كتاب ( فنون العمارة الإسلامية وخصائصها في مناهج التدريس )
اسم المؤلف : د. عفيف البهنسي
تقديم
يعتبر التراث الثقافي والحضاري الإسلامي سجّلاً لإبداع الأمة، ورمزاً من رموز عبقريتها، وذاكرةً حافظةً لقيمها، ومقوّماً من مقوّمات هُويتها الحضارية وخصوصيتها التي تتفرّد بها بين الثقافات والحضارات. ويُعدّ التراثُ المعماريُّ علامة مضيئة وثمرة مشعة لهذا الإبداع الذي أسهمت به الحضارة الإسلامية في إغناء الحضارات الإنسانية وإثرائها، بما حملته من مظاهر جمالية وفنية، واحتضنته من رموز ظلت به عنوانًا دالاً على تطوّر هذه الحضارة وتقدم بُناتها وصُنَّاعها وعلمائها عَبْرَ العصور المختلفة، تمثّلت في المآثر التي ظلت شامخةً في مختلف بقاع العالم تشهد على نبوغ مهندسيها، وخلود فنها وعراقة رموزها، في مؤسساتها الدينية والثقافية، كالمساجد والجوامع والرباطات، والقلاع والحصون، والمراكز العلمية كالمدارس والجامعات.
ووعياً من المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة وجمعية الدعوة الإسلامية العالمية بالرسالة الحضارية التي نهضت بها هذه المؤسسات المعمارية، وتعريفاً برسالتها، وتوثيقاً لمعالمها، وحمايةً لهُويتها وجمالها، وإبرازاً لتأثيراتها في مسيرة العمارة الإنسانية، عملت الجهتان، ومن خلال خططهما المتوالية، على حماية التراث المعماري الإسلامي، عن طريق ترميمه والتعريف بمؤسساته المختلفة، وإبراز دوره الثقافي المشعّ عَبْرَ التاريخ، فقدمتا الدعم لترميم المؤسسات المعمارية، وأعدّتا الدراسات لتطوير طرائق العمارة الإسلامية وفنونها وأساليب تدريسها، وذلك للمحافظة على خصوصياتها وتعميق وعي الإنسان المسلم، وخاصة الأجيال الجديدة، بخصائصها وروعتها وأسرارها، وتحديثها لربطها بالتطورات المعمارية، مع المحافظة على خصائصها.
لكل هذه الاعتبارات، أعدت المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة، بالتعاون مع جمعية الدعوة الإسلامية العالمية، بواسطة الخبير المقتدر والباحث المدقق الدكتور عفيف بهنسي، هذه الدراسة التي تقترح رؤيةً منهجيةً لتطوير تدريس فنون العمارة الإسلامية، مستندةً في ذلك إلى أساس أصيل يعتمد المرجعية الإسلامية والحضارية، وإلى أساس معاصر يستفيد من المستجدات في هذا المجال، عاملةً فيه على تقديمه بأسلوب علمي شائق، ومنهج توثيقي رائق.
نسأل الله أن يكون هذا الكتاب إضافة مفيدة، وأن ينفع به الطلاب والمثقفين وشداة المعرفة بهذا الجانب الرائع من الحضارة الإسلامية المبدعة.
د. محمد أحمد الشريف
أمين جمعية الدعوة الإسلامية العالمية
الدكتور عبدالعزيز بن عثمان التويجري
المدير العام للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة
مقدمة
يكاد تدريس فنون العمارة الإسلامية أن يكون معدوماً في جامعات العالم وحتى في جامعات العالم الإسلامي، ويرجع ذلك الغياب إلى عدم وضوح خصائص فنون العمارة الإسلامية في برنامج التعليم المعماري الجامعي. وهذا ما نحاول استدراكه في هذا الكتاب الذي ابتدأ بالحديث عن الوعي المعماري الإسلامي منطلقاً من التمييز بين الهندسة المعمارية، وهي علم بحت، وبين الفن المعماري وهو إبداع وتصميم، بدءاً من المعمار البسيط إلى المعمار الجامعي المختص. ثم يأتي الحديث عن خصائص هذا الفن الذي ارتبط بالتعاليم الإسلامية وبالفكر الإسلامي مما نراه واضحاً في المنشآت العامة كالمسجد والمدرسة وحتى في الحمامات والمشافي، وكان هذا الارتباط الخصيصة الأولى، ثم يأتي المقياس الإنساني في العمارة الإسلامية كخصيصة ثانية، والمقصود بالمقياس أن تلبي العمارة الوظيفة الإسكانية في أحسن ظروفها وأكثرها أمناً وراحة، مع الوظيفة الجمالية التي تجعل من المبنى العام أو الخاص محراباً بديعاً تهفو النفس للركون إليه لما يحويه من تكوينات معمارية وصيغ رقشية.
إن الهدف من تدريس فنون العمارة الإسلامية، ليس إنعاش الذاكرة التاريخية والحديث عن الماضي ومنجزاته، بل البحث أيضاً عن صيغة مستقبلية لهذه الفنون تقوم على التحديث والتماشي مع تطور الحياة وتطور وسائلها المتسارع ـ وهنا يأتي مجال الحديث عن الأصالة والحداثة التي كثيراً ما نوقشت في الفترة الأخيرة.
