الكذب للكاتب مصطفى لطفي المنفلوطي
كذب اللسان من فضول كذب القلب , فلا تأمَن الكاذب على ودّ ,ولا تثق منه بعهد واهرب من وجهه الهرب كله .وأخوف ما أخاف عليك من خلطائه وسجرائه : الرجل الكاذب .
عرّف الحكماء الكذب بأنه مخالفة الكلام للواقع ؛ولعلهم جاروا في هذا التعريف الحقيقة العرفية ( أي الحقيقة التي يعرفها الناس ).ولو شاءوا لأضافوا إلى كذب الأقوال كذب الأفعال .لا فرق بين كذب الأقوال كذب الأفعال في تضليل العقول ,والعبث بالأهواء وخذلان الحق واستعلاء الباطل عليه . و لا فرق بين أن يكذب الرجل فيقول : إني ثقة أمين لا أخون ولا أغدر فاقرضني ما أرده إليك ثم لا يؤديه بعد ذلك وبين أن يأتيك بسبحة يهمهم بها فتنطق سبحته بما سكت عنه لسانه من دعوى الأمانة والوفاء فيخدعك ألف مرة قبل أن يخدعك كاذب الأقوال مرة واحدة لأنه لا يكتفي بقول الزور بلسانه حتى ينمّ عن قضيته بيّنة كاذبة من جميع حركاته وسكناته .
ليس الكذب شيئا يستهان به فهو أسّ الشرور ورذيلة الرذائل ؛ فكأنه اصل والرذائل فروع له بل هو الرذائل نفسها . وإنما يأتزر في اشكال مختلفة ويتمثل في صورة متنوعة .
المنافق كاذب لان لسانه ينطق بغير ما قلبه. والمتكبّر كاذب لأنه يدّعي لنفسه منزلة غير منزلته والفسق كاذب لأنه في نقض الإيمان ونقض ما عاهد الله عليك . والنمّام كاذب لانه لم يتّق الله الله في فتنته فيتحرى الصدق في نميمته والمتملّق كاذب لان ظاهره ينفعك وباطنه يلذعك .
لقد هان على الناس امر الكذب حتى انك لتجد الرجل الصادق فتعرض على الناس امره وتطرفهم بحديثه كانك تعرض عجائب المخلوقات وتتحدث بخوارق العادات .
فويل للصادق من حياة نكدة لا يجد فيها حقيقة مستقيمة وويل له من صديق يخون العهد ورفيق يكذب الود ومستشار غير امين وجاهل يُفشي السر ,وعالم يحرّف الكلم عن مواضعه ,وشيخ يدّعي الولاية كذبا , وتاجر يغشّ في سلعته , ويحنث في إيمانه , وصحفي يتجر بعقول الأحرار كما يتجر النخّاس ( تاجر العبيد ) بالعبيد والإماء ويكذب على نفسه وعلى الله وعلى الناس في كل صباح ومساء .