فرنسواز ساغان.. الروائية التي استبشرت بالحزن خيراً02/07/2015 11:48
عبد الباقي يوسف
تطور مفهوم المرأة للكتابة الروائية وفق تطور الزمن، وقد استفادت كثيراً من التجارب التي سبقتها سواء في الحياة الاجتماعية، أو الإبداعية، .ولعل اسم الروائية الفرنسية فرنسواز ساغان يفرض نفسه في هذه الشخصية النسوية التحولية التي باتت لها خصوصيتها سواء في وقائع الحياة الاجتماعية أو في المشهد الروائي العالمي. تعد الروائية الفرنسية فرنسواز ساغان من الروائيات اللواتي لبثن تحت سيطرة أفكار الرواية الأولى، فهذه الروائية استمدت غالبية أعمالها القادمة من أجواء وطقوس تلك الرواية الأولى التي قدمتها للعالم، وبالتالي لبثت مخلصة لهذا العنوان وهي تتخذه منهجاً لحياتها. جاءت هذه الكاتبة إلى عالم الأدب لتقول للناس بأن اللحظة الأولى التي يفقد فيها الإنسان ثقته بنفسه، هي ذات اللحظة التي تعطي إشارة أولى للمحيطين به كي يترددوا من منحه هذه الثقة.لذلك قررت أن تعتمد على نفسها وهي تطرق وتدخل أبواب الحياة الأدبية إلى أن استطاعت أن توصل أفكارها إلى الكثير من لغات العالم، وهذا ما كانت تنظر إليه عندما حملت القلم لتضع الكلمة الأولى في حياتها على مساحة صفحة بيضاء.
صباح الخير أيها الحزن
في اليوم السادس من عام 1954 دخلت فتاة في الثامنة عشرة من عمرها أشهر وأبرز دار نشر في بلادها /جوليار/ وهي تحمل مخطوطة كتبت بخط اليد على دفترها المدرسي في 188 صفحة تحت عنوان ملفت هو /صباح الخير أيها الحزن/ لكاتبة مبتدئة تدعى فرنسواز ساغان. كانت الدار حينها في ذروة الازدهار والمنافسة مع ناشرَين شهيرين هما: غاستون غاليمار، وبرنار غراسيه. بعد أن انتزعت ثلاث جوائز/ غرنكور/ في ثلاث سنوات متتالية بمطبوعاتها لكل من: جان جاك غوتينيه 1946- وجان لوي كوريتس 1947- وموريس دروون 1948. تركت هذه الفتاة مخطوطتها حتى يتم الاطلاع عليها، وإمكانية تبنيها للطباعة، وعادت إلى بيتها. بعد ثمانية أيام مد /جوليار/ يده يتصفح المخطوطة بعد تناول العشاء، وما إن قرأ الصفحة الأولى حتى بدأت المخطوطة تجتذبه وتدخله إلى عالمها إلى درجة أن /جوليار/ لم يرغب في أن ينام ليؤجل شيئاً من متعة القراءة إلى الغد، فسهر معها إلى آخر صفحة. عندها لم يندم بأن الصباح أدركه، لأنه أحس بمتعة هي أعلى من متعة أي نوم من جهة، ومن جهة أخرى راودته سعادة باكتشاف كاتبة سيعني تقديمه لها الشيء الكثير. قبل أي شيء طلب الرجل أن يلتقي الكاتبة الشابة في أقصى سرعة. عندما تلقت ساغان دعوة اللقاء، سارعت بالاستجابة وعند الساعة الخامسة من مساء ذات اليوم دخلت عليه حتى ترى ما حصل بشأن المخطوطة، فأمضى /جوليار/ معها في حديث طويل عن كيفية كتابتها لهذا العمل، وعن تفاصيل حياتها، وعن أفكارها، ما يزيد على ثلاث ساعات متواصلة. بعد هذا اللقاء أخبرها أنه بالفعل وافق على تبني هذا العمل الذي يتوقع أن يفتح أمامها طريقاً للمجد والشهرة