إن التمسك بالمبادئ والحقوق والنضال من أجلها، سواء كانت عقائدية أو إنسانية ليس دائما سهلا مستوى السبل، فطالما يصادف المنافح
عن الحق صعوبات وملاحقات قد تنتهي به إلى التصفية الجسدية، لكن هيهات للرصاص أن يغتال هذه المبادئ، وهيهات للاستبداد والظلم أن
يخرس صوتها؛ إذا ما وجدت أناسا مخلصين لها يزرعون بذورها بمواقفهم أينما حلوا وارتحلوا.
وقصة روزا لويس باركس تعد مرجعية لنصرة القضايا العادلة ومبادئ الحق، هذه المرأة الأمريكية ذات الأصول الإفريقية صنعت لها اسما
لامعا بين أحرار العالم بموقف شجاع رفضت من خلاله التنازل عن مقعدها في الباص لرجل أبيض بأمر من صاحبه فأحدثت ضجة
أفضت إلى حركة مقاطعة الباصات في مونتغمري، والتي شكلت بداية عملية إلغاء التمييز العنصري بين البيض والسود.
روز جاكولي ولدت في بلدة توسكي في ألاباما في 4 فيفري 1913، ونشأت في ظروف قاسية خاصة بعد انفصال والديها ولعل أكثر ما
علق في ذهنها مظاهر التمييز العنصري في بيئتها، وتلك الأفضلية الواضحة التي يحظى بها الأبيض على حساب الأسود، درست روز في
منزلها لأن والدتها كانت معلمة ثم انتقلت إلى إحدى مدارس مونتغمري، ثم إلى مدرسة خاصة بالأفارقة الأمريكيون لإكمال المرحلة الثانوية،
غير أن مرض والدتها وجدتها أجبرها على التوقف للاعتناء بهما.
تزوجت من عضو في إحدى الجمعيات المكافحة لمظاهر العنصرية هو السيد رايموند
باريكس، وانضمت إلى جمعيته مساهمة بشكل كبير في مساعدة الأمريكيين الأفارقة
من أجل حياة أفضل، كما أنهت دراستها الثانوية بإصرار من زوجها، وكانت من بين
الأفارقة القلائل الذين حصلوا على هذه الشهادة، وبعدها انتقلت إلى النشاط في حركة
الحقوق المدنية، ثم إلى "الرابطة الوطنية للنهوض بالسود"، وعملت كسكرتيرة للسيد
إيدجر نيكسون.
استمرت روز في نضالها من أجل تحقيق العدالة في المجتمع الأمريكي، وكان من
أبرز مواقف دفاعها عن سيدة سوداء تعرضت لاغتصاب جماعي، وأنشأت إلى جانب
مجموعة نشطاء حقوقيين صحيفة أسبوعية "The Chicago Defender" أطلقوا
من خلالها حملة قوية من أجل توعية المجتمع بضرورة تطبيق المساواة ونبذ التمييز
وكان ذلك سنة 1944.
وجاءت المرحلة الحاسمة من حياة روز، والتي كانت نقطة تحول تاريخي في حياة كل الزنوج الأمريكيين، بل كانت حجر الأساس
للديمقراطية في الولايات المتحدة الأمريكية وكان ذلك سنة 1955، حين استقلت السيدة باركس حافلة عمومية وكان التمييز أنذالك في بلدتهم
قد بلغ ذروته، حيث يفصل بين السود والبيض في كل الأماكن حتى في الحافلات وتخصص المقاعد الخلفية للسود والأمامية للبيض، كانت
قد دفعت أجرة مقعدها ثم جلست، لكن بعد توقف الحافلة في إحدى المحطات وصعود عدد من البيض، أمرها سائق الحافلة هي وثلاثة من
الركاب السود بالتنازل عن مقاعدهم للبيض، فامتثلوا لأمره إلا روز وهذا ما ترويه عن نفسها في لقاء أجري معها تقول: "قال لي السائق إن
لم تتركي مكانك سأستدعي لكي الشرطة لتقبض عليك، فرددت عليه: يمكنك أن تفعل ذلك ".
لم يمض قرار اعتقالها بسلام بل اهتزت له أرجاء أمريكا ودعمه كل نزهاء العالم،
بعد أن دخل السود في مونتغمري في إضراب عن ركوب الحافلات دام 381 يوما،
بتنظيم من القس الزنجي وزعيم حركة التحرر مارتن لوثر كينج، حيث بدأت
الاحتجاجات تضامنا مع روز، ومطالبة بإلغاء التمييز العنصري في وسائل النقل
العمومية، ليفتح المجال بعدها إلى سلسلة من الانتفاضات، صدر بموجبها قانون
تجريم التمييز العرقي في الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1964.
وبهذا الانتصار الكبير، عاشت روز بقية حياتها بطلة قومية بل عالمية، حازت على
الوسام الرئاسي للحرية سنة 1996، والوسام الذهبي للكونجرس سنة 1999، إلى
أن وافتها المنية في 24 أكتوبر سنة 2005، أقيمت لها مراسيم دفن رسمية تناقلتها الفضائيات العالمية وشيعتها آلاف الجماهير، وبقي
أفارقة أمريكا يذكرون فضلها في كل المناسبات حيث قالت عنها وزيرة خارجية الولايات المتحدة الأمريكية كونداليزا رايس " لو لم تقم
باركس بتحريرها السود ما كنت الآن وزيرة خارجية".