Friday the 11th May 2012
مشاهدات عند خطوط التماس بحمص
في الثامنة صباحا بتوقيت دمشق، يصطف طابور طويل من المراسلين الأجانب أمام مقر منظمة الأونروا في نهاية حي المزة بدمشق.
المهمة واضحة، سنراقب عمل المراقبين الدوليين المكلفين بمراقبة وقف إطلاق النار على الأرض.يدوم الانتظار حوالي ساعتين، نستمع إلى قواعد السلوك المتبعة وأولها اننا نتحمل مسؤولية سلامتنا الشخصية، في سياراتنا الشخصية، لن نتحدث إلى المراقبين لكن سيكون بوسعنا مرافقتهم والتحدث إلى سكان المناطق التي يزورونها.
السائقون كلهم سوريون والمترجمون أيضا، البداية لم تكن مبشرة كثيرة، فقد ضل فريق المراقبين طريقه ونحن وراءه في منطقة الغوطة بريف دمشق، واقتصر تفقده للمنطقة هناك على توقف روتيني، ثم انطلقنا إلى حمص في رحلة تستغرق ثلاث ساعات على الطريق الدولي.
وفي حمص، كان لابد من إجراءات تسليم وتسلم في مقر إقامة المراقبين بفندق سفير، استمرت لأكثر من ساعتين، بعدها انطلق الركب مجددا نحو وسط المدينة.
عبرت سيارات المراقبين التي تحمل شارات الأمم المتحدة، وطلبت من سائقنا أن يسير خلفهم، لكنه قال إنه لا يستطيع بعد تلك النقطة. ولم تكن تلك النقطة سوى آخر حاجز للجيش السوري على مدخل ساحة الساعة.
الدمار لحق بكثير من مباني حمص
وقرر السائقون والمترجمون في قرار إجماعي عدم التقدم، والتحذيرات من الجيش السوري كانت واضحة تتقدمون على مسؤوليتكم الشخصية، لكن التحذير جاء متأخرا فسيارات المراقبين كانت قد خلفتنا وراءها.
ساحة حرب
لا أحد هنا.. أنت تسير فوق شظايا الزجاج المتكسر، وتشاهد النوافذ المشرعة على لا شيء، نوافذ مبنى الأتاسي الراقي المطلة على الساحة تحطمت تماما لا يوجد لوح زجاجي واحد في مكانه، وسط المدينة الراقي صار مدينة أشباح، الألواح الخشبية السميكة غطت واجهات العرض التي كانت تتزين بالملابس الراقية، ماكينات الصرف الآلي صارت صماء، حتى الساعة التي تحمل اسمها الساحة توقف مؤشراها عن الثانية عشرة ولا أدري لماذا.
لم يتقدم أحد من زملائي، وقررت وزميلي المصور وسام عبدو التقدم على مسؤوليتنا، تعاطف معنا بعض المجندين ودلونا على طريق يسلكونه هم فقط: كوة في جدار مقهى الروضي السياحي، في الداخل كل شيء في مكانه تقريبا، قائمة أسعار المشروبات، صناديق النرد، أجهزة التلفزيون المثبتة في الجدران، ركن الاطفال في الحديقة المفعمة برائحة ورود الجوري، لكنه الخراب حيث لا تسمع سوى وقع أقدامك.
لكن هذا الخراب سيتضاءل عندما يقودني المقهى إلى كوة أخرى في حائط المتحف الوطني لأمر عبره إلى خط التماس بين القوات السورية والمسلحين.
متحف حمص وآثار الدمار بادية عليه
الكنوز التاريخية كلها ملقاة على الأرض أو محطمة، جداريات قليلة يبدو أن المسؤولين عن المتحف تمكنوا من تغطيتها قبل إغلاقه، وقبل أن يتحول إلى نقطة قتال ومخبأ للعسكريين السوريين، لكن كل التحف والمقتنيات الكبيرة ملقاة في الطريق الذي سأسلكه لاخرج على الشارع الآخر.
نتقدم قليلا على إيقاع زخات رصاص قريبة وأصوات قذائف الآر بي جي والهاون تأتي من أحياء الحميدية المسيحي وجورة الشياح والقصور، تلك هي أسخن أحياء حمص في الوقت الراهن، كثيرة هي معالم السلب والنهب، فقد شاهدت عسكريين ومدنيين يحملون بأيديهم او في عربات يدفعونها بأيديهم ما تمكنوا من اقتناصه، لم أسألهم وسارعوا لإخفاء ما يحملون.
عندما وصلت إلى النقطة التي قال المجندون السوريون إنهم لا يتقدمون بعدها، كانت طلقت القناصة تذكرني أن ما تشهده حمص ربما يكون نسخة أخرى مما شهدته بيروت الحرب الأهلية، وبنفس المصطلحات.
جاء المراقبون ..غادر المراقبون
عندما تمكنا من العودة للساحة كان المراقبون قد غادروا بالفعل، لم نعرف ماذا رأوا أو سمعوا ولم نصل إلى حيث وصلوا، فقررنا التوجه إلى منطقة بابا عمرو على مسؤوليتنا الشخصية.
الدمار الذي لحق بهذه المنطقة أشبه بزلزال، لن تجد مبنى واحدا دون آثار قذيفة أو صاروخ، المساجد والمدارس وشرفات البيوت، كلها نالت ما يكفي من القصف وبعدالة دقيقة.
الذين عادوا إلى منازلهم هنا، قلة ضئيلة، وحين تسألهم لا يقولون كل ما يعرفون، عيونهم الزائغة، تتحدث عن أسى وغضب مكتوم قبل أن تتفجر بالدموع.