رغم صغر سنها. وحيث إن عمرها القاصر لم يكن يسمح لها بالتوقيع على عقد الطباعة حسب القانون فقد أحضرت ولي أمرها ليتولى أمر التوقيع. تولت هذه الفتاة المراهقة مهمة تمثيل حساسية الجيل الجديد في فرنسا بعد الحربين العالميتين وبعد انفجار الأفكار والفلسفات والمذاهب الأدبية الكبرى ولم يكن أحد في ذاك الوقت يلتفت لسيكولوجية وحساسية هذه الشريحة البالغة الأهمية، وما ميز هذا الكتاب أن كاتبته هي إحدى أصوات هذا الجيل الذي يتغلغل ويشعر بضياع من دون أن يلتفت إليه أحد. من هنا كان لنشر الكتاب دوي الانفجار، ونفذت خمسون ألف نسخة بصورة عجيبة في شهور عديدة، وأما كبار النقاد فبدؤوا يلفتون النظر إليها ككاتبة بارعة ويشيدون بمهاراتها وقدراتها اللغوية، والفنية، والفكرية. تحولت فرنسواز ساغان بين ليلة وضحاها إلى نجمة أدبية بتنافس أبرز نجمات السينما في فرنسا بصورها على أغلفة المجلات والجرائد، وبالحديث الطويل عنها في الملتقيات الثقافية. يستغل /راي فنتورا/ هذه النجومية لساغان ويشتري حقوق تحويل الكتاب إلى فيلم سينمائي بمبلغ 3.5 ملايين فرنك فرنسي، ثم ما يلبث أن يبيع هذه الحقوق بمبلغ خيالي هو 60 مليون فرنك فرنسي لشركة مترو غولدن، فأخرجه أوتو برمنغو ببطولة جين سيبرغ، ليحقق الفيلم بدوره نجاحاً يفوق نجاح النشر في كتاب. كل هذا يحدث وفرنسواز كواريز ساغان تمضي أروع أيام النشوة نتيجة مغامرتها في تلك الكتابة الجريئة التي أتت بشكل عفوي على دفترها المدرسي لتغير مسار حياتها وتغير كل فكرة كانت تفكر بها للمستقبل. فهي الآن كاتبة ذائعة الصيت، ولن تفكر بشيء غير الكتابة التي سوف تقترن بكل يوم من أيام حياتها القادمة. تقول ساغان بأن الثقة بالنفس في خطوتها هذه أثرت على كامل حياتها، فهي تعتمد على نفسها على الأغلب حتى في النهوض لشرب كأس من الماء، أو لصناعة نوع من الطعام أو لشراء حاجة لها أو للمنزل، وعندما يلومها أحد فإنها لا تتردد في أن تقول: هذه.. أنا
دخلت كبرى الملتقيات الأدبية والثقافية، وعقدت صداقات مع المشاهير، وكان الرئيس الفرنسي الراحل فرنسوا ميتيران يفتخر بصداقته لها. أصدرت العديد من الأعمال الإبداعية التي قدمتها في مراحل عمرها للقراء وترجمت هذه الأعمال إلى غالبية اللغات الحية، إذ قلما نجد قارئاً في العالم لم يقرأ لساغان، أبدعت العديد من الأعمال الروائية والقصصية والمسرحية، والمقالات الأدبية، والآراء الاجتماعية. تقول عن علاقتها بالكتابة: / الكتابة سحرية بالمعنى الذي يرغب فيه كل الناس أن يكونوا كتّاباً، الكثيرون جداً يحتفظون بمخطوطات ويطلبون مني أن أقرأها لهم، ذات يوم صادفت سيدة جميلة في إحدى المكتبات فبادرتني قائلة: /كيف يمكنني أن أنشر كتاباً كبيراً إن كنت لا أجيد الكتابة؟. أجبتها: تتخذين مساعداً يعينك على الكتابة. قالت: حسناً وإن كنت لا أعرف ماذا أكتب؟ قلت: /اسمعيني، عندما لا نعرف عم نكتب ولا كيف نكتب، خير لنا أن ننسى ذلك. أصيبت بخيبة أمل ورددت: واأسفاه، كم كنت أحب أن أكون كاتبة/. هذه الكلمات التي تقولها ساغان بلغة سهلة بسيطة تعبر عن مدى جديتها في مسألة الكتابة إلى درجة أنها عندما تواجه الأحزان والمواقف الصعبة في حياتها فإنها لا تتردد من مواساة نفسها قائلة: /ولكنني أحيا لأنني أكتب/. بعد كل هذا المشوار في عالم الكتابة والتألق والنجاح تنتهي ساغان لتقول: /إني متأكدة من أني قد تغيرت، ولكن ليس لدي انطباع بأني نضجت وفهمت الشيء الكثير، وإني لأتساءل إن لم أكن في الثامنة عشرة أغزر معرفة مني اليوم، على كل حال، كنت حينها أكثر ثقة بنفسي وبأحكامي، وأعمق تصميماً، في العشرين نكون مترددين ولكن مقتنعين. في شبابي- إن وسعني قول ذلك- كانت الأمور واضحة وكان هناك لطفاء وأشرار، ويساريون ويمينيون. أشياء بسيطة جداً، ولكن في غاية الوضوح، ذاك أمر يدعو للاطمئنان. عصر اليوم يلفه الغموض قليلاً. كل شيء مشوش مع هذه العبادة للمال التي أضحت لاتطاق. أصبح نصف الناس من التابعين والنصف الآخر متعصباً، لم تكن الأمور هكذا في الماضي/. بيد أن السعادة لاتزال تأتي من الكتابة، فتشعر بحياة جديدة وبدفق حيوي جديد مع إبداع كل سطر وكل صفحة وكل كتاب، وهي واثقة بأنها سوف تعثر على كلمات لم تكتبها بعد، وتقدم أفكاراً لم تقدمها للقراء بعد. تقول: /السعادة.. سعادة الكتابة وحسب، إنني متأكدة من أن الكاتب الرديء نفسه يعيش لحظات سحرية عندما يعثر على الجملة المناسبة، والتوافق بين كلمتين في هذه اللحظات، هذه اللحظات وحدها، يشعر الكاتب بأنه كاتب حقيقي.. إنني مولعة بحب الحياة، قضيتها وأنا أعيش أكثر مما فعلت، وأنا أكتب أتمتع بحس السعادة، التعاسة لاتعلمنا شيئاً/. بعد هذا المشوار الغني في الكتابة والحياة، يمكننا القول إن هذا الإخلاص وهذا الثبات على منهج: /صباح الخير أيها الحزن/ جنب الكاتبة الوقوع في الكثير من حالات القلق والازدواجية سواء في الحياة، أو في الكتابة، ففرضت نفسها كشخصية مؤثرة في الجيل الجديد في فرنسا، وفرضت أدبها على المشهد الروائي العالمي. بعد قراءة أعمال هذه الكاتبة نتساءل: ترى كم نحتاج أن نقول كل صباح: صباح الخير أيها الحزن.تكمن خصوصية ساغان أنها تتمثل جيلاً نسوياً جديداً في الإبداع الروائي هذا الجيل الذي ترك أثراً بشكل خاص على الحركة النسوية الأدبية في مختلف بقاع العالم. يمكننا أن نصغي إلى صوت المرأة الجديدة من خلال أعمال فرنسواز ساغان الروائية حيث إنها تمتلك جرأة وصراحة بالغة في التعبير عن حساسية المرأة. يمكنني القول إن المرأة سجلت حضوراً لافتاً في مشهد الرواية العالمي وقد حصلت على جائزة نوبل للآداب في أكثر من بلد من العالم. ومن الفائزات بجائزة نوبل للآداب: نادريــــــــن جورديمر من جنوب افريقيا سنة 1991، توني موريسون من أمريكا 1993- الفريــــــدا يلنك من النمسا 2004- دوريسن ليسينغ من المملكة المتحدة 2007- هيرتا مولر من ألمانيا 2009.