كذلك تطرح مسألة الانتماء إلى التراث والإبداع نفسها في هذا المجال، لبيان سبيل التوفيق بينهما في ظروف تيارات الحداثة الجامحة مع استعراض محاولات كبار المعماريين العرب من أمثال المهندس المصري حسن فتحي، وأعمال المعماريين الذين أحرزوا الجوائز العالمية في مضمار تحقيق توافق بين الأصالة والإبداع. وهذه الأمثلة تساعدنا على استقراء شروط تحقيق هذا الهدف التوافقي، سواء في تدريسنا الجامعي، أو في تحكيمنا للمشاريع المرشحة للجوائز.
والذي يهمنا إدراكه دائماً، هو كيف تستوعب برامجنا التعليمية الجامعية هذه الشروط لتحقيق تعليم معماري إسلامي قادر على مواكبة مستحدثات المستقبل، علماً أن هذه الشروط تقوم على مبادئ، أولها أن العمارة ليست فناً أو علماً فقط، بل هي فن وعلم، فن يقوم على الإبداع، وعلم يقوم على ثوابت رياضية. والمبدأ الثاني أن فن العمارة متميز عن جميع فنون العمارة في العالم، بمعنى أنه يتمتع بجمالية خاصة منبثقة عن فكر إسلامي متحرر، نستطيع استجلاءه من مصادرنا التراثية التي لم يكشف عنها الغطاء حتى الآن، مثل أفكار أبي حيان التوحيدي الجمالية التي وقفنا عندها مطولاً في كتاب مستقل.
إن أول ما تنظمه البرامج التدريسية هو البحث عن النظرية المعمارية الإسلامية، فإلى جانب القواعد الثابتة الرياضية والهندسية، هناك وشائج رمزية سيماتية تصل العقيدة الإسلامية بالفكر المعماري، تبقى هي النظرية الثابتة. وعن هذه النظرية يتم تحقيق التصميم المعماري الإسلامي ويتم الكشف عن الإبداع المنتمي الذي يتمثل في المحاولات التطبيقية المشخصة؛ فالتعليم لا يتم نظرياً فقط، بل عملياً وتطبيقياً أيضاً.
وإذا كانت النظرية الثابتة في العمارة الإسلامية هي العقيدة، فما هي مواصفات هذه النظرية ؟. إن أهم ما يجعل الدين الإسلامي ديناً حضارياً هو التوحيد، فالتوحيد يعني أن الخالق العظيم لهذا الكون هو واحد أحد صمد. ويتجلى الإيمان به في السعي لاكتشاف أسراره المتمثلة في روعة النظام الكوني والمخلوقاتي.
والإنسان المسلم أقام حضارته من علم وفن وعمارة على أساس هذا الإيمان، فكان التصوير الشمولي المتجسد في الرقش العربي، وكانت العمارة التي اتسمت بالمثالية والسمو نحو المطلق، وبقي اتجاه قبلة المساجد في العالم كله نحو نقطة واحدة هي الكعبة الشريفة، رمز السعي التوحيدي الذي تمثل في عمارة ذات هوية واحدة على اختلاف المكان والتاريخ. ومرة أخرى يتحدث هذا الكتاب عن دور الإبداع، فالحرية التي منحها الإسلام للفكر والعمل ضمن حدود التقوى، كانت دائماً السبب في التنوع الذي أغنى تاريخ العمارة الإسلامية بشواهد لم تكن نسخاً عن بعضها كما تم في الفنون الكلاسيكية الغربية. ولقد كان المقياس في هذا الإبداع، هو الوسطية، بمعنى أن يكون العمل المعماري موزوناً تمشياً مع الآية الكريمة : { وأنبتنا فيها من كل شيء موزون }.(سورة الحجر، الآية : 19).
واعتماداً على هذه النظرية الثابتة، نستطيع أن نسير في طريق صاعدة لبناء مفهوم الجمالية المعمارية الإسلامية بحسب قوانين علم الجمال الحديث، ونستطيع أيضاً أن نوضح دور الفنون الإسلامية في التعبير عن قيم المسلمين وتاريخهم وحضارتهم. وما أحوجنا في عصر الحوار الحضاري اليوم، إلى وسائل راسخة للتعريف بقيم المسلمين وبحضارتهم، وبخاصة إذا كانت هذه الوسائل فنية ذات لغة عالمية مقروءة ومعترف بها، ولا تخلق حاجزاً عنصرياً أو مذهبياً يؤول إلى صراع وتفكيك إنساني. وما أحوجنا في عصر العولمة إلى صورة معمارية أو فنية يتجلى فيها جلالُ الله سبحانه وتعالى، وتكون مقروءة تهفو إليها نفوس، سواء كانت بعيدة أو كانت خصيمة ذات يوم.
هكذا نستطيع القول إن محاولتنا في هذا الكتاب إذا كانت تحمل عنواناً تعليمياً، فهي تهدف إلى تحقيق خطاب حضاري قائم على أسس معمارية علمية يفيد في إنجاح الحوار في العالم، للدخول معه في اتخاذ القرار الإنساني الصحيح لعالم أفضل. والكتاب أولاً وأخيراً، هو أداء مخلص لدعوة كريمة من المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة، لإعداده وفق خطتها الحكيمة في وضع منطلقات جدية لحضارة الإسلام المستقبلية.
ومن الله التوفيق والسداد.
أ. د. عفيف البهنسي
الفصل الأول
خصائص الفن المعماري الإسلامي
أ) بداية فن العمارة.
أ.1. منذ أن وجد الإنسان كان الفن، ومغاور (لاسكو) و(التيميرا) تشهد على روائع الفن الذي زين فيه الإنسان؛ ومنذ آلاف السنين، مغائره التي كانت مقره ومسكنه، وتشهد هذه الزينة المؤلفة من رسوم ملونة لحيوانات انقرضت، على مهارة وواقعية، تؤكد أن الفن وسيلة اتصال سبقت اللغة والآداب في حياة الإنسان.
