الامتحانات المدرسية. لا أحد يعرف، ولا هو نفسه يعرف، من أين جاءته تلك الثقة الراسخة بالنفس في أنه سيصل إليها طال الزمان أم قصر.
هو متيقن من ذلك في قرارة نفسه، بيد أن المحيطين به يسخرون منه سراً وعلانية أحياناً ويشفقون عليه أحياناً أخرى. كيف السبيل للمغادرة وهو لايملك ثمن رغيف خبزه اليومي الذي يبقيه على قيد الحياة؟ كان جان بول البابلي كما يسميه البعض، أو جودي الوجودي، كما يعرفه الجميع، ظاهرة بابلية بامتياز، لا يتجرأ أحد على مواجهته بحقيقته وإيقاظه من حلمه الدائم، خوفاً من لسانه السليط وعدوانية مزاجه وطبعه ، كان يسخر من جهل أقرانه وتخلف مجتمعه. كان وحيداً عدا حفنة قليلة من أبناء جيله من الأصدقاء القلائل الذين يرثون لحاله ويمدوه بالمساعدة لمحبتهم له ولعالمه المليء بالفنطازيا.
قال لهم يوماً عندما بلغ الثامنة عشرة من عمره، اليوم بلغت سن الرشد رسمياً وسترونني يوماً نجماً على شاشات التلفزة وخلفي صورة السيدة الحديدية العجوز التي تسمونها برج إيفل يتلألأ، لكنهم كانوا يضحكون سراً لهوسه اللامعقول، فهو يبدو لهم خارج الواقع في حين يتصور نفسه كأحد أبطال مسرح العبث أو إحدى شخصيات السينما السوريالية. من أين له هذه الطاقة المتأججة والقناعة الراسخة بصواب مشروعه في حين كان رفاقه الأغنياء الميسورو الحال يفنون أنفسهم بالدراسة والمذاكرة، استعداداً للامتحانات من أجل الحصول على معدلات عالية تضمن لهم الدخول إلى الكليات الراقية كالطب والهندسة والصيدلة ، أما هو فلم يسع الى شيء منذ سن الثامنة، سوى لعشقه الأول الموازي لعشق المدينة، ألا وهو السينما التي صار يعرف عنها كل شيء ممكن ولا يريد أن يدرس سواها رغم الإحباط الذي سببه لأهله الذين لايتجرؤون على معارضته أو منعه. فالسينما وباريس وجهان لحقيقة واحدة مطبوعة في مخيلته المتعبة حبيستا واقعه الأليم المعدم . كان أبوه يريده مرجعاً دينياً لامعاً، وأمه تتمناه مدرساً على الأقل ليخرجهم من فقرهم المدقع، أما هو فلا يمكن أن يتخيل نفسه إلا فناناً ومفكراً وعالماً كونياً .
فمنذ نعومة أظفاره وهو يقرأ ويختزن المعرفة ، وكان أشبه بموسوعة معرفية متنقلة، حتى إنه حفظ عن ظهر قلب كتاب الوجود والعدم لجان بول سارتر الذي بات بمثابة كتابه المقدس، وكان بمستطاعه أن يردد مقاطع طويلة وحوارات كاملة من روايات ألبير كامو ومارغريت دوراس وآلان روب غرييه وفيكتور هيغو.
وفي السنوات الأولى من سبعينات القرن المنصرم، وأمام دهشة الجميع واستغرابهم اختفى هذا الوجودي المتمرد عن الأنظار وغادر واقعه البابلي البائس. سمع البعض أنه رحل بلا عودة إلى بلاد الغال، بلا متاع ولا مؤونة ولا أي شيء يحميه من الجوع والضياع ، بينما ظن البعض أنه اختفى في مكان ما ليهرب من سخرية المحيطين به التي لم تعد تطاق. وعندما وطأت قدماه الأرض الباريسية المقدسة، غاص بين شوارعها وأزقتها وساحتها التي يعرفها عن ظهر قلب، ورحل بين طيات حكايتها وتاريخها وجمال صروحها، وهو العلم الذي كان يختزنه في ذاكرته. احتضنته المدينة بحنان وألفة معترفة له بحبها.
قادته قدماه إلى سينماتيك باريس ليلتقي بعميدها الراحل هنري لانغلوا، ووقف مسبحاً أمام صرح السوربون قبل أن يقتحمه ليلتقي بجان ميتري أشهر منظري واساتذة السينما في العالم، ويعقد معه حلفاً جمالياً في أن يرفده بوافر معرفته ويعلمه ويشرف عليه في دراسته ، كما ذهب ليزور ليس بريجيت باردوا كما تخيل صديق طفولته نوفل الجنابي بل جان لوك غودرا المبدع السينمائي العبقري الذي أخرج رائعته الاحتقار من بطولة بريجيت باردو.
ولكن قبل هذا وذاك ذهب إلى معلمه الأول في مقهاه الأثير في مونتبرناس جان بول سارتر ورفيقته في الحياة والفكر سيمون دي بوفوار لينهل من المنبع الأصيل للفكر الوجودي. عانق القدر واجتاز الحدود باتجاه المجهول، لكنه كان يرى النور أمامه يقوده نحو
النجاح .
مضت السنون ومرت أربعة عقود من المعاناة ليظهر هذا الجواد الجامح وبوقار غير معهود لا يتطابق مع عبثيته المعهودة على شاشة التلفزيون وخلفه برج إيفل رمزاً لباريس العريقة ليقول كلمته ويمضي بصمت نحو التألق والعطاء المستمر .