لم أطلب من الذين تحدثت إليهم أسماءهم الحقيقية. كلهم غادروا خلال الشهرين الأخيرين من "الحسم العسكري" الذي انتهى باستيلاء الجيش على الحي.
قالت لي امرأة في حدود الستين من عمرها "كانت الصواريخ تأتي من كل اتجاه، لا نعرف من يطلقها، دمرت منزلي وقتلت ابن زوجي، من هرب هرب ومن تبقى "استشهد" لكنني لم أر جنس مسلحين لكنهم يتحدثون عن المسلحين".
قال لي رجل عجوز وهو يهش الذباب عن صينية الشاي أمام منزله، دون أن يتطلع في وجهي "الجزاء من جنس العمل " وصمت، بينما قال لي شاب في الثلاثين بغضب مكتوم، "دمار وخراب، منزلنا دٌمر تماما وأنا الآن اعيش مع أصهاري" .
أطفال بابا عمرو
يتحلق الأطفال حول الكاميرا، عبثا أحاول إقناعهم أنني لا يمكنني الحديث إليهم دون موافقة ذويهم، يؤكد لي "حسن" وهو في العاشرة من عمره، أنه تحدث كثيرا إلى الكاميرا.. يقودني إلى مدرسته، التي تصطبغ حوائطها بالسخام والفتحات التي خلفتها القذائف.
يحكي لي أنه وثلاثة من رفاقه في الصف قد عادوا أما البقية فلا يعرف أين ذهبوا، عندما توقفنا لتصوير المدرسة، أصر حسن على أن يساعدني في الاحتفاظ بجهاز التسجيل، قدمته إليه مع تحذير رقيق، ألا يعبث به.
عندما عدت إلى الفندق في دمشق لم أصدق ما سمعته على جهاز التسجيل، تقمص الصبي ورفاقه أدورا يبدو أنهم شاهدوها كثيرا أثناء شهور القتال.
غاب عنا ليجري مقابلات مع رفاقه الصغار ويتباحثون عن كيفية تشغيل هذا الجهاز "عندما تكبس الضوء الأحمر"، جاءت الكلمات والهتافات مشوشة ومثيرة للحزن ، " الله يحي الجيش الحر" "الله يحيي الرئيس الأسد" ، "نتمنى تكون سورية بخير بس يكون قائدها غير".
كان يسأل طفلة أصغر منه عن " الثورة والجيش الحرب" ، فترد مشوشة "الله وسورية وبشار وبس" . وهي ترد بكلمات يبدو انها التقطتها من القنوات الفضائية بوعي طفولي.
قبل وصولي إلى بابا عمرو كنت أتصور أنه حي عشوائي كتلك التي تمثل احزمة الفقر في المدينة الكبيرة، لكن الحقيقة ليست كذلك، فالصورة هنا ليست لمنطقة عشوائية وإن كان سكانها من المستورين أو رقيقي الحال الذين كان تعدادهم قرابة خمسين ألف نسمة.
من عادوا إلى بابا عمرو، ينتظرون المرافق والخدمات ومصدر الرزق، يعيشون على ما يقدمه لهم متطوعون من الهلال الأحمر الدولي، يمرون في قوافل تحمل علمهم الأبيض ويرتدون سترات تمكنهم من دخول مناطق الاشتباكات.
ويرفض المتطوعون على الأرض الحديث عما يشاهدون او يعرفون، تماما كالمراقبين الدوليين.
أحدهم كان يسألني في نبرة تحدي، عن ملاحقتي لهم بدلا من الذهاب إلى الخالدية او الحميدية.
سألته عما يعرف، قال إنه مراقب ولا يمكنه الحديث أمام الكاميرا، اتفقنا على تسجيل المقابلة للراديو، عن مشاهداته.
مَنْ يقتل مَنْ؟
"لم ينسحب الجيش حتى الآن ولو بنسبة 20 في المئة والقتال لا يزال مستمرا في أحياء كثيرة".
سألته: ما الفارق بين الجيش والمسلحين؟ فأجاب "إذا سيطر المسلحون على مناطق للجيش، تصير فيها سرقات، وقتل لا يكون عشوائيا ولكن للأشخاص الذين كانوا يتعاونون مع الجيش والمخبرين. أما عندما يستولي الجيش على مناطق للمسلحين، فيحدث نفس الشيء، وتبدأ مطاردة لكل الناس الذين تعاونوا معهم ، وتحدث عمليات قتل ما بتكون عشوائية، بتكون منظمة نوعا ما ممنهجة تجاه عوائل محددة، وفي بابا عمرو هناك أسر كاملة أبيدت".
سألته: كيف دخل الجيش بابا عمرو؟ فاجاب "لم يدخل بابا عمرو ولكن دخل على أنقاض بابا عمرو بعدما غادر حوالي 80 بالمئة من المدنيين، ونزحوا إلى مناطق بعيدة وحوالي 10 بالمئة نزحوا إلى أقبية المنازل والملاجئ".
ماذا يجري؟ "هي حرب من طرف واحد، جانب استخدم كافة الأسلحة التي بحوزته، وجانب استخدم الأسحلة الخفيفة".
لم تتأكد لي دقة ما قاله المتطوع الإنساني خاصة في ظل تأكيدات أخرى عن تسليح الثورة وعسكرتها واستهداف نقاط ومعسكرات للجيش.
لكن ما تأكد لي بعد ما شاهدته في وسط حمص ومنطقة بابا عمرو، أن ما حدث ولا يزال يحدث لم يكن مجرد اشتباكات أو عملية أمنية محدودة، وإنما حرب بين طرفين تركت وسط حمص ومنطقة بابا عمرو مناطق اشباح حتى إشعار آخر.
موفد BBC