هدى العمر


تقر البحوث بأن الإسلام كان من أهم المصادر التي تقف وراء الفنون التجريدية كما يجد الباحث أن سمات الفن التجريدي الإسلامي كانت في الأساس ترتبط بالحياة العقلية والجمالية عند العرب قبل ظهور الإسلام وبعده، والدليل على ذلك ما خلفته الآثار الفكرية الرافدية والعصرية القديمة، والتي كانت بمثابة مقدمات هيأت الفنان العربي لاستقبال الفكر الإسلامي الجديد ليتكيف مع عقيدته السمحاء ليشكل نتيجة فلسفية ذات خصوصية جمالية تمثلت أولاً في التجريديات الزخرفية النباتية أو فن الأرابيسك، وهذا الفن المبتكر لا يخضع لشروط أو أحكام لها مثيل في الطبيعة بل ينبع من أصل واحد يتمثل في ورقة نباتية تتفرع منها أغصان متنوعة وغريبة في ذات الوقت على العالم النباتي، مؤكدة على النظرة المجردة ووحدانية وتفرد الفنان العربي الذي استطاع أن يفرض وجوده على خريطة تاريخ الفنون لأكثر من عشرة قرون كما ذكر عالم الفنون الإسلامية م. س. دياموند، "الذي يعد من كبار العلماء القليلين المتخصصين في تاريخ الفنون الإسلامية والذي يعد كتابه (الفنون الإسلامية) الكتاب الوحيد الشامل باللغة الإنجليزية لتاريخ الفنون الإسلامية"؛ حيث قال إن "فن زخارف الأرابيسك الإسلامية لا يوجد لها مثيل في أي زخارف أخرى كلاسيكية".


وثانياً لم يكن التفكير الهندسي بعيداً عن وعي الفنان العربي المسلم الذي عكف على دراسة التركيبات الهندسية كالمثلث والمربع وما شابهها وإعادة صياغتها بأنظمة تكوينية متناسقة معتمداً على الخط واللون كمادة أساسية في التصميم والآداء. كما انطلق الفنان العربي بتنويع هندسي للخط العربي الذي حمل في البداية أشكالاً هندسية وتطور فيها لتأخذ أشكالاً مختلفة بعضها أشكال منكسرة أو هندسية أو لينة ومتكسرة معاً (عفيف بهنسي، جمالية الفن العربي)، مما يثبت قدرة الفنان العربي على تجديد رسم الحروف والكلمات ويفسر مدى تحرره الذهني وحسه الروحي والجمالي الذي نلمسه فيما بلغت إليه الكتابة العربية إلى أعلى مراتب التجريد بلغة تشكيلية جديدة ومبتكرة في وقتنا المعاصر.


إذا تطلعنا في وقتنا الحالي على الاتجاهات الفنية المعاصرة سنجد أغلبها يميل إلى الفن التجريدي بصفة عامة باعتباره هو الفن الذي يشكل الذروة في مسار البحث عن الجوهر الفني ويبتعد كلياً عن الموضوع الذي اعتاد الفن الواقعي تمثيله ولم يغفل الفنان الأوروبي عن هذه الحقيقة فمنذ نشأة الفنون بأوروبا وقد ألمح الفيلسوف أفلاطون به حين قال "إن جمال الأشكال ليس كما يظن الناس، جمال الأشياء الحية والملموسة أو جمال الصور بأشكالها وكأنه جمال مأخوذ بالمخرطة والمسطرة.. فعندئذ يكون الجمال نسبياً ولكن الجمال هو الجمال الثابت والمطلق"، ويتضح من هذا أن الجمال المقصود هو الجمال التعبيري الفكري الذي لا يسمح العمل الفني إلا بإحساسات الفنان بالتوغل إلى أي جزء من أجزائه فهو على عكس الصورة الواقعية التي تفرض وجودها على أداء الفنان وفي هذه الحالة قد يفقد بعضا من أحاسيسه التعبيرية، ولا يعني هنا التجريد بدون مضمون تعبيري فغذاء التجريد هو المضمون الفكري والجمالي والأدائي، فمنذ مطلع القرن التاسع عشر حتى انبثاق منهج الرسم التجريدي في بداية القرن العشرين واجه الفن النمط الكلاسيكي المستند على قواعد وأسس صارمة وتقليدية مما تمخض عنه ظهور مدارس واتجاهات فنية معاصرة رافضة ومتمردة بشدة هذا النمط الذي فرض فرضاً على رغبات الفنان مما أدى إلى ظهور تيارات واتجاهات عديدة ومتلاحقة مثل المدرسة الطبيعية الرسم في الهواء الطلق، وتلتها الرومانسية والواقعية والتأثيرية والوحشية والتعبيرية والرمزية وصولاً إلى التكعيبية والسريالية الخ؛ ومن هذا المنطلق بدأ الفكر التحرري الجديد وميول الفنان إلى تجاوز النظرة المظهرية السكونية التقليدية والاستعانة بأساليب ساهم في تطلعه لها الاكتشافات العلمية والابتكارات الأدبية والاستعانة بالحاسب الآلي والأجهزة الذكية كوسيلة للبحث والاستقصاء في الخواص الإنسانية والجوهرية للظواهر الكونية.


لم ينطلق هذا الفنان المعاصر بأخذ مبدأ الرسم التجريدي إلا بعد البحث والاستقصاء وإضافة مضمون تملكه طاقات متحررة بعضها يميل إلى التجريب كالفنان "وليام تيرنر" الذي يعد أول فنان حديث في أوروبا اهتم برسم الطبيعة وأخذ ظواهرها وتقلباتها الجوية كذريعة لتحقيق منهج جمالي خالص كالذي نجده في لوحته الشهيرة "مطر عاصف وسرعة خاطفة" والتي حاول من خلالها أخذ لحظات من أجواء الطبيعة المتقلبة وتحويلها إلى أشكال من نور، وكذلك الحال مع الفنان "كاندنسكي" الذي تطور في أدائه إلى أن وصل إلى أسلوبه التجريدي الخالص المعروف، ومن دون شك لا يغفل الرسام التجريدي المعاصر عن تطبيق القوانين المتحكمة في زهاء اللون وتجانسه الذي تمثلت في بعض من أعمال الفنان ديلاكروا كلوحة "الشمس والقمر" وتكوين الفنان موندريان الأحمر والأصفر والأزرق ومعظم الألوان التجريدية العبقرية في تجريديات كاندنسكي، ورغم أن بعض المتذوقين قد يصعب عليهم قراءة اللوحة التجريدية إلا أننا نجد ميول أغلبهم إلى اقتنائها لأنها تومئ بألوانها وتكوينها غير الملموس إلى أحاسيس ورؤى عاطفية أو واقعية أو خيالية فهي تنقل الصلة الحميمة بين شعور الفنان بالحزن والفرح ولوحته التي يصل كيانها المستقل في ذاتها كعمل إبداعي ذات غاية كامنة منفردة للمشاهد.