أ.2. وعندما تقدمت الحضارة، كان المسكن هو الحيز الذي استوعب مهارات ومواهب الفنانين، فالمنازل التي اكتشفت في وادي النطوف (فلسطين)، أو في المريبط (سوريا)، والتي تعود إلى الألف السابعة قبل الميلاد، كانت مزينة بزخارف ملونة.
أ.3. ولكن العمارة بذاتها، لم تلبث أن أصبحت بمظهرها الخارجي وكتلتها وأقسامها، شيئاً فنياً مجسماً، يحتاج إلى عمل إبداعي، كما يحتاج إلى فكر هندسي، ومع ذلك استمرت العمارة المجال الذي يستوعب جميع أنماط الفن التشكيلي، من تصوير أو نحت. وتجلى ذلك بقوة في العمارة الإسلامية، وشاهدنا ذلك في القصور الأُموية التي تميزت بالنحت الملون أو غير الملون، وبالرسوم الفسيفسائية والتلوينية، التي ما زالت ماثلة أثارها في قصور الحَيْر والمشتى وقصر المفجر وحمام قُصَيْر عَمْرة.
أ.4. وإذا كان للفن التصويري أن ينفصل عن العمارة؛ لكي يستقر على الأشياء المنقولة، مثل المخطوطات والأواني وتوابع العمارة والأثاث، فإن أساليبه لم تتغير كثيراً، فهي إما أن تكون تشبيهية واقعية، أو تكون زخرفية مجردة، ولقد تنوعت بتنوع الطرائق والاجتهادات حتى اليوم.
على أن العمارة، وقد اعتمدت لغة أخرى غير مفردات لغة الخط واللون، وهي لغة الكتلة والفراغ، قدمت لنا هُوية مستقلة متميزة لم تختلط بهُوية فنون العمارة الأخرى التي عاصرت فن العمارة الإسلامية.
أ.5. فإذا كان الفن التشكيلي، الرسم والنحت سريع الاندماج بتيارات وشخصيات الفنون الأخرى؛ أخذ منها وانطبع بطابَعها من حيث لا يدري، كما تم في انحراف فن المنمنمات باتجاه الفن الأوربي، فإن انحراف فن العمارة مهما كان ضئيلاً، يفقد أصالته وشخصيته أو يعرضه إلى الانضواء الكامل لسيطرة الأساليب المعمارية الغربية، التي قد تكون أسهل تنفيذاً وأصلح استعمالاً، وأقرب إلى مفهوم الحداثة والزي، ولكنها تبقى مقطوعة الجذور عن نسغها الحضاري الأصلي.
وفي العصور التي تعرضت فيها المِنْطقةُ العربية ـ على سبيل المثال ـ إلى التَّبَعيةِ السياسية والاجتماعية، يبدو ذوبان الشخصية الحضارية أكثر وضوحاً في زوال الطابع المعماري الأصيل.
إن إنشاء العمارة هو عمل إبداعي يتطلب مجتمعاً ومُناخاً حرّاًً، ولقد استطاعت التبعية التي عانتها الشعوب العربية الإسلامية، أن تقمع الإبداع الفني، وأن تفتح الأبواب مشرعة أمام التأثيرات الغربية. وهكذا ظهر الأسلوب الكولونيالي الاستعماري في عمارات القاهرة والإسكندرية والجزائر والرباط والدار البيضاء وحلب وبيروت.
أ.6. وعندما ظهرت العمارة الحديثة تحت اسم Jugenstil في ألمانيا، وشهد العالم جناح ألمانيا في معرض برشلونة 1929 للمعمار ميس فان در روه المبني من الزجاج والمعدن، كان ذلك نهاية العمارة القديمة، وبداية عهد الإبداع المتطرف والمجرد. والذي كرسته، أيضاً، مدرسة الباوهاوس في فايمر. وكان هذا بداية حداثة العمارة التي قامت على رفض جميع التقاليد المعمارية من أي نوع كانت، والعودة بالهندسة المعمارية إلى الأشكال والحجوم المجردة، وهكذا أصبحت العمارة مكعبات وأهرامات معزولة أو مركبة في تشكيلات لا تخلو من العبث واللعب. وأصبح هم المعمار إثارة الدهشة الخارجية التي تسببها إيقاعات غير متزنة في الحجوم والكتل والفراغات، مع سخاء في استغلال الفراغات الداخلية لوظائف مخصصة، ضمن شروط صعبة تفرضها تجهيزات الكهرباء والإلكترون التي تؤمن الانتقال والصعود والتدفئة والتهوية والأمن.
والسؤال اليوم، أين العمارات المعاصرة من عمارات الماضي؟، يقول (جنكيز) “لم يتبق من العمارة إلا رموز الهندسة، لقد رحل هذا الفن إلى أبعد نقطة تفصله عن التاريخ وعن الإنسان”. وهو ينادي بعمارة ما بعد الحداثـةPost Modernism .
إن عمارة الماضي في الهند والمكسيك وفي إيطاليا وفي البلاد العربية وغيرها، مازالت قائمة ترقب بحسرة انهيار مفهومها أمام تجريدية وعبثية العمارة الحديثة، وشيئاً فشيئاًً عاد أنصار الأصالة في كليات العمارة بشن الحرب على الأسلوب الجديد، معبرين عن سخطهم وخيبتهم لمآل الحداثة، وقد وصلت إلى نقطة الصفر؛ كما يقولون(1).
