ماهية حالة الضرورة
للتعرف على ماهية حالة الضرورة ، لا بد لنا من أن نعرفها ونسلط الضوء عليها في ظل التشريعات القديمة والشريعة الإسلامية ، والتمييز بينها وبين الإكراه المعنوي وذلك وفق الآتي:
أولاً : تعريف حالة الضرورة
حالة الضرورة هي مجموعة من الظروف تهدد شخصاً بالخطر وتوحي إليه بطريق الخلاص منه بارتكاب فعل جرمي معين .
ويعرفها البعض بأنها ظرف أو موقف يحيط بالإنسان ويجد فيه نفسه أو غيره مهدداً بخطر جسيم يوشك أن يقع ولا سبيل أمامه للخلاص منه إلاّ بارتكاب جريمة يطلق عليها ( جريمة الضرورة ) .
ويعرفها البعض الآخر بأنها ظرف خارجي ينطوي على خطر جسيم ومحدق ، يحيط بشخص فيرغمه على تضحية حق لآخر ، وقاية لنفسه أو لماله أو لنفس غيره أو ماله من غير أن يتسبب هو قصداً بحلول الخطر ، ودون أن تكون لديه القدرة على منعه بطريقة أخرى .
ومثال حالة الضرورة ، أن تشرف سفينة على الغرق ، فيقدر القطان ضرورة تخفيف حمولتها ، فيلقون البضائع الموجودة عليها في الماء ، للمحافظة على توازنها ، أو يخرج شخص من مسرح مسرعاً على أثر حريق وقع في المسرح فيصطدم بطفل ويصيبه بكسور أو جروح ، وكذلك من يخرج من منزله عارياً في الطريق العام بسبب زلازل أو حريق نشب أثناء وجوده في الحمّام ، أو من يسرق رغيف خبز بعد أن يشرف على الهلاك ويصبح موته وشيكاً ، أو من يسرق قطعة خشب لاتقاء برد شديد سيقوده إلى الهلاك ، أو أن يقضي الطبيب على حياة الجنين في ولادة عسيرة لإنقاذ حياة الأم ، أو يستولي شخص على مال الغير لاستعماله في إطفاء الحريق ...
ثانياً : حالة الضرورة في التشريعات القديمة
قد تكون الصين أول بلد كرّس نظرية ممارسة حق غير مشروع أصلاً في مجالات الاضطرار إلى ذلك، خاصة لجهة جرائم السرقة والسلب المرتكبة في حالات المجاعة والقحط .
ثم وردت حالة الضرورة في الهند من خلال شريعة ( مانو ) والتي تعود إلى أكثر من اثني عشر قرناً قبل الميلاد حيث تضمنت نصوصاً ومقاطع تسمح باقتراف أفعال ممنوعة ومحظورة تحت وطأة الضرورة الحالّة والمستعجلة ، شرط عدم تجاوز حدود مقتضياتها الممكنة .
فقد أباح مانو للعسكريين – وهم طبقة مميزة – أن يمارسوا إحدى المهن المحرمة على طبقاتهم ( في نظام اجتماعي يقوم على نظام الطبقات ) إذا وجدوا في حالة بؤس .
كما أباح لكل من أصبح في حالة خطر من الجوع أن يأكلوا لحوم البقر والكلاب لضرورة البقاء أحياء مع أن أكل اللحم محرم .
أما المشرع الروماني في هذا المجال فقد حقق تقدماً كبيراً ، إذ أقام القواعد الأساسية التي لا تزال تصلح دعامة علمية ، إن لم تكن قانونية ، لتأييد حالة الضرورة .
لكن الرومان كانوا عمليين في حالة الضرورة ، إذ أنهم بحثوا المبادئ النظرية في ضوء المسائل التطبيقية على سبيل المثال ، وأشهرهم في هذا المضمار المحامي شيشرون الذي عدّد في كتابه عن الجمهورية حالتين معروفتين من حالات الضرورة :
حالة الغرق : إذ أجاز حق الشخص القوي في قذف زميله الضعيف في البحر ليستولي منه على اللوح الخشبي لاتخاذه وسيلة للنجاة من الموت إذا كان ذلك محتماً ولا يتحمل اللوح أكثر من إنسان واحد .
حالة المعركة : إذ أقر أيضاً للجندي في ساحة الوغى حق الاستيلاء على جواد رفيقه لينجو بواسطته من الحصار أو القتل أو ليقوم بعمل حربي معين .
ثالثاً : حالة الضرورة في الشريعة الإسلامية
إن حالة الضرورة في الشريعة الإسلامية تعطي الحق لكل إنسان في التهرب من الخطر الذي قد يلحق به بشرط أن لا يسيء إلى غيره بإنزال الضرر فيه ، وذلك من باب التيسير والتوسعة على عباد الله ، وقد استند الفقهاء في ذلك إلى قوله تعالى :
[ إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهلّ به لغير الله ، فمن اضطر غير باغ ولا عاد ، فلا إثم عليه ] .
وقوله تعالى : [ وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله وقد فصّل لكم ما حرّم عليكم ، إلاّ ما اضطررتم إليه ] .
وقوله (ص) : ( عفي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه وما اضطروا إليه ) .
وقد وضع الفقهاء استناداً إلى هذه الآيات والأحاديث الشريفة قاعدة : ( الضرورات تبيح المحظورات ) .
فإذا وجد الإنسان نفسه في حالة تحتم عليه ارتكاب فعل لم يكن يريده أصلاً، إنما اضطر إليه بسبب ظرف لا يستطيع دفعه إلاّ بالجريمة ، سواءً كان مصدر هذا الظرف من فعل الإنسان أو الحيوان أو الطبيعة ، فلا لوم عليه لأن الضرورات تبيح ارتكاب المحرمات والمحظورات ، حتى لو كان في ذلك ما يخالف شرع الله نفسه ، كرفع فريضة الصيام عن المريض والمسافر ، والجائع الذي يندفع بتأثير الجوع إلى اغتصاب ما يسد حاجته من الطعام ، ومن يشرب الخمر لدفع ضرر العطش المهلك أو المرض المستعصي على جميع الأدوية .
ومن القضايا المشهورة في هذا المجال قضية امرأة عطشت فاستسقت راعياً فأبى أن يسقيها إلاّ أن تمكنه من نفسها ففعلت ، فلما رفع أمرها إلى عمر استشارعلياً رضي الله عنهما ، فأفتى بأنها مضطرة ولا عقاب عليها لقوله تعالى : [ فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه ] فلم يعاقبها عمر .