لقد صدق من قال: إن الوقت هو الحياة، وإنهما وجهان لعملة واحدة، فما الأيام إلا صفحات تقلب في كتاب حياتنا، وما الساعات في تلك الأيام إلا كالأسطر في صفحاتها، التي سرعان ما تختم الصفحة لننتقل إلى صفحة أخرى... وهكذا تباعًا حتى تنتهي صفحات كتاب العمر.. وبقدر ما نحسن تقليب صفحات أيامنا تلك نحسن الاستفادة من كتاب حياتنا.. وبقدر استغلالنا لأوقاتنا نحقق ذواتنا ونعيش حياتنا كاملة غير منقوصة.
ولا شك أن إدراك الإنسان لقيمة وقته ليس إلا إدراكًا لوجوده وإنسانيته ووظيفته في هذه الحياة الدنيا، وهذا لا يتحقق إلا باستشعاره للغاية التي من أجلها خلــقه الله عــز وجل وإدراكه لها. ومــن المعلــوم أن الله قد خــلق الإنسـان لعبادته، قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون(56)، ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون(57)، إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين } ( الذاريات:56-58).
والمقصود بالعبادة هنا هو معناها الشامل الذي ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حين عرّف العبادة بأنها: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة(1). لذلك كان الوقت أغلى ما يملكه الإنسان، فهو كنزه، ورأس ماله الحقيقي في هذه الدنيا، ذلك أنه وعاء كل شيء يمارسه الإنسان في حياته.
ويكفي الوقت شرفًا وأهمية أن الله عز وجل قد أقسم به في كتابه العزيز، وأقسم ببعض أجزائه في مواطن عديدة، قال تعالى:
- { والليل إذا عسعس(17)، والصبح إذا تنفس } ( التكوير:17-18).
- { والفجر(1)، وليال عشر } ( الفجر:1-2).
- { والشمس وضحاها(1)، والقمر إذا تلاها } ( الشمس:1-2).
- { والضحى(1)، والليل إذا سجى } ( الضحى:1-2).
- { والعصر(1)، إن الإنسان لفي خسر } ( العصر:1-2).
كما ذكر عدد من المفسرين عند تفسيرهم لهذه الآيات أن إقسام الله ببعض المخلوقات دليل على أنها من عظيم آياته(2). ومن هنا فالله عز وجل يقسم بتلك المخلوقات ليبين لعباده أهميتها، وليلفت أنظارهم إليها، ويؤكد على عظيم نفعها، وضرورة الانتفاع بها، وعدم تركها تضيع سدى دونما فائدة ترجى في الدنيا أو الآخرة.
ولقد برزت أهمية الوقت والحث على الاستفادة منه وعدم تركه يضيع سدى في السنة النبوية، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك )(3). وهذا الحديث وإن تنوعت ألفاظه وتعبيراته، إلا أنها أصل في الحث على اغتنام الفراغ في الحياة قبل ورود المشغلات، كالمرض، والهرم، والفقر، إذ أن الغالب في هذه الأمور أنها تلهي الإنسان وتمنعه من الاستفادة من أوقاته، فالمريض يهتم بأسباب عودة صحته واسترداد عافيته، وكذلك الهرم وهو الذي بلغ أقصى مراحل الكبر من العمر، حيث يكون الضعف العام للجسم وبطء الحركة، بعكس من كان في مرحلة الفتوة والقوة والشباب.
وقد روى البخارى في صحيحه أن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس، الصحة والفراغ )(4). وهذا الحديث من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم وهو في غاية الوضوح، حيث يرشد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أن الفراغ مغنم ومكسب، ولكن لا يعرف قدر هذه الغنيمة إلا من عرف غايته في الوجود، وأحسن التعامل مع الوقت والاستفادة منه.
ولعل مما يحفز على ضرورة الاستفادة من الوقت حرص الفرد أن يكون من القلة التي عناها الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه السابق، فظاهر الحديث أن الذين يستفيدون من الوقت هم القلة من الناس، وإلا فالكثير منهم مغبون وخاسر لهذه النعمة بسبب تفريطه في وقته وإضاعته له في غير فائدة، وعدم استغلاله الاستغلال الأمثل.
وقد يكون الإنسان صحيحًا في بدنه ولا يكون متفرغًا، لانشغاله بمعاشه.. وقد يكون مستغنيًا ولا يكون صحيحًا.. فإذا اجتمعا -الصحة والفراغ- وغلب عليه الكسل عن طاعة الله فهو المغبون، أما إن وفق إلى طاعة الله فهو المغبوط(5).
ومسؤولية الإنسان عن وقته شاملة لجميع عمره، وهذا الوقت مما يُسأل عنه يوم القيامة، ففي الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيما أفناه، وعن علمه ما فعل به، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن جسمه فيما أبلاه )(6).
ومما ينبغي الإشارة إليه هو أن تأكيد الإسلام على إعطاء النفس حقها من الراحة والسعة دليل على قيمة الوقت وأهميته في الإسلام، قال تعالى: { وجعلنا نومكم سباتًا، وجعلنا الليل لباسًا، وجعلنا النهار معاشا } ( النبــأ:9-11). قــال ابـــن كثــير في تفسير قوله تعالى: { وجعلنا نومكم سباتا }: أي قطعًا للحركة لتحصل الراحة من كثرة الترداد والسعي في المعايش في عرض النهار(7). وكأن النوم راحة إجبارية يتقوى بها الإنسان.
كما ورد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: ( يا عبد الله: ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل ? قال: بلى يا رسول الله، قال: فلا تفعل، صم وأفطر وقم ونم، فإن لجسدك عليك حقًا، وإن لعينك عليك حقًا، وإن لزوجك عليك حقًا )(8).
ولكن هذا الحق من النوم والراحة للجسد والبدن مشروط، أي ينبغي أن يتقوى به الإنسان لما بعده، ويحتسبه للعمل، فهو يرتاح ليتقوى على العمل، وليست الراحة لمجرد البطالة.