"سأرحل قريبا عن هذه الدنيا وكل ما سأتركه سيكون طاهرا ونقيا، رسمت في نفوس الكثيرين المعنى الحقيقي للشجاعة والأمل والصبر، بعد ما صارعت مرض السرطان بابتسامة وتفاؤل كبير، موتي لن يكون بسبب هذا المرض الذي صبر علي ومنحني 10 سنوات لأتحداه، لكن وفاتي سببها استهتار الأطباء في العاصمة، الذين حكموا بموتي عندما كان عمري ثلاث سنوات، سأترك قصتي ووصيتي ليس تقليبا للمواجع ولكن لإنقاذ مئات الأطفال الذين لا أحب أن يموتون مثلي"..
هذه العبارات التي تتفطر لها القلوب، هي مقدمة لوصية تركتها الطفلة وردة خلود بن العمري، 13 سنة من ولاية المسيلة، قبل وفاتها بأيام، بعد معاناة وصراع طويل مع قسوة الأطباء التي فاقت قسوة المرض الخبيث، هذه الوصية أثارة صدمة وذهول كل من عرف الضحية مما تسبب في إضراب جميع تلاميذ المدرسة التي كانت تدرس فيها وردة خاصة وأن معدلها لم ينزل أبدا عن 18 من 20، وتضيف وردة في وصيتها قائلة "بدأت قصتي مع السرطان وعمري لم يتجاوز ثلاث سنوات، أين شكل المرض فاجعة أليمة أصابت عائلتي التي سارعت إلى أخذي للعلاج في أكبر مستشفى الجزائر "مصطفى باشا" وبالذات إلى مصلحة بيار ماري كوري، تحت إشراف طبيبة "بروفسور" وكالعادة ألقت البروفيسور حكمها المسبق والنهائي على حالتي، وحكمت عليّ بالموت رغم أن المرض كان في بداياته متمركزا في العظم الأيمن من الوجه، وبدل إجراء العملية التي من المفروض إجراؤها لي منذ إصابتى بالمرض "كما أخبرتني أختي الكبرى التي تدرس في كلية الطب"، اكتفت الطبيبة بإخضاعي إلى علاج كيميائي طويل المدى وقوي بالنسبة لطفلة صغيرة مثلي لازالت بنيتها هشة لا تحتمل مثل هذا العلاج، إلى جانب سوء المعاملة التي حظيت بها أنا وعائلتي المغلوب على أمرها. كان المرض ينخر جسدي على الرغم من سير العلاج الذي لم يكن ذا فائدة، بل هيج عظامي ليظهر سرطان من نوع آخر وأقوى فكانت ثماني سنوات من عمري عذابا لايستطيع احتماله حتى من هم في ريعان شبابهم، واكتفت الطبيبة الحاملة للقب بروفيسور بصد كل آمالي وأحلامي بالشفاء والعيش مثل كل الأطفال، ورفضت القيام بأي مجهود يذكر ضد المرض، نظرت الطبيبة وبكل برودة إلى عائلتي المجروحة وأكدت قولها السابق بأني حكم عليّ بالموت منذ الصغر، فلا داعي لفعل أي شيء حتى أنها لم تخصص لي غرفة في المستشفى، مع العلم أني كانت في حالة يرثى لها، فالمرض وصل إلى عيني اليمنى ونخر كامل فكي، منظري في ذلك الحين لم يحتمله إلا أصحاب القلوب الميتة، أما عائلتي العاجزة عن فعل أي شيء كانت في حيرة من أمرها، كيف لا وأبي وأمي ينظران إلى فلذة كبدهما تتألم وتتعذب وتموت من دون المقدرة على فعل شيء، وينظران في نفس الوقت إلى رد فعل الطبيبة التي من المفروض أن تكون المنقذ والشافي والمواسي لصغيرتهما، لكن أملي بقي موجودا وما لم تستطع عليه الطبيبة بعنادها سيستطيع عليه غيرها من ذوي القلوب الرحيمة. وبالفعل وبعد إغلاق جميع الأبواب، قررت عائلتي أن تعالجني خارج الوطن في فرنسا، ولكن بعد بيع كل ممتلكاتها، ولكن لم يقتصر الأمر عند هذا الحد، فقد وقفت الطبيبة عقبة في طريقهم ولم تمض تنازلا عن حالتي إلا بعد طول جهد ومدة كانت ثمينة جدا بالنسبة لحالتي، اتجهت إلى الخارج أين تلقيت كل الاهتمام اللازم، فصعق الأطباء من حالتي وكيفية سير علاجي في الجزائر، فحضروني في وقت قياسي لعملية كانت من أنجح العمليات بنسبة 99 بالمائة، وبقي تساؤلهم عن الأسباب التي أدت بالأطباء الجزائريين لترك حالتي تتدهور إلى ذلك الحد، وبعد العملية رجعت مع توصيات الأطباء بالقيام بعلاج كيمياوي الذي يعد إجباريا بعد كل عملية نزع لورم سرطاني، واتجهت إلى مستشفى مصطفى باشا، وإلى طبيبتي من جديد، وبالرغم من اتصال الأطباء الأجانب بها لتأكيد علاجي بالطريقة الصحيحة وبالمعايير المناسبة، إلا أن طبيبتي رفضت ذلك واكتفت بإرسالي إلى المنزل، فدفعت مرة ثانية ثمن عناد وجهل طبيبتي "البروفسور"، فبدأت الخلايا الميكروسكوبية التي بقيت بالتكاثر ليتولد سرطانا أشد فتكا فتدهورت حالتي، لألجأ إلى المستشفى الذي طردت منه بطريقة مهينة ودرجة حرارتي ذلك اليوم تعدت 42 درجة، ودموعي اختلطت بالدماء، فتساءلت فكيف لك يا طبيبتي أن تكوني بهذه القسوة، فقبل أن تكوني طبيبة أو بروفيسور فأنت امرأة بقلب المفروض أن يكون حنونا، فهذة الكلمات لا أظن أنها ستجد مكانا في قلبها المغشي عليه، سأرحل قريبا لأني لم أعد أقوى على تحمل الألم الذي حصد كل قوتي وروحي، سأرحل ولن أسامح أبدا الطبيبة التي قتلتني، سأنتظرها هناك في عدالة الله التي لا يظلم عندها أحد، ويومها سيسأل الله الطبيبة بأي ذنب قتلت وردة..".
بعد هذه الوصية التي كتبتها وردة على فراش الموت، فارقت الحياة بعد ثلاثة أيام، وسط ذهول وصدمة أهلها وجيرانها وأصدقائها الذين صعقوا لرحيل وردة التي شكلت لهم قصة شجاعة وصبر منقطع النظير،