وفرت طريقة الرسم الحديث وضمن معطيات التجديد في خطاب اللوحة وممكنات الفعل الفني، أطراً من المعرفة البصرية التي تلازم وحدات العمل المتعددة، سواء تلك التي تعلق على محامل فوق الجدار، أو التي تركن على الأرض بشعورية تلهب حماس المتلقي للعمل، إذ يلجأ الفنان إلى مقومات تناسب مخيلته لينتج خطابا من التمثيل البصري الجديد، محملا إياه بالتقنية والمدلول التعبيري المنسجم مع ما يريد بثه الفنان.
ما رأيناه من عمل للفنانة نادية فليح في المعرض الفني المشترك لمجموعة "12 + 1" والموسوم بـ"حدائق الرماد" والذي بلغت قياساته 50 ،4 × 80،1 سم، التي منحت لهذا العمل أهميته من حيث المواد المستخدمة فيه، مثل الكولاج والقماش والخيوط المتعددة، فضلا عن الاكرليك والرماد على
الكنفاس.
كل ذلك يشير إلى بعدين مهمين لمن شاهد العمل؛ أولهما التقنية العالية والطريقة المركبة الظاهرة في مستويات تنفتح على تعدد الدلالات في ذات الوقت مع ما تنطوي عليه الرمزية المكونة لسياق الإشارة والعلامة الإيصالية التي يذكرنا بها بيير جيرو بأن العلامات واللافتات إشارات إيصالية وظيفتها إخبارية. وما فعلته نادية فليح لا يخرج عن الأطر المعرفية مع كل ما أضافته من فكرة وإشارة تدل على أن العمل يتطرق لمراحل انتقالية للإنسان العراقي ابتداءً من ممكنات الوجود الطبيعية إلى الحالات السلبية والتلاشي والاضمحلال. وهذا ما يسفر عنه سياق الجذع العائد للنخلة المحروق مع وجود كومة الرماد التي تركتها في الأرض أسفل عملها الكبير، التي فرضت على المتلقي ضمن شفراته القرائية أن يكون من اليمين إلى اليسار.الرسم الجامع للتمثيل الذهني المركب وتسجيل التصوير الجمالي الخارج فيه أخذا شكلا دراميا ينفتح على الاغتراب والتلاشي الوجودي، وهي طريقة لا تؤكد السوداوية التي تعاش بين وجودنا بقدر ما توظفها بحسية وألم شديدين. لقد تمعنا طويلا في عملها فوجدنا العلاقة الرمزية بفضائها الموسع منفتحة على أربع قطع جمعت بصيغة واحدة، تشكل بمجموعها خليطا من العلاقات والمركبات الإشارية، بحيث لا يمكن فصل أي منهما ليكتمل العمل، وهذا الاستعمال استوجب تكوين الإشارة الغالبة في تلك التعبيرية الداعمة للانفعال الذاتي، وهي في حسابات السيميائيين تسمى "الوظيفة المزدوجة"، إذ يتم التناسق في الاستعمال بإيعاز ذهني أولا، لا تنغلق فيه الأنساق إلا في إطار شبكة واحدة تعطي الشكل المناسب وجهه الدلالي. قيمة التناسق المرئي هي ما يهمنا في هذا الاشتغال الجمالي لأنها مركونة لبلورة تمثيل واقعي بصياغات ووظائف دالة على هواجس امرأة تعي ما يحيط ببلدها وشعبها، ولهذا أجد وجهة المفارقة ليست في رمزية جذع النخلة أو مادة الرماد المتروكة في الأرض، إنما في شبكة الأشكال ودلالاتها ومرجعيتها من حيث الصياغات البنائية الدقيقة.هذه الأعمال التي تشع فيها الاستعارات القابلة للتماهي فيما بينها وبين قيمة الوحدات الصورية تعيد لأذهاننا متخيل الخطاب المرئي الممزوج بسمات محيطية، لكن يبقى التساؤل مطروحا: هل بدأت مكونات العمل بوحداته الأربع كافية لأن تستدرجنا لوظائفية ذلك العمل؟ أعتقد بأن ما فعلته مخيلة هذه الفنانة وسعت ذهنيتنا وذاكرتنا على الاحتفاظ ببواعث تجربة الإنسان وحريته ومصيره المجهول، لأن التدفق الجمالي والانحياز للغرض التعبيري الصادق كفيلان بأن يحافظ فيهما العمل على استثمار طاقة أشكاله وما أشدها، وهي تحلق بعيدا عن المجافاة قريبة من سواد الرماد.
المصدر
http://www.imn.iq/news/view.69503/