ب) بين العمارة وفن العمارة
ب.1. عند دراسة الفن المعماري الإسلامي، لابد من الاتفاق على المفاهيم الأولى لهذا الفن، وقد يختلط الأمر بين مفهوم العمارة ومفهوم فن العمارة مع أن ثمة اختصاصات جامعية لكل من المفهومين، اختصاص هندسي معماري واختصاص فني معماري. وهكذا نقول عن العمارة إنها طريقة البنيان لخدمة وظيفة اجتماعية محددة كالسكن والعبادة والدراسة والاستطباب والتخليد. وتتطلب هذه الطريقة معرفة بخصائص هذه الوظائف وعلاقتها بالبيئة، ومعرفة بمادة البنيان ومقدرتها على تأدية الوظيفة براحة وأمان، ومعرفة بخطط العمران بجعل العمارة خلية في نسيج المدينة. أما فن العمارة فهو إبداع تكويني وزخرفي يزيد في تشخيص هُوية المبنى ووظيفته، ويتجلى هذا الفن في وجهين، وجه خارجي مرتبط بمشهد المدينة، حيث يبدو المبنى كتلة متناغمة مع الكتل المعمارية، ومرتبط بهوُية المدينة. فالطراز المعماري يحدد سِمة العمران، فهو إما يكون أصيلاً أو دخيلاً تقليدياً أو مبتكراً. ويجهد مصممو المدن في وضع نظام معماري يبقى أساساً في تكوين عمران المدينة، كما هو علامة لنظام الحياة الاجتماعية، وللتضامن المعماري لتكوين علاقات اجتماعية موحدة من خلال وحدة الطراز أو الأسلوب المعماري.
ب . 2 . والوجه الداخلي لفن العمارة يرتبط بمصالح فردية أو عائلية خاصة، ويحقق أهدافاً مباشرة للسكان الذين يتطلعون إلى عالم داخلي يحقق لهم سكينتهم ومتعتهم، ولقد تفردت العمارة الإسلامية بتفضيل العمارة الداخلية على العمارة الخارجية، ولقد أصبح داخل المبنى زاخراً بروائع الزخارف المنتشرة على الجدران والسواكف والأفاريز والأعمدة والنوافذ والأبواب، وفي البرك والفسقيات، وفي الحدائق والأحواض التي تفوح منها رائحة الزهور والياسمين، وتنغرس فيها أشجار الليمون والكباد وعرائش العنب. حتى أصبح المسكن فردوسَ صاحبهِ، وفي الأثر: >جنة الرجل داره<.
ب.3. وينصرف هم المعمار الفنان؛ لتصميم شكل المبنى وشكل عناصره الإنشائية؛ كالأعمدة والأقواس والقباب والقبوات. ولقد تطور فن العمارة مع تطور الحياة الاجتماعية، ومع اختلاف أنظمة المدن الحديثة، وكان لظهور مادة الإسمنت والمعدن والزجاج أثر كبير في تطور العمارة الحديثة التي تسربت إلى عمارتنا، فكان لابد من استعمالها وفق شروط الفكر المعماري التقليدي للحفاظ على الهُوية المعمارية الأصيلة.
ج) لغة و مفردات العمارة الإسلامية
ج.1. لقد نشأت الثقافة المعمارية الإسلامية على أيدي المعمار البسيط، الذي تولى عمليات الإنشاء، والإبداع بشكل تلقائي، يعتمد على حدسه ودربته وانتمائه الاجتماعي والديني، ولم يطلع هذا المعمار الصناع على مراجع ونظريات، بل كانت تجارِبُه وابتكاراته تشكل مدرسة وتقليداً تتبعه الأجيال اللاحقة من المعماريين.
ونشأت عن الممارسات المعمارية لغة معمارية، ومفردات يتناقلها المعماريون، ويتعاملون بها للدلالة على تفاصيل أعمالهم. وكانت هذه المفردات غزيرة ومتنوعة باختلاف المعلمين المعماريين، واختلاف بيئاتهم ولهجاتهم، وهكذا ظهرت مصطلحات ومفردات مختلفة ومتباعدة غير موحدة، ولكنها مباشرة ومعبرة عن مدلولها بمرونة خارقة.
ج.2. ومع انتشار الثقافة والانتقال من اللهجات المتباينة إلى اللغة العربية المشتركة، وهي لغة القرآن الكريم، ظهرت الحاجة إلى توحيد هذه المفردات والمصطلحات، ولقد قامت المجامع اللغوية بجهود لتحقيق هذا الهدف، وكان على معاهد العمارة أن تتبنى هذه المصطلحات الموحدة، مما يساعد على فهم أسرار فن العمارة وعلى توحيد قراءتها، سعياً لتوطيد وحدة الشخصية المعمارية الإسلامية.
د) خصائص الفن المعماري الإسلامي
د.1. على الرغم من الفرق بين العمارة ومفهوم فن العمارة، فإن ثمة خصائص شاملة للفن المعماري الإسلامي تعتمد على المبدإ الهندسي العلمي والمبدإ الفني الإبداعي.
لقد استوفى فن العمارة في مصر والرافدين وفي الهند وفي الغرب حقَّه من الدراسة النظرية، وكانت مراجع تاريخ العمارة زاخرة بالنظريات التي تناولت هذه الفنون المعمارية، والتي درسها الاختصاصيون في العالم، وانتقلت إلينا مترجمة خالية من دراسة تنظيرية تحدد خصائص الفن المعماري الإسلامي، وكان لابد من سد هذا النقص من خلال مجموعة من المعطيات.
د.2. ويجب أن يكون واضحاً أن تحديد الخصائص لم يكن سابقاً لتكون فن العمارة الإسلامية، بل هو استدلال نستخلصه من شواهد هذا الفن المعماري. ولكن خصيصة أساسية كانت وراء هذا الفن حددت سمته واسمه، وهي الخصيصة الدينية التي تجلت في الفكر الجمالي الإسلامي، الذي كون الفنون الإسلامية والعمارة.
د.3. تتجلى علاقة العمارة بالدين الإسلامي من خلال عقيدة التوحيد كأساس عقائدي، ومن خلال التعاليم والمبادئ والتقاليد الإسلامية.
والفكر التوحيدي يقوم على الإيمان بإله واحد مطلق لا شبيه له {ولم يكن له كفواً أحد}، (سورة الإخلاص ، الآية: 4) وهو رب العالمين ورب السماوات والأرض، وبهذا فإنه يختلف عن مفهوم الرب في جميع الأديان والعقائد، حيث يبدو الرب مشخصاً محدداً أو مشبهاً ونسبياً. لقد كان الإطلاق سبباً في البحث المستمر عن أبعاد هذا المطلق، وكان الإيمان ممارسة حضارية تبدو في البحث عن سر المطلق وعن قدراته الهائلة التي تتمثل في الكائنات والطبيعة.
د.4. وكان المسجد أول بيت أسس على التقوى يجمع المؤمنين تحت قبة واحدة خاشعين أمام عظمة الخالق سبحانه، يتدبرون سرّاً وعلانية، التقرب منه علماً ويقيناً. وكان شرط عمارة المسجد يقوم على قواعد الصلاة. وانتقلت شروط الإيمان بالله الملاذ الأجل، إلى أشكال العمارة الأخرى، المدرسة والضريح والقصر والبيت.
د.5. أما بناء المسجد فإن الزركشي(1)، يتحدث بإسهاب عن شروط بنائه، لكي يساعد المصلي على أداء صلاته براحة، وعلى الاستماع إلى الخطيب بيسر. ومن شروطه التي أوردها نذكر:
1. شرط الاتصال بين المصلين وتراص الصفوف.
2. شرط خلو صحن المسجد من الأعمدة التي تقطع صفوف المصلين.
3. شروط تحقيق الاقتداء بعدم وجود حائل يمنع من تلاحق وتتابع صفوف المسلمين.
4. شرط وجود جدار نافذ بين الصحن والحرم.
5. شرط ألا يكون الدخول إلى صحن المسجد مباشراً.
د.6. لعمارة الحمامات شروط لابد من تحقيقها لضمان النظافة والحشمة والبيئة الصحية المواتية، تحدث عنها الكوكباني في (حدائق التمام في الكلام عن الحمام) وهي النظافة والعلاج من بعض الأمراض، وضمان الخدمات عن طريق منبر الإدارة، والمَخْلََع والمخزن وخزائن الأمانات، ويتحدث عن قواعد العمارة برفع مستوى الحمام، وتنظيم مجاري المياه والإكثار من فتحات الإضاءة في القباب.
ويشترط أن يقسم الحمام إلى ثلاثة أقسام. القسم البارد ثم الرطب وثم الساخن المجفف، لكي لا يتأثر المستحمون من تقلبات الجو المفاجئ.
د.7. أما المشافي فلقد حددت شروطها الوقفيات وأوامر المحتسب، ونصت على منهجية التصميم والبناء.
د.8. إضافة إلى الشروط المفروضة المتعلقة بعمارة المباني، هناك شروط تتعلق بالعمران، كان أولها ما وضعه الخليفة عمر بن الخطاب. وأهمها أورده ابن الرامي في كتابه(1)، حيث حدد استعمالات الأراضي وحقوق الارتفاق وحقوق استعمال الطرق. ولقد تناولت المصادر الجَغْرافية وكتب الرحلات شروطاً تتعلق بالتخطيط الحضري، وبخاصة كتاب تاريخ مكة للأزرقي وتاريخ دمشق لابن عساكر، وتاريخ بغداد للخطيب البغدادي، وكتاب المواعظ والاعتبار للمقريزي الذي استوفى التخطيط الحضري الكامل لمدينة القاهرة، كما تضمن الكتاب وصفاً للجوامع والحدائق والزوايا والبيمارستانات والحمامات والخانات، وحدد مواقعها ضمن مخطط القاهرة. ويُعَدُّ كتاب المقريزي أهم مرجع لعلم التخطيط الحضري عامة و لوصف القاهرة خاصة(2).
هـ) المقياس الإنساني
هـ.1. شبه ابن قتيبة الدار بالقميص، فحيث يخاط القميص حسب مقاس صاحبه، كذلك يبنى البيت حسب مقياس ساكنه، وبهذا يُعَدُّ ابن قتيبة أول من تحدث عن المقياس الإنسانيScale Human في العمارة الإسلامية(1).
هـ.2. لقد توضح هذا المقياس بالمقارنة مع المقياس الرياضي الذي قامت عليه العمارة الغربية منذ عهد الإغريق والرومان وحتى الفن المعماري الحديث، والمقياس الرياضي يقوم على الخضوع الكامل للنظامOrder الذي تكوَّن بفعل العلاقات الهندسية الرياضية وبواسطة الأدوات كالمسطرة والفرجار، بينما قامت العمارة الإسلامية على الارتباط العضوي بحاجات الإنسان وظروفه المناخية والاجتماعية، وبعقائده ومثُله، وكانت أداة المعمار ذراعه وكفه وإصبعه وخيطه الذي قاس به المسافات وأقطار الدوائر عند إنشاء الأقواس والقباب والقبوات، وبه صنع الشاقول لكي يحدد استقامة البناء. وكان حدسه، وليس عقله فقط، دليله في تصميم البناء وفي تزيينه وزخرفته، وفي بنائه وتدعيمه.
ولقد ارتبط المعمار ارتباطاً وثيقاً بمصلحة الساكن وحاجاته العائلية والاجتماعية وبطبيعته النفسية، وبقدرته على التفاعل مع البيئة، ولقد أوضح القرآن الكريم مركزية الإنسان في الحياة عامة، وفي بيئته: {وسخَّر لكمُ اللَّيلَ والنَّهار والشمسَ والقمرَ والنجومَ مسخراتٌ بأمره إنَّ في ذلك لآياتٍ لقومٍ يعقلون}.(سورة النحل، الآية:12).
هـ .3. لقد تكون المقياس الإنساني في العمارة الإسلامية منسجماً مع الثوابت المُناخية والتقاليد وروح الحضارة الإسلامية، وليس سهلاً استيراد هذا المقياس وتطبيقه في غير موطنه، وكذلك ليس ممكناً اعتماد المقياس الهندسي الرياضي لتحليل ودراسة فن العمارة الإسلامية. لقد صنع المسكن لكي يكون موطن صاحبه ضمن إطار تاريخه وعقائده، وفي إطار حضارته وثقافته وعقائده الإسلامية.
هـ.4. على أن العمارة الإسلامية إذا قامت على المقياس الإنساني، فإنها لم تكن خالية من المنطق العلمي والبحث الرياضي، لقد أسهم المسلمون في وضع الأسس الرياضية الأساس لإقامة المنشآت والعمارة والعمران، وكان الخُوارزمي أول من أوجد الأعداد ومنازلها، وابتكر الصفر وعلم اللوغاريتم المأخوذ عن اسمه، ووضع الخُوارزمي كتاباً في حساب الجبر والمقابلة، وقدم المعادلات الجبرية الأساس. واستطاع أبو كامل شجاع بن أسلم (مصري، ت: 240 هـ/951م) أن يحل المعادلات ذات المجاهيل الخمسة. وكان من الرياضيين ثابت بن قره الذي اشتغل في الحجوم المكعبة والأشكال المربعة، أما أبناء موسى بن شاكر، فلقد وضعوا مصنفاً عرف باسم (كتاب معرفة مساحة الأشكال) الذي ترجم إلى اللاتينية في كتاب (تعلم الغرب عن بني شاكر)، حل مسألة تقسم الزوايا إلى ثلاثة أقسام.
ولقد تعمق ابن الهيثم بمسائل هندسية صعبة، ومنها إذا قطع مستقيم مستقيمين آخرين، وكان مجموع الزاويتين في نفس الجانب أقل من زاويتين قائمتين، فإن الخطين المستقيمين إذا امتدا إلى ما لا نهاية، سيتلاقيان في الاتجاه المقابل للزاويتين الأقل من القائمتين.
هـ.5. يتجلى المقياس الإنساني الذي قامت عليه العمارة الإسلامية في حماية الإنسان من عوارض الطبيعة والتلوث والضجيج والروائح، ولقد استطاع المعمار الإسلامي أن يطّوع العمارة لتحقيق هذه الحماية.
إن أهم عنصر في المبنى الإسلامي هو الفِناءُ الداخلي، وفي المساجد يسمى الصحن. وهذا الفِناء يشكل القسم المنفتح على السماء مباشرة، وعليه تطل الأبواب والنوافذ في طابَقَين، ولا يدخله تيار خارجي، إذ يصله بالباب الخارجي المطل على الشارع دِلِّيج (دهليز) متعرج، وهكذا فإن الهواء لا يتسرب إلى داخل الفِناء، وكذلك الرياح والدخان والغبار، ولقد أثبتت التجارب أن حركة الهواء العلوية تبقى محوّمة فوق الفناء لا تتمكن من اختراقه إلا إذا كان الدِّليج والباب الخارجي مفتوحين. وهذا يعنى أن الهواء العلوي سواء كان حاراً أو بارداً، نظيفاً أو ملوثاً، فإنه لا يؤثر على حرارة جو الفناء وعلى نقاوته.
هـ.6. لقد روعي في غرف المسكن، كما في حرم المسجد، أن يكون مستوى الأرض فيها أعلى من مستوى أرض الفناء أو الصحن، والسبب أن الهواء البارد أثقل من الهواء الدافئ، ويبقى مستقراً في قعر الفِناء تصده عن دخول الغرف عتبات عالية في أسفل الأبواب، ويبدو هذا النظام أكثر وضوحاً في القاعات التي تعلو أرضها على شكل منصة أو منصتين يعلوان عن مستوى أرض القاعة، فتكون حائلاً ثانياً يمنع تسرب الهواء البارد إلى مستوى أرض المنصة (الطزر).
هـ.7. لقد راعى المعمار استعمال الحجر والآجر والخشب في عمارته بسِماكاتٍ مناسبة لحماية سكان المبنى من البرد والحر خارج المبنى.
هـ.8. وفي جميع المباني كانت المياه وسيلة نظافة وترطيب ومتعة عندما كانت تتدفق من الفوارات والسلسبيل في فسقيات وبرك مختلفة الأشكال. ولقد درس اتجاه المبنى؛ لكي يتفق مع الحاجة إلى دفء الشمس ونورها، ومع ضرورة الوقاية من دخان المطابخ وروائح المراحيض.
