قصة قصيرة ..
اثنان في قطار ...
تشتد سرعة القطار وهو يتجه الى المجهول مسرعا الى الامام ، كأنه اطلق من قوسه دون هدف ..والمناظر تشتد سرعتها باتجاه الخلف ..الاصوات تارة تعلو وتارة تخبو ،محرك القطار ..الصقيع ..صوت الرعد يصك الاسماع وهو يدوي بين ثنايا غرفة القطار لينتبه الفتى الشاب الذي يجلس بالقرب من نافذة القطار ..فتى تبدو عليه امارات التوتر والقلق ذو ملامح منبسطة يرتدي ملابس زاهية الالوان كأنه طاووس يتبختر في بستان الطيور وهو ينظر الى النافذة تارة ويمسح يديه بمنديل كان معه طوال الوقت تارة اخرة ..
وميض البرق يخطف الابصار يتوهج يلمع كأنه سيف بتار يوجه ضرباته نحو الغيوم ..يخترق الوميض النافذة ليشق ستار الظلام القابع على وجه الرجل العجوز الجالس بوقار على كرسيه المواجه لكرسي الفتى القريب من النافذة وهو مرتد الزي القديم ..الملامح تبين ..أخاديد بين طيات جبل ..بريق حاد من عينين صارمتين يحدقان نحو المجهول ..تومضان كعيني أسد غاضب في كهف مظلم الفتى يحاول الكلام يتلعثم كأنه على طريق وعر ..تلوذ نظراته بالشيخ تارة وبالنافذة تارة اخرى ..ينتبه الشيخ الى حال الفتى الذي بدا امامه كعصفور :
- مابالك يا فتى ..؟ يجيب الفتى على تساؤل الشيخ بتوتر كأنه جالس على كرسي هزاز
- لاشيء يا جدي ..لا شيء انني هاديء الاترى انني هاديء ،الصوت يرتد اليه من عمق النافذة ،هاديء ..هاديء ..هاديء ..الشيخ يكمل
- لا اعتقد اننا سنواصل طريقنا معا يا بني ..فالليل والنهار لن يتحدا في يوم ما ..يجب ان تفهم هذه الحقيقة ..والفظك كما الفظ انفاسي الاخيرة بجانبك ..
- وانا ..؟ يجيب الفتى وهو منهمك بمسح يده ..كأن قذارة يديه تأبى ان تنمحي
- ستعيش وحيدا ..لم تعد بحاجة لوجودي قربك وستواجه الريح لوحدك ..
وميض البرق يخطف لابصار وهدير الرعد يصك الاسماع ومحرك القطار لازال مسرعا ..دخان السيكارة بيد الفتى ..لحظة صمت يكسرها الحفيد وهو يمسح يديه بتوتر ..
- اللعنة ..اللعنة ..
- مازالت يداك قذرتين ..؟لحظة صمت تصفع الفتى دون ان يجيب بعد ان لاذ بالكلمات فانتبذته ..
- أنا اعرف قذارة يديك ..لقد رأيتك نعم رأيتك ..
- ماذا رأيت ؟ انك تكذب ..قل ان ما تنطق به ليس حقيقة ..هيا قل ..
الاضواء تسطع في ارجاء غرفة القطار ويطول سطوعها لتبين عيون الجد بحدقتين واسعتين وهو يحدق في عيني الفتى وكأنها تريد التهامه ..
- لقد رأيتك وانت تقتل ..لقد رأيتك ..
- لم اقتل صدقني يا جد ..لم اقتل احدا في حياتي أنا ..أنا لا اقوى على وخز بعوضة ..
- ولكنني رأيتك معهم ...رأيتك يعلوك الكبر ..دون ان يرتد طرفك ..لقد قتلتني منذ زمن بعيد ..بعيد جدا ..يتردد الصوت بعيد ..بعيد ..بعيد ..
يشيح الجد بوجهه نحو النافذة ليحدق من جديد نحو المجهول ..
- لا تشح بوجهك عني أرجوك ..أرجوك ..
- انني ارى الحقيقة ..
- أي حقيقة تعني ..
- حقيقة السماء والارض ..تعال وانظر ..الحفيد يدنو من النافذة وهو مرعوب ..مرتعش من فرط التوتر وقد زاد انهماكه بمسح يديه ..الجد يمسح على النافذة بيديه ..كأنه يأمرها بالنطق وهي تضج بالانين .. بألم السنين ..تتسع عينا الحفيد وهي تتصفح النافذة ..أشباح ..فرسان يتقاتلون .رماح وسهام ..وصراخ اطفال وعويل النساء وخيام تلتهمها النيران ..
- ماهذا ..
- انك هناك ..انظر يدنو اكثر اكثر ..
- ...
- هناك انظر ..انك هناك تصوب نحوي ولم تراع شيبي ووقاري ..
الحفيد مصعوقا ..
- لكنني لم اقتل ..لم اقتل ..
- الامر سيان ..لقد كنت معهم ..معهم ...معهم ...الاصوات تتلاطم كأنها بحر هائج الرعد ..الصقيع يكاد يحطم زجاج النافذة الحفيد يحاول ان يستوعب ما يرى اخذ يضم عينيه بكفيه .. يصرخ كلا ..كلا ..كلا ..لم اقتله ..لم اقتل ..لم اقتل ..
الصدى يصك الاسماع ،يغرق الفتى في غيبوبة للحظات ..تخبو الاصوات ..الوميض ينتشله الايادي المجهولة عبر النافذة ..لحظة هدوء يشع فيها الزمن ..الهدوء والصمت الا من محرك القطار وهو يشق طريقه مسرعا نحو المجهول ..فتح عينيه ببطء تلفتت عيناه يمينا وشمالا ..لم ير الجد فأخذ الفتى يصرخ وهو يمسح يديه بشدة لا تتركني ارجوك ..لا تتركني ..لا تتركني الصوت يعود اليه ومحرك القطار لازال يدوي ..