من يسلف (سيلفا) ؟؟
جريدة المستقبل العراقي / بغداد / 30/4/2012
يقولون: إن الرئيس البرازيلي (لولا دا سيلفا), الذي بدأ حياته ماسحا للأحذية, وقف ليستدين المال من أصدقائه بعد مغادرته القصر الرئاسي بأشهر, وراح يبحث عن من يسلفه, ليرمم منزله الريفي. ويقولون: إن إجمالي أرصدة الملوك والأمراء والرؤساء العرب في البنوك الأجنبية بلغت مئات المليارات من الدولارات (الحلال), من دون أن يفكروا بمغادرة البلاط الملكي أو القصر الرئاسي, فالتوريث المنوي هو النهج الذي سارت عليه الدولة العربية بعد عصر الخلافة الراشدية وحتى يومنا هذا. . .
كاظم فنجان الحمامي
بدأ (سيلفا) حياته من أدنى درجات السلم الطبقي, وشق طريقه وسط الزحام, حتى تسلق سلم السلطة في البرازيل, وصار رئيسها وزعيمها ومفكرها, امتهن صبغ الأحذية على الأرصفة منذ طفولته, لكنه لم يكن مستنكفا من فقره وعوزه, حتى جاء اليوم الذي كان فيه هو المتصرف الأول بموارد البرازيل وثرواتها, وكان هو المؤتمن عليها, وظل فقيرا متواضعا حتى غادر سدة الحكم, ولم يرض بتجديد مدته الرئاسية, على الرغم من إصرار الشعب ومطالباتهم الحثيثة على بقاءه في السلطة.
كان ماسحا للأحذية لكنه وضع بلاده في طليعة البلدان القوية في القارة الامريكية الجنوبية.
سكنت أسرته في كوخ حقير خلف ناد ليلي في أسوأ الأحياء الفقيرة, حيث الموسيقى الصاخبة, وشتائم السكارى, والروائح المقززة المنبعثة من مخلفات رواد الليل, فلم يكن قادرا على أكمال دراسته الابتدائية, بسبب الفقر المدقع الذي كانت تعيشه أسرته البائسة, ما اضطره للعمل صبيا في محطة ريفية لتعبئة الوقود, ثم تدرج في المهن البسيطة, فعمل بائعا للخضار, وقاطفا للبرتقال, فميكانيكيا في ورشات الصيانة. .
كان متفانيا في عمله, فخسر خنصر كفه الأيسر في حادث عرضي من جراء العمل قبل أن يبلغ العشرين من عمره, ثم تلقى دورة مجانية في التعدين, فصقل مواهبه الميكانيكية, وحصل على شهادة أهلته للارتقاء في السلم الوظيفي نحو الأعلى, فتحسنت ظروفه المعيشية. .
علمته أمه كيف يمشي مرفوع الرأس, وعلمته كيف يحترم نفسه كي يحترمه الناس, وتعلم منها إن الفقر ليس عيبا, وان السعادة ليست في الزمان ولا في المكان, ولكنها في الإخلاص بالعمل, وعلمته إن دماثة الخلق ليست ضعفا بل قوة حتى الممات, وقالت له: مهما لاقيت من غدر فلا تقابل الإساءة بالإساءة, بل قابلها بالإحسان. كانت أمه مدرسة تعلم منها أخلاق القرية, فتسلح بهذه الأخلاق الحميدة ليقف في طليعة الكتيبة التي رسمت نهضة البرازيل, فتحققت على يده أعلى القفزات الصناعية والزراعية, وشهدت البلاد طفرة اقتصادية هائلة تمثلت في كسر طوق الركود الاقتصادي, الذي جثم على صدر البرازيل في العقود الماضية, فارتفعت معدلات النمو في كل القطاعات الإنتاجية, وأصبحت في زمنه من انجح الأقطار اللاتينية في أمريكا الجنوبية. .
شاءت الأقدار أن يخرج علينا رجل من جنوب السودان يحمل اسم (سيلفا) فاستبشرنا خيرا بمقدمه, وقلنا عسى إن يكون (سيلفا) السوداني على شاكلة (سيلفا) البرازيلي, لكنه خيب آمالنا عندما ظهر علينا بعدته وعتاده وأفكاره الانفصالية, ومعه مليشياته المسلحة, فقلنا: (عليه العوض ومنو العوض). .
لقد أعلن (لويس إيناسيو لولا دا سيلفا) لشعبه وبشفافية تامة كل ما يخص البرازيل وخططها ومواردها, فكسب ثقتهم, وارتقى بهم نحو مصاف الأقطار الرائدة, ونجح في تسديد الديون المتبقية بذمة البرازيل في سجلات صندوق النقد الدولي قبل عامين من الموعد المحدد للتسديد, وبذل قصارى جهده لتحرير البرازيل من وطأة الديون الخارجية, حتى حررها تماما من ديونها كلها, وأطلق في ولايته الثانية برامج (تسريع النمو) متحديا العقبات الروتينية, التي كانت تقف بوجه المشاريع الاستثمارية, وسعى إلى الموائمة بين القطاعين (العام والخاص) فدمجهما في سياسة الشراكة, واستطاع أن ينتشل أكثر من عشرين مليون برازيلي من مخالب البطالة, وكان من ألد أعداء الفقر, فخاض ضده أشرس معارك مكافحة الجوع, حتى صار (سيلفا) رمزا عالميا لفقراء العالم, فاستحق أن يطلقوا عليه (نصير المحرومين), و(زعيم الفقراء), وتصاعدت شعبيته في الداخل والخارج, وحجز له مكانة مرموقة بين زعماء العالم, فكان من ضمن قائمة الخمسين الأكثر نفوذا في العالم. .
بكى (سيلفا) بحرقة في اليوم الذي غادر فيه القصر الجمهوري, ولم يكن بكاؤه حسرة على مقعده الرئاسي, بل تأثرا بالمحبة الأسطورية, التي غمرتها به الجماهير البرازيلية, التي خرجت في ذلك اليوم عن بكرة أبيها للتعبير عن تمسكها به, والمطالبة بتجديد ولايته, وبقائه في السلطة حتى لو تطلب الأمر تعديل مواد الدستور, فرفض (سيلفا) رفضا قاطعا, وودعهم بالدموع مكتفيا بما قدمه لهم من انجازات باهرة, وديمقراطية صحيحة انتزعها من قبضة الحاكم العسكري الظالم, فصارت البرازيل على يده دولة ديمقراطية قوية, بعد أن كانت دولة بوليسية ضعيفة, وأصبح كرسي الرئاسة الآن متاحا لكل برازيلي يجد في نفسه القدرة والكفاءة ليتبوأ المنصب بجدارة واستحقاق عن طريق صناديق الاقتراع. .
صار (سيلفا) الآن هو (السلف) الرئاسي الصالح في عموم البلدان اللاتينية, وجاءت بعده الرئيسة البرازيلية (دلما فانا روسايف), وهي ابنة مهاجر بلغاري حط رحاله على شواطئ البرازيل في أربعينيات القرن الماضي. .
كانت (دلما) خير خلف لخير سلف, ولم يحرموها من الترشيح باعتبارها من فئة البدون, أو باعتبارها تبعية هنغارية, ولم يقولوا لها (أنتي مو من دمنا ولحمنا). .
وكان الله في عون الشعوب العربية, التي يفكر ملوكها ورؤساؤها في الألفية الثالثة بالعودة إلى العصر الجاهلي لخوض معارك (البسوس), ومعارك (داحس والغبراء) بأسلحة الناتو. .
والله يستر من الجايات