هـ .9. تمتاز العمارة الإسلامية بخصيصة أساس تطلق عليها اسم خصيصة (الجَوََّانية)، فأي مبنى سواء أكان مسجداً أم مدرسة أم مسكناً، فإنه يحمل الطابَع الجواني بمعنى أن عمارته الخارجية أقل شأناً من عمارته الداخلية، ونرى ذلك في المساجد الأولى، كالجامع الأموي بدمشق وجامع عقبة في القيروان وجامع قرطبة، كما نراه بشكل شامل في المساكن والقصور. إن خصيصة الجَوّانية هذه تنسجم في المباني الخاصة، مع شاغل المبنى الذي يبحث عن مجال خاص به يستقل فيه عن العالم الخارجي، ولذلك فهو يغني هذا المجال الداخلي بأروع الزخارف والأثاث المعماري، ويهمل الواجهات الخارجية لأسباب كثيرة أبرزها رغبته بعدم التظاهر والتفاخر والمضاهاة.
وتدخل خصيصة الجَوَّانية في نطاق مفهوم المقياس الإنساني
هـ . 10. كان انتشار السيارات واسطة أساسية للانتقال والنقل، سبباً في تعديل النظام العمراني للمدينة الإسلامية، وسبباً في تغيير ملامح العمارة التي أصبحت كتلاً من المنشآت تنهض على حافة الطرق التي أصبحت شِرْيان المدينة الحامل للعلاقات الاجتماعية والاقتصادية في المدينة.
لقد قام التنظيم العمراني الحديث على توزيع المحاضر المستقلة لبناء عمارات مفتوحة الجوانب على الطرقات مباشرة، أو على الحدائق المحيطة، وهكذا تحولت المنشآت من النظام الجَوََّاني إلى النظام البراني الخارجي، وازداد اهتمام المعمار بالواجهات والحدائق الخارجية، وضعف اهتمامه بالعمارة الداخلية، وبعد أن كانت أقسام المسكن تنفتح على الفِناء ذي الهواء النقي المعتدل، أصبحت مفتوحة مباشرة على الهواء الملوث الخارجي، وعلى المؤثرات المُناخية والحرارية وعلى الضجيج، كما أصبحت مكشوفة أمام فضول الجوار، وانتهى عهد حرمة المسكن نهائياً. وبصورة عامة فإن النظام الجديد الذي فرضته السيارة عكس نظام المدينة الحديثة، فبعد أن كانت العمارة أساس تنظيم عمران المدينة، أصبح عمران المدينة يتحكم في شكل المبنى وطبيعته. كما عكس النظام الاجتماعي، فبعد أن كانت تقاليد الأسرة تتحكم في العمارة والعمران، أصبحت تقاليد السيارة هي التي تتحكم في التصميم العمراني والمعماري وفي التقاليد الاجتماعية.
و) تعاليم معمارية وعمرانية إسلامية
و.1. عززت التعاليم والمبادئ والتقاليد الإسلامية هُوية العمارة، ووطدت شخصيتها، وإذا ما أتيح جمعها في دراسة شاملة تكون لدينا الأساس النظري للعمارة الإسلامية، وأول هذه التعاليم صدرت عن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، إذ يأمر والي البصرة والكوفة بالتقيد بأبعاد حددها للشوارع والأزقة ولالتصاق الدور وارتفاعها والتفافها نحو المسجد ودار الإمارة، ولقد قدم الفلاسفة والمفكرون مثل ابن سيناء وابن خلدون وابن قتيبة مبادئ معمارية هامة مشابهة، وكذلك كان دور الفقهاء، فلقد قدم ابن الرامي (ت 376 هـ) في كتابه (الإعلان بأحكام البنيان)(1) قواعد تنظيمية وصحية مهمة، كما توسع في الحديث عن الأخطاء المعمارية وآثارها، مثل خطإ عدم حماية المبنى من الدخان والروائح والضوضاء والشمس، وفرض احترام حرمة الآخرين بعدم الإطلال على الجوار، وعدم إفساح مجال إطلاع المارة على داخل المسكن.
و.2 . خضعت العمارة فناً وهندسة إلى العقيدة الإسلامية مما ميز هُويتها الموحدة على امتداد العصور، ولكن اختلاف العادات واللغات والحضارات في العالم الذي دان بالإسلام من الصين شرقاً إلى المحيط الأطلسي غرباً، أوجد تنوعاً
في الإبداع مع التصاق قوي بالوظيفة. لقد كان الطراز الإغريقي والروماني واحداً في جميع المباني على اختلاف وظائفها، ولكن العمارة الإسلامية تميزت بانسجام الشكل المعماري مع المضمون الوظيفي، وهكذا تختلف عمارة المسجد عن عمارة المدرسة أو المدفن أو المشفى أو البيت، ويبقى من الصعب أن نخطئ في تحديد وظيفة المبنى من خلال شكله المعماري. بل تأتي قيمة المبنى من مدى ملاءمته لوظيفته المحددة، فيكون البيت أكثر كمالاً إذا حقق الوظيفة السكنية من لجوء وسكينة وأمن، وتحدث ابن قتيبة في شروط المسكن سواء كان خيمة أو مبنى، وعدد من البيوت البروج المشيدة بالجص والبيت المجرد المسنم والبيت المعرس أي في وسطه حائط حامل للسقف، وذكر أسماء الغرف بحسب وظائفها، المخدع والكنّة والسقيفة والفِناء وعقر الدار والمشارب أي الغرف، والعّنة أي حظيرة الإبل. والكنيف أي بيت الخلاء، وتحدث عن أهمية مواد البناء لضمان سلامته ومتانته.
و.4. تبقى علاقة العمارة بالبنية العمرانية من أهم الأسس التي قامت عليها نظرية العمارة الإسلامية، وقلما يفصل الجَغْرافيون والرحالة والشعراء في وصفهم العمارة عن البيئة الحضرية التي تقوم عليها هذه العمارة ويقول الشاعر أسعد تبع:
دارُنا الدارُ ما تُرام اهتضاماً نطقتْ بالكرومِ والنَّخلِ
والـزَّرعِ وإن آثارنَا تدل علينا من عدّوِ ودارُنا خيرُ دارِ
وأصنافِ طيّب الأشجارِ فانظروا مِن بعدِنا إلى الآثارِ
ولقد حدد المسعودي(1) شروط الاختيار الجَغْرافي في البيئة البدوية لإقامة المنازل البدوية، فهو يقول: ” الواجب تخير المواضع بحسب أحوالها من الصلاح” كما قام الهمذاني(2) بتحديد شروط البيئة الحضرية للمدن كمدينة صنعاء، واشترط تطويع المباني مع البيئة الحضرية، أي مع العمران المدني، فتحدث عن توجيه المباني باتجاه الريح، وعن زراعة الخضار لتزويد السكان وتلطيف الجو، وعن توفير الماء وتنظيم الري، وعن مواد البناء وتقنياته وتحديد المقاسات والمساحات، كما تحدث عن الخصائص الشكلية للعمارة.
ز) نظام التهوية الطبيعي
ز.1. في كثير من المدن الإسلامية مثل أصفهان ودبي وحلب، كان ثمة نظام للتهوية والترطيب يدخل في أساس التصميم المعماري؛ هو نظام الملقِّف (البادغير)، ويتألف هذا النظام من برج يخترق البناء ويعلو عليه، تنفتح فيه نوافذ مشرفة في الأعلى ويقسمه من الداخل حاجز متصالب قطري. ويستخدم هذا البرج لتلقف الهواء الخارجي الذي ينساب عَبْر البرج إلى الغرف، بعد أن يمر على سطح حوض مائي يحمل منه قدراً من الرطوبة(1).
ز.2. وثمة تهوية بسيطة تقام على حواجز السطوح، وهي فتحات أفقية تقوم أيضا” بتلقف الهواء لكي يستفيد منه الساهرون والنائمون على سطح المبنى.
ز.3. لقد تم اكتشاف نظام للتهوية في بعض المباني الأثرية يتألف من أنابيب تمتد أفقياًً توزع الهواء الخارجي على غرف المبنى. وتبقى النوافذ المشبكة وسيلة شائعة لتلقف الهواء الخارجي.
ز.4. إن نظام الملقف يبقى النظام الأمثل للتهوية والترطيب في المباني الإسلامية التي تقوم في بيئة جافة تميل إلى الحرارة، وهو نظام اقتصادي وصحي ولا بد من العودة إليه في أبنيتنا الحديثة. لا ليكون صيغة معمارية جمالية كما في جبل علي في دبي، بل لكي يؤدي وظيفته الصحية والاقتصادية.
ح) العمارة والزخرفة
ح.1. تبقى الزخرفة من أهم خصائص الفن المعماري الإسلامي. صحيح أن مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو أول منشأة معمارية إسلامية، كان في بدايته شديد البساطة والتقشف، فهو مجرد سقيفة من سعف النخيل تقوم على جذوع النخيل، ولم يكن البناء مزيناً بأي عنصر زخرفي، إلا أن إعادة بناء المسجد بأمر الوليد بن عبد الملك، وفي عهد والي المدينة عمر بن عبد العزيز، قد تم وفق أسس معمارية جديدة حافلة بالزخارف والفسيفساء، على غرار مسجد دمشق. ولقد وصف هذا المسجد العالم الفرنسي (سوفاجيه) ورسم زخارفه في كتابه عن هذا المسجد(1).
ح.2. يقوم فن العمارة الإسلامية على تكوين التصميم حسب تقاليد الهندسة المعمارية الإسلامية، وتبعاً للشروط الوظيفية، كما يقوم على ابتكار الزخارف النباتية والهندسية والخطية الجميلة. ولقد سارت الزخارف قدماً حتى طغت على التصميم، ونرى مراحل ذلك واضحة في جامع قرطبة سواء”بالقسم الذي أنشأه أولاً عبد الرحمن الداخل على غرار المسجد الأقصى في القدس والمسجد الأموي بدمشق. ثم أضيفت لهذا المسجد إضافات غيرت شكله وأغنته، ففي عام (848م) قام عبد الرحمن الثاني بإنشاء زيادة باتجاه العمق بمقدار ست وعشرين متراً. ثم تابع الحكم الثاني بن عبد الرحمن الناصر سنة (965م) إنشاء زيادة في الجنوب استمراراً للزيادة الأولى؛ وعلى امتداد جامع عبد الرحمن الداخل. ومن خلال هذا التسلسل التاريخي والمعماري يتوضح لنا تدرج طغيان الزخارف حتى بدا المحراب في قسم الحكم من أروع المحاريب الإسلامية زخرفة وفخامة، وكانت قباب هذا القسم مفخرة الزخرفة الإسلامية. ثم يضيف الحاجب المنصور الإضافة الثالثة سنة (992م) على امتداد الجامع من جهة